تونسرأي

تونس : في تحريف معنى القائد الاعلى للقوات المسلّحة

د.خالد شوكات

دعت لجنة الاعتمادات في الكونغرس الأميركي مؤخرا الإدارة الأميركية لمواصلة صرف المساعدات المخصصة لتونس ضمن برنامج الدعم والتمويل العسكري الخارجي لسنة 2022، غير أن اللجنة اشترطت على الادارة اعداد تقرير خلال أجل لا يتجاوز 45 يوما للتحقق من حصول التجاوزات التالية من عدمها، وفقا للضوابط المتعارف عليها دوليا في تقييم آداء الجيوش في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية:
– أوّلاً: ما إذا كان الجيش التونسي قد شارك أو ساند في عملية تراجع الديمقراطية في تونس،
– ثانيا: ما اذا كانت السلطات التونسية قد استخدمت أو اعتمدت على الجيش لتعزيز خطواتها الاستبدادية. أما النقطة الثالثة والاخيرة فذات صبغة عامة، وهي ما اذا كانت السلطات التونسية بصدد اتخاذ خطوات ذات مصداقية لإعادة النظام الدستوري والعودة الى العمل وفقا للصيغ والاحكام الديمقراطية، خصوصا ما يتصل بضمان حرية التعبير، والصحافة، والجمعيات، وحقوق نشطاء الأحزاب السياسية. وحتى تتم عملية صرف الاعتمادات المذكورة فإن التقرير مطالب باثبات جملة من الأمور في مقدمتها :
– عدم تورط الجيش في احداث 25 جويلية 2021 من قبيل اغلاق طرقات و اغلاق مؤسسات سيادية كالبرلمان والقصبة وغيرهما. – عدم تسخير اليات عسكرية للقيام بغلق البرلمان و منع العملية الديمقراطية.
– عدم استغلال المحاكم العسكرية لمحاكمة الخصوم السياسيين من المدنيين و الاعلاميين و النشطاء السياسيين والحزبيين.
– عدم استعمال السلطات صور الجيش و الاسلحة و الاجتماعات و الاستعراضات العسكرية من اجل ترسيخ القوة العامة وتسخيرها في ارهاب المواطنين وتخويفهم وتثبيت الخطوات الاستبدادية اللاحقة.
التعليق: واقع الأمر أن أسئلة لجنة الكونغرس على معقوليتها، وهي مستمدة بالأساس من خبرة الديمقراطيات العريقة والمستقرة في ضبط العلاقة بين المؤسسات السياسية والمؤسسة العسكرية في الأنظمة الديمقراطية، تجرّنا الى اعادة طرح السؤال الكبير الذي كان على واضعي دستور 2014 الانتباه إليه، والاحتياط في الإجابة عنه، خصوصا في ظل مرحلة انتقالية تتسم بهشاشة الفكر الديمقراطي وضعف المرجعية الاخلاقية للنخب السياسية، الحزبية وغير الحزبية، وهو المتعلق بمفهوم “القائد الاعلى للقوات المسلحة” الذي جرى تثبيته دستوريا كإحدى الصلاحيات الاساسية لرئيس الجمهورية.
إن الانقلاب الدستوري والسياسي الذي قاده الرئيس سعيّد بوضوح منذ 25 جويلية الماضي، كان نتاجا عمليا لعملية انحراف اكبر في تأويل هذه الوظيفة الدستورية المسندة إليه والمتمثلة في كونه القائد الاعلى للقوات المسلحة، حيث لم يخف الرجل منذ أيامه الاولى في قصر قرطاج في فرض مفهوم اقرب الى الأنظمة الشمولية منه الى الأنظمة الديمقراطية في تفسير القيادة العليا للقوات المسلحة وممارستها.
وقد بدت مظاهر هذا الانحراف بارزة في مستويين أساسيين، الاول يتعلق بشموليتها فهي برأي سعيّد لا تتوقف عند القوات العسكرية، بل تضم كافة القوات الحاملة للسلاح وذات الصلة بها، في إشارة الى القوات الأمنية والمدنية العاملة في وزارة الداخلية، والثاني أن القيادة العليا تتجاوز البعد العسكري والامني المباشر، الى ابعاد اخرى تطال الصراعات السياسية والحربية والفكرية والمؤسساتية، وهذا شذوذ لا تأتيه إلا الأنظمة ذات النزوع الاستبدادي، تلك التي تقحم الجيوش والقوات المسلحة في معاركها الداخلية ولتصفية حسابات لا صلة لها بوظائفها التقليدية.
إن مراجعة سيرة رئيس الجمهورية طيلة العامين الماضيين، ستفضي دون مواربة الى الوقوف عند هذه الرغبة في تطويع الجيش لخدمة اجندات سياسية، والاعتماد عليه لتحقيق التوازن ثم الفوز في خلافات الرئيس مع القوى السياسية والحزبية، ومن ذلك حرصه لأول مرة منذ تأسيس الجيش الوطني سنة 1958، على إلقاء خطب ذات طابع سياسي من داخل الثكنات العسكرية، والحرص على اعلان قرارات تتعلق بالحياة العامة وهو محاط بكبار ضباط المؤسسة العسكرية والقيادات الأمنية، بكل ما يحمله ذلك من دلالات اتصالية لا تتفق مع قواعد الحياة الديمقراطية، وهو تمشّ غريب لم يقم به حتى الرئيس زين العابدين بن علي، وهو في الأصل احد أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية، ناهيك عن باقي الرؤساء الذين عملوا جميعا بالمفهوم الضيق للقيادة العليا للقوات المسلحة في مقابل هذا المفهوم الشمولي الذي تبناه سعيّد.
ولعل هذه النقطة لا تكشف فقط عن إمكانية انحراف لدى النخب السياسية التي ستتولى رئاسة الجمهورية في المستقبل، بل عن نقطة ضعف في العقيدة العسكرية للجيش الوطني لا بد من تداركها في مناهج التدريس العسكري، تجعل من قيادته قابلة لهذا التأويل المنحرف لمفهوم القيادة العليا للقوات المسلحة، ومستعدة – بوعي او بدونه- الى الانخراط في الصراعات السياسية التي لطالما كانت بعيدة عنها، وهو ما جعل الجيش التونسي احد مفاخر الوطن، يشار الى وطنيته ومهنيته ونأيه بنفسه عن معارك المدنيين السياسية والأيديولوجية، في العالم بأسره، ولو لا هذه الخاصية لما استمر الانتقال الديمقراطي في تونس ولما صمد في وجه اعاصير العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق