المؤسسة العسكرية ودورها في وحدة كيان الأمة والدولة

عند حدوث خلل ما في بنية الدولة وفي قاعدتها الاجتماعية أو نزاع حول هويتها السياسية يهدد وجودها , يأتي دور المؤسسة العسكرية كحافظ أخير وحازم , لكيان الأمة ووحدتها وقواعد الدولة ومشروعها السياسي , كما هو كذلك دورها الرئيسي في الحفاظ على وحدة تراب الوطن وسلامة أراضيه , وحماية الدستور والمؤسسات السُلطية الناتجة عنهُوتمكين العملية الديمقراطية والحفاظ على المسار المدني لإدارة الدولة.
فالجيوش تجمع عاملين مهمين , العامل الأول أنها أداة من أدوات السلطة الخشنة القادرة على فرض القانون أمام حالات الفوضى والتمرد , فهي من أركان رأس هرم الدولة ومن أهم قواعد الحكم والسلطة , والعامل الثاني أن بنيتها البشرية من عوام المجتمع وطبقاتهِ المختلفة مما يجعل المؤسسة العسكرية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بقاعدة المجتمعمن الطبقات الفقيرة والوسطى , مما يسمح بتمدد نفوذ المؤسسة العسكرية في العمق الاجتماعي لكيان الدولة , مشكلة حالة من التقاء نخبة القوى كما وصفها عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز مع الشعب , بالإضافة إلى النخبة السياسية والنخبة الاقتصادية لتكتمل حلقات السلطة وأدوات الحكم .
كما أن للمؤسسة العسكرية دور ايدلوجي وطني وقومي مهم يرتبط بالداخل وفق العقيدة العسكرية التي ينتمي لها أبناء المؤسسة من الدفاع عن الوطن وحدودهِ وأمنهِ , وهذا الدور يجعلها في بعض الأحيان لاعب سياسي مهم يعتمد على قدراتهِ الإدارية وهيكلتهِ المنضبطة المنظمة والإنصات التراتبي , فالنخبة العسكرية هي أقلية متميزة تمتلك القوىوالنفوذ وترتبط بقاعدة اجتماعية ذات مجال واسع , وهي إحدى افرازات المجتمع الهامة مثلها مثل باقي المؤسسات الأخرى , كما أنها تعتمد في تطور كيانها على سلوك الأفكار الجمعية للمجتمع ومدى تطورهِ , فكلما كان المجتمع أكثر تقدمًا كانت الدولة ومؤسساتها أكثر ديمقراطية وذات طابع شفاف يرسم الحدود الفاصلة بين السلطات , إلاَّ أنَّ ظاهرة أو مفهوم النخبة العسكرية الحاكمة يرتبط ارتباطًامباشرًا بحالات الفوضى المجتمعية والسياسية , التي تقوض سلطة الدولة لصالح سلطة الفوضى , وهذا الأمر يُتيح للمؤسسة العسكرية المجال لتمدد سلطتها عبر استخدام نفوذ القوى لكي تحفظ الوطن وتنهي حالة النزاع وتفرض حالة الهدنة والسلام وهذا جزء من مهامها الأصيلة وفق التشريع الذي يرسم دور المؤسسة .
ودائمًا ما تتداخل الحالة الاجتماعية العامة في التأثير الفكري على نخبة القوى , فعندما تحكم وهيمن الاقطاع مما سبب خللاً وتفاوتًا طبقيًّا حادًا , أثرت بعض الأفكار اليسارية في أوروبا الشرقية على العمق القاعدي للمجتمع مما انعكس تأثيرهُ على نخبة القوى , وأنتجت مفهوم النخبةالعسكرية الحاكمة لقمع الاقطاع وهذا ما نادى بهِ لينين , ولكن في كثير من الأحوال ما تتحول تلقائيًا نخبة القوى لشكل من أشكال الاقطاع عبر السيطرة والنفوذ , وهذا الخلل الذي حدث في نظام ستالين مما جعل نظرية لينين لا تمتلك مقاربات الواقع , وبتالي يجب حفظ أهمية المؤسسة العسكرية ودورها الأصيل كحامي للوطن ومحتكر وحيد للقوى , ولكن في ظل نظام ديمقراطي يكفل العدالة السياسية والاقتصادية , مما يسمح بتطور أدوات ومؤسسات الحكم وقاعدة المجتمع , وهذا يعود بالإيجاب على مركز النخبة العسكرية في تأثيرها السياسي والمجتمعي فكما قال ميكافيلي الجيش للدولة كالسقف للقصر يحمي مابداخله .
ولعل بناء الدولة الوطنية الليبية عام 1951 على أيدي الملك الراحل ادريس السنوسي , كانت أولى ركائزهِ هي بناء الجيش الليبي في ذلك الوقت وتطور عبر مراحل مختلفة , إلاَّ أن ظهور مفهوم الشعب المسلح في حقبة سابقة أثَّرَبالسلب على كيان المؤسسة العسكرية , ولعل الحالة الليبية ما بعد عام 2011 قد مرت بمسارات مختلفة كان أسوئها انتشار السلاح الغير المنظم الذي صاحبتهُ فصول دامية ومحزنة من الحروب الأهلية المختلفة وفوضى سياسية عارمة , ولكن اليوم بدأت تتشكل حلقة واسعة من المقاربات وتشكيل رؤية وطنية موحدة , ولعل أهمها المجهودات التي تصب في توحيد بنية وكيان المؤسسة العسكرية الليبية من مختلف جغرافية الوطن , مما يعود بالوحدة الاجتماعية للبناء القاعدي للمجتمع , ويعود بتمدد حالة الاستقرار والسلم الأهلي وبسط نفوذ الدولة .
سراج دغمان