
صنع العرب جزء من التاريخ وكان “الإسلام” رافعتهم الكبرى وسر قوتهم وتفوقهم، وكانوا في قرونهالأولى أهلا لتقديمه للعالم والتبشير به ومن ثم فقد أثرواالحضارات وأخذوا منها وتماهوا معها في صنع تاريخعظيم شهد به حتى الأعداء، ولكنهم تخلفوا حضارياعندما فقدوا معادلة التقدم والرقي وتشتت قواهم حتىوصلوا للشطر الثاني من القرن العشرين وهم ضمنمربع “القابلية لتجزئة المجزأ وتشتيت المشتت” بل وأصبحالوهن لديهم سمة والضعف حالة معلومة، ولكن كيف يمكنقراءة واقع العالم العربي اليوم في ظل نسقية بناء نظامدولي جديد وقبل ذلك ظهور ملامح لأزمة اقتصادية عالميةقائمة أساسا على أزمتي الغذاء والطاقة؟
1- أولا، زادت الأزمة الغذائية العالمية الهائلة بسبب حرباوكرانيا النسيج الاجتماعي الاقتصادي السياسيفي الدول العربية كارثية على كارثيته السابقة، وهنالابد من التذكير بحصول ثلاث مراحل في الحقبةالماضية على مستوى الاقتصاد السياسي العربي:
● المرحلة الأولى: كانت فيها أغلب الدولالعربية وليس كلها طبعا ذات اقتصادموجه، وهو ما يعني أنه كان هناك نوع مناستقلال ذاتي على مستوى الحاجات، لكنرافق ذلك انفجار سكاني غير مسبوق، ومعلوم أنه في ثمانينات وتسعينات القرنالماضي حصل انفجار سكاني عربي غيرمسبوق لم يكن له شبيه في العالم، حتىأكثر من افريقيا ولعل الأمثلة الأكثر وضوحافي تلك المرحلة هي سوريا وتونس ولبنانوالأردن وفي تلك البلدان تحديدا ومنذ بدايةسبعينات القرن الماضي بدأت الفوائضالبشرية تأتيها فوائض مالية منالاستثمارات الخليجية وأيضاً العائداتالآتية من المهاجرين العرب الى مختلفهذه الدول أنا عشت في عدد من الدول مثلالأردن وتونس وسوريا ولبنان، وفي المرحلةالأولى كانت مرحلة الاقتصاد الموجه.
● المرحلة الثانية: كانت مرحلة السيولة للمالالنفطي خارج الأطر المؤسساتية خصوصاً من خلال استيعاب ملايين العمال من مصرومن سوريا ومن غيرها من الدول في الدولالمنتجة للنفط حتى أنه في فترات بعينهاكان عدد العمال العرب في ليبيا يكاديوازي عدد سكان ليبيا، من المصريينخصوصاً والتونسيين وأيضاً من الأفارقة.
● المرحلة الثالثة: وهي تتمثل في لغة إداريةواجتماعية تتلخص في القول بأن هذا لايكفي أي أن الجماهير أصبحت واعيةوتردد – وان بدون توجيه طلائعي–نحن نريدأيضاً أن يتغير نظام الحكم، وهذا مايسمى إجمالاً بمرحلة “الربيع العربي” والتي عرفت تظاهرات في بلدان عدة وكانمن بين شعاراتها السياسية “الشعب يريدإسقاط النظام” بعد أن بدأت بشعراتالكرامة والمطالبة بالتشغيل (في تونسبدأت الاحتجاجات بشعار معبر “الشغلاستحقاق يا عصابة السُراق“، ولكنالثورات المضادة ومصالح القوى الدويةوتمويل اذرعها الوظيفية والاقليمية تحديداانتهت المرحلة/الفاصل بكبت حقيقي بناءعلى ابراز وكأن ليس هناك الا الفشل.
2- ثانيا، فعليا يمكن قراءة ملامح الواقع ومسيرة العقودالأربع أنها كانت حقبة ارهاصات لحقبة جديد معالتماهي مه ظهور جيل عربي ثالث (جيل أول ظهرمع نكبة 1948 وجيل ثان ظهر مع الانتفاضةالفلسطينية والجيل فعليا هو أربع عقود) وذلك معناهأننا أمام مرحلة جديدة في العالم العربي، ولكن ماهي ملامحها، وماهي رهانات المستقبل فيها؟، وطبعاأولى الملامح هو الحس الاجتماعي حيث هناك رغبةفعلية بأن لا يعصر الفقر حياة الفرد، والفقر فيالعالم العربي سيكون غالباً بسبب عدم الاستثمارفي المجالات المنتجة بسبب الانفجار السكانيوبسبب اقفال باب الهجرة نحو اوروبا ونحو الخليج، وطبعا سيزداد الشعور بأنك مسجون وعاجز عنتأمين الحاجات الأساسية ضمن السجن الذي أنتفيه واضافة الى ذلك سيقف الجميع على حقيقةومعطى ان الدولة قد تصبح عاجزة على تقديمالخدمات الأساسية على غرار “الصحة” و“التربية” ومن الواضح أن تقديمها قد اصبح قائماً علىالقطاع الخاص منذ فترة بشكل جزئي ولكنه فعليا لنيتمكن من تقديمها إذا لم يكن هناك دورة اقتصاديةناجحة، وهو ما يعني ان العرب وخاصة في الشرقالأوسط والمنطقة المغاربية سيكونون أمام مطالباتخطيرة حيث ستعجز الدول في المنطقتين على تقديمالخدمات العامة وهو ما يعني أن فرضيات قيامحركات اجتماعية عنيفة في المدن بالمنطقتين أمرامرجحا ان لم يكن ثابتا، وأما ثالث الملامح فهو أنهجرة صامتة هائلة حصلت خلال العقدين الماضيينمن الريف نحو المدن في أغلب الدول العربية وذلكأسباب عدة أولها طبعا أن العمل في الزراعة محدودفي استعماله لليد العاملة وثانياً لأن لا عمل إلا فيالمدينة، وقام على ذلك بشكل شبه آلي انفجارسكاني كبير في المد وطبعا سنقف مستقبلا أكثرفأكثر على أن الشعور بالتهميش والفقر هو أكبر فيالمدن منه في الريف لأن هناك الكثافة السكانيةالكبيرة في مختلف أنحاء العالم العربي، ومن هناكيمكن ترقب أن تكون بعض المدن الهادئة أقل هدوءمستقبلا مع حضور قوي للمضامين ذات الطابعالاجتماعي وبشكل أكثر عنفا وقوة مما كانت عليهأيام “الربيع العربي” الذي كان سياسياً بالأساسرغم بداياته الاجتماعية…
3- ثالثا، يتساءل البعض من أهل علم الاجتماع فيدراساتهم الخاصة بعلم الاجتماع السياسي، هلسنكون أمام نسخة جديدة من “الربيع العربي” يغلبعليها الطابع الاجتماعي؟ وهنا لا شك ولا خلاف فيأنه لا يمكن تغييب أن مركز الثقل العربي انتقل منالدول التقليدية والعواصم التقليدية وهي القاهرةوبغداد ودمشق وبيروت الى الخليج العربي، ورغم انهذا التوصيف/الاستنتاج يبقى نسبيا فان الثابت أندولاً خليجية أصبحت دولاً حيوية لملايين من العربوهو ما يعني أن نفوذها قد أصبح كبيرا وأن تأثيرهاقد تنامى ويتنامى من سنة لأخرى ولعل أدوار الدوحةوأبوظبي بغض النظر عن الموقف من سياسة كلمنهما لا يمكن لبقية الدول العربية الاستغناء عنهماوحتى ان تم اغفال التعامل مع أحدهما فان كل دولةعربية محتاجة احداهما ومن ثم فان مصر وتونسولبنان والعراق والأردن بحاجة للتمويل الخليجي، واللبناني والتونسي والمصري والموريتاني –حاليا– بحاجة الى أن يجد عملاً في قطر أو الامارات، ومنثم فالحاجة للخليج وإلى مال الخليج وإلى استقرارالخليج عند ملايين من العائلات العربية أمر حتمي، ولا يمكن اغفال أن ذلك سيكون وبشكل تصاعديمصدر نفوذ على المصادر التي تراكمت منذ منتصفالتسعينات….
4- رابعا، الحقيقة اتي يغيبها بعض الحكام والمسؤولينالعرب وحتى النخب العربية سواء كانت نقابية اوسياسية أو اهم الفاعلين في المجتمع المدني العربيهي أن الغرب وروسيا والصين لا يهتمون إلابالأسواق والمال، ويمكن الايجاز عبر القول إن العالمالخارجي (قوى دولية – أطراف إقليمية) يهتم بليبياوتونس ولبنان والعراق وموريتانيا ولكنه لا يسأل ابدالا عن الليبيين ولا التونسيين ولا اللبنانيين ولاالعراقيين ولا الموريتانيين وحتى في البلدان التي بهاأزمات تهدد مصالح الغرب والعالم مثل ليبيا فهو يهتمبليبيا وبخيرات ليبيا وبالوصول الى النفط والغازوإلى الهيمنة على السوق الليبية ولكن لا يهتمبالليبيين أو برأي الليبيين، والكارثة ذات المنحىالاستراتيجي أن العرب اصبحوا مستهلكين في كلشيء تقريبا حتى في الأفكار والتوجهات والخياراتولعل المثال الأبرز هنا هو أن الغرب كله اليوم وروسياوالصين مهتمون كثيرا والى درجة قياسية بالخليجونتج عن ذلك سياق عربي مهتم بالخليج والاعتمادعليه في كل شيء حتى أن بعض دول عربية تحولتالنخب فيها الى وكيلة لدى دول خليجية في ظرفسنوات وان ذلك الانتقال للاهتمام بسبب انتقالاهتمام الدول الكبرى نحو الخليج، وهو ما يعني أن هناك أيضاً انتقال عربي يلحق الاميركيين، والثابتأن الاميركيين مهتمون بالسعودية والامارات والكويت، وروسيا أيضاً (نصف النخبة الروسية بعد بدء الحربالاوكرانية هربت إلى دبي)، وطبعا لا يمكن انكار أنهناك لحظة خليجية في السياسة العربية سابقة علىالربيع العربي ثم حرصت دول الخليج على التوقيمن الربيع العربي ودفعت بعضها بلايين الدولاراتلإجهاض الثورات العربية وأعطاها ذلك لاحقا انتكون موقع الملاذ لعدد من النخب العربية، ولكنالثابت أيضا أنها قد تعرف موجات مستقبلية اشدقوة من موجة الربيع العربي ولكن ملامحها غير بينةراهنا…
5- خامسا، الخلاصة أن العرب يدفعون ثمن أخطائهموتخلفهم الحضاري وأن مستقبلهم مفتوح علىخيارات عدة والثابت انهم يمتلكون كوامن النهوضرغم غيوم الراهن والتباسات الماضي وعدم توفرالارادة (أي ارادة التغيير عن الطليعة والنخب وهذهالأخيرة هي نخب خذلت شعوبها واسقطت التلاؤمحتى مع القاعدة السوسيولوجية (Règlesociologique) التي تقول “أنه كلما دخل مجتمع فيأزمة الا واستنجد بنخبته لتجد له الحلول“) …