بورتريهتونس

“محمد صالح الهرماسي”،طاقة ابداع فكري وشُعلة للنضال الوطني والقومي

غيَّب من طرف كهنة المعبد الثقافي والإعلامي في تونس حيا وميتا

علي اللافي – كاتب ومحلل سياسي

 

غيَّب الموت يوم السبت الماضي (10 جويلية/يوليو 2021)،المفكر التونسي الكبير “محمد صالح الهرماسي”، وهو مناضل سياسيمعروف عربيا ودوليا بدفاعه عن قضايا العروبة والإسلام وعن وحدة المغرب العربي الكبير وعن قضاياه، ورغم أنه لم يحض بأي متابعة إعلامية تونسية لا حيا ولا ميتا، الا أن ذلك لم يغيب شهرته الكبيرة والتي تجاوزت المشرق العربي لتكون شهرة عالمية فهو مفكر معروف وكتبه منشورة في كل البلدان العربية وخاصة المشرقية منها وهي متداولة في مراكز البحوث العالمية وبين الطلاب العرب – وهي أكثر من أن تحصى أو تعد- خاصة وأن “أبو سليم” عضو سابق في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو أيضا معروف لدى الفلسطينيين والروس والصينيين واسمه متداول ومحبذ لدى كبرى الصحف العربية، فمن هو التونسي الذي اثار انتباه العديد من الساسة العرب والأجانب، ولماذا غيب وسيغيب في تونس؟ وما هي مؤلفاته وآثاره وأفكاره ومواقفه وابداعاته الفكرية والثقافية وما هي أهم أطور حياته ونضاله؟

 

** “محمد صالح الهرماسي”: العلم عربيا وعالميا والمُغيَّب تونسيا 

 

  • لا أحد تقريبا في دمشقلا يعرف القامة الفكرية والتنظيرية “محمد صالح الهرماسي” وهناك يلقبونه بابي سليم حتى أنهم حجزوا له مقعدا في القيادة القويمة منذ سنة 1980 وحتى 2017 مكلفا بالمغرب العربي خاصة وانه كتب حوله منظرا حول تاريخه وهويته الحضارية، ومحمد صالح هو اصيل القصرين مثله مثل قريبيه “عبدالباقي” (عالم الاجتماع ووزير الثقافة الأسبق)) و”عبداللطيف” (القيادي اليساري) وهما من أعلام العائلة الذين عرفتهم الساحة السياسية التونسية منذ نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، ولكن محمد صالح اختار السباحة ضد التيار واختار الرحاب الأكبر أي الامة العربية وقضاياها فكان قريبا من حافظ الأسد ورفاقه في حزب البعث – جناح سوريا- واختار قضايا الفكر والفلسفة العربية مثلما اختار ان يكون سياسيا يتابع أوضاع الامة واقطارها جميعا فعرفته كل من دمشق وبيروت محاضرا مثلما تم استقباله في منتديات ومراكز عالمية عديدة…

 

3-الراحل “محمد صالح الهرماسي” لا يمن لا يعرفه ولا يتابعه هو من مواليد “فريانة” (ولاية القصرين) سنة 1937، ولقد درس في الجامعة اللبنانية ببيروت في أوائل الستينيات من القرن العشرين، حيث تخرج منها بشهادة الليسانس في التاريخ، ثم عاد إلى تونس في أواسط الستينيات، وظل يدرس في المعهد الثانوي بصفاقس لغاية 1972، وكان عضوا قياديا لحزب البعث العربي الاشتراكي في تونس (فرع سوريا)، ومارس النشاط النقابي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل.

  • في سنة 1980 حضر المؤتمر القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عُقد بدمشق، في ظل قيادة الرئيس الراحل “حافظ الأسد”، وحصل يومها على المرتبة الثانية بعد الرئيس حافظ الأسد في الانتخابات، حيث أصبح عضوا في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكيحتى 2017، ومنذ بداية الثمانينات عاش مع عائلته في حي المالكي بدمشق، إلى أن وافته المنية السبت الماضي (10 جويلية/يوليو الجاري)، ولقد كتب الدكتور توفيق المديني صديقه ورفيقه في النضال متحدثا عن وفاته “لقد خسرت الأمة العربية، و الشعب التونسي مناضلا قوميا كبيرا، ظل ملتزما ووفيا لثوابت المشروع القومي العربي، في تحرير كامل فلسطين، والإيمان بتحقيق الوحدة العربية…ودائما ما يقول لي أنا وإياك يا توفيق «مرضى بفلسطين”…

 

  • حتى نفهمأسبابتغييب مثل هذا العلم التونسي والعربي وجب التأكيد انه في تونس بالذات واليوم تحديدابل منذبداية عقد السبعينات من القرن الماضي وأيضا طيلة 23 سنة من حكم الرئيس المخلوع،فان كهنة المعبد الثقافي والإعلامي قد اشتغلوا على تغييب كل من يمت بصلة للعروبة والإسلام فكريا وفلسفيا وهو أمر ينطبق على محمد صالح الهرماسي والذي قل ان تجد خبرا عنه او حوارا ولو خاطفا معه في اليوميات أو الاسبوعيات التونسية فما بالك بقنواتنا السمعية والبصرية الا من رحم ربي وأنت لا يمكن مثلا أن تراه في برامج على غرار “قهوة عربي” او غيرها من البرامج التي تُعرّف بالقامات أو الطاقات وكأنهم لم يسمعوا لا بـــ”مسعود الشابي” ولا بــــــــــــــــ”محمد صالح الهرماسي” ولا بـــــــ”محي الدين القليبي” ولا بـــــــــــ”الرويسي” ولا ب”محمد  العجيلي” ولا “محمد الكنايسي” ولا “البشير الصيد” ولا بــــــــــــــــ”المسطاري بن سعيد” ( توفي في دمشق منذ سنوات) أو بــــــــــــــــ”عمار السوفي” و”توفيق المديني” و”عمر الماجري” أو بآخرين ممن اصطفوا فكريا وثقافيا مع تيار الهوية بكل ابعاده الوطنية والعربية والإسلامية وهم بالعشرات ولكنهم غيبوهم مثلما غيبوا الشيخ “عبدالعزيز الثعالبي” و الشهيد “صالح بن يوسف”، فهل هي الرقابة الذاتية أو هي غرف كهنة المعبد سواء في تونس مباشرة او في بغض غرف في عاصمتين واحدة اوربية وأخرى خليجية…

** “محمد صالح الهرماسي”، آثاره ومؤلفاته

1-للراحل“محمد صالح الهرماسي”، صولات وجولات في رحاب المعرفة والجدل وفي مربعات قضايا فلسطين والأمة العربية والمغرب العربي تحديدا فهو محاور بارع وقارئ مطلع على كل ادبيات الفلسفة السياسية العربية والغربية وأيضا في تاريخ العرب والشعوب وهو مناضل حزبي منضبط ومحبوب لدى كل رفاقه في حزب البعث حتى أنه حصل على المرتبة الثانية في قيادة الحزب قوميا بعد أن تزعم قيادته تونسيا خلال عقدي الستينات والسبعينات خاصة وانه قاد الجناح السوري صحبة “الطاهر عبدالله” و”مختار العرباوي” وآخرين مقابل آخرين اختاروا جناح القيادة الموالية لبعث العراق يومها على غرار “مسعود الشابي” و”عبدالرزاق الكيلاني” ( غير عميد المحامين السابق)…

 

  • اختار الراحل قضايا الأمة ووحدتها مربعا لاهتمامته الفكرية والسياسية كما اتخذ الحوار سبيلا فحاول أكثر من مرة توحيد التيار القومي في تونس ولما فشلت تلك المحاولات ومحاولة آخرين اختار الممكن فعليا رغم كل اهتماماته القومية فدافع عن مجموعة التنظيم السري (مجموعة وانصار التيار القومي الديمقراطي)ثم ساند بعض قوميين عرب انتموا لحزب الوحدة الشعبية خلال حقبة المخلوع ودعم بعد الثورة الكثير من الأحزاب على غرار حزب “عروبة وتنمية” ولكن خلافات المؤسسين وانقساماتهم جعله يساند تأسيس حزب ثوابت (بقيادة قريبه”شكري الهرماسي”) و”حركة النضال الوطني” ( بقيادة أحمد الكحلاوي وآخرين)

 

  • كان “محمد صالح الهرماسي” من المؤمنين بالتقاء التيارين القومي والإسلامي على قاعدة انهما جناح الامة والتي لا يمكن لها حسب رايه ان تحلق الا بهما ودعم وساند فكرة “المؤتمر القومي الإسلامي” وحضر بعض جلساتهوالتقى قيادات التيار الإسلامي في كل البدان العربية وخاصة المغاربية، كما ساند حزب الله في كل معاركه الفكرية والسياسية -وهو ما أكده بنفسه في محاضرة له في لقاءات منتدى الجاحظ في باردو سنة 2008 -كما كان صديقا للأستاذ راشد غنوشي والتقى معه أكثر من مرة واستضافه في دمشق وقرب بينه وبين السوريين…

 

  • في بداية الألفية الحالية عرض عليه سياسي معروف فكرة دعم لوجستي لحزبه لإسقاط “بن علي” بدعم من طرف غربي، الا أن “الهرماسي” استشاط غضبا وتوتر بشكل كبير ورد على مقابله بالقول أنا يا هذا أعرف أن “بن علي” عميل للدوائر الصهيونية أما أن اتعامل مع طرف خارجي لإسقاطه فلا وألف لا …، والحقيقة أن ذلك الأمر وتر الرجل وكان له يومها مضاعفات على وضعه الصحي، ومن يومها قطع كل علاقاته بذلك السياسي لفترة طويلة وبعض الروايات تؤكد أنه لم يتواصل معه منذ تلك الحادثة وحتى بعض الثورة بقيت العلاقة متوترة بين الرجلين…

 

 

  • في تونس مارس “محمد صالح الهرماسي” التكتيك بناء على تقلص الهوامش لأي فعل سياسي جدي، وهو يؤكد أنه قد أخطأ في التقدير في أكثر من مناسبة، وقد رفض سنة 1988 أن يكون سفيرا كما رفض تأسيس حزب تكون مهمته التصدي للتيار الإسلامي ورغم مساندته الظرفية للاتحاد الديمقراطي الوحدوي (بقيادة “عبد الرحمان التليلي”) فانه آمن فعليا أن “بن علي” كارثة على تونس ولكته التقاه أكثر من مرة بحثا منه على الهوامش ولكنه لم يتنازل له في القضايا المبدئية حيث رفض المحاكمات السياسية وخاصة الحملة ضد التيار الإسلامي بل ربط بين النهضة والنظام السوري في منتصف التسعينات، والثابت أن الرجل له وعليه مثل غيره من السياسيين بل هي سنة بشرية ولكنه في الأخير من بين رجال استثنائيين…

 

  • في أحد كتبه الأخيرة عمَّق “الهرماسي” رؤيته للفكرة القومية العربية عبر التأكيد أن “القومية العربية الهادفة إلى الوحدة العربية في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والثقافة باتت ضرورية وأكثر إلحاحاً من أي وقت مضى في ظلّ التكتلات الدولية الهائلة التي نرى صورها وأهدافها ماثلة في صيغ كثيرة منها: الاتحاد الأوروبي، ودول (البريكس)، والفرنكوفونية، ودول الكومنولث، وتكتلات دول أمريكا الجنوبية، ودول شرق آسيا، وبعض الدول الإفريقية بعدما كانت كل دولة من دول هذه المنظومات والتكتلات الدولية تعدّ نفسها قوّة بحالها وانفرادها وأهدافها. (من كتابه “الحركة القومية العربية بين التراجع والنهوض” صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب سنة 2018)..

 

  • ردَّ الدكتور “الهرماسي”منتصف العقد الأول من الالفية الحالية،ردا مُفحما على كتاب المرحوم “محمد الشرفي”،أي كتاب “الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي”، وقد تناقل كل المتهمين بالموضوع رده وأعجبوا بطريقته في الرد والمحاججة لأنه كان ردا منهجيا وعلميا عبر الحجة والدليل وقد نُشر الرد على صفحات يومية “الشروق” التونسية – وقد قيل يومها أن المخلوع “بن علي” دعم نشره بناء على ظهور تناقضات بينه وبين الشرفي في تلك الفترة- …

 

  • للراحل “محمد صالح الهرماسي” مُؤلفات ودراسات عدة اغلبها منشور وبعضها الآخر لم ينشر بعد، ومن أهمها على مستوى الكتب والمؤلفات المنشورة:
  • تونس: عروبة متجذرة وامل متجدد” (صدر سنة 2012)
  • “رسالة مفتوحة الى مثقفي أوروبا” (صدر سنة 2011)
  • المغرب العربي المعاصر: مقاربة في اشكالية الهوية” (وهو أكثر الكتب انتشارا في العالم العربي وقد طبعة أكثر من سبع مرات وطبعته أكثر من دار نشر عربية)
  • تونس: الحركة العمالية في نظام التبعية والحزب الواحد (1956-1986)
  • العبور للمستقبل في إعادة بناء الفكر القومي
  • الواقع العربي والتحديات الكبرى
  • الحركة القومية العربية بين التراجع والنهوض

 

  • يمكن تلخيص مواقفه وافكاره في رؤيتين من خلال كتابين:

 

  • في كتابه “رسالة مفتوحة الى مثقفي أوروبا”،يتحدث عن أمل، ولا يجزم أن تحققه مؤكد، لأن حدوث ذلك حسب رايه مثل يتطلب التغيير النوعي والكبير في الثقافة الغربية يحتاج الى وقت طويل كما الى جهد تراكمي من مثقفي الغرب الأحرار، وإلى جهد مماثل من المثقفين العرب والمسلمين أيضاً؛ ذلك أن دور المثقف العربي والإسلامي يقوم حسب “الهرماسي” على توعية نظيره الغربي بحقيقة ما يجري في المنطقة، وبخطأ المسلمات التي رسختها الدعاية الامبريالية الصهيونية في العقل الغربي ما زال محدوداً وقليل الفاعلية. ثم إن هذا المثقف لم ينجح بعد في مخاطبة الغرب بلغته وبخطاب عقلاني وموضوعي بعيد عن التعصّب وردة الفعل. ومن هنا ضرورة التأكيد على أن يتحمل المثقفون العرب مسؤوليتهم كاملة في هذا المجال، قبل مطالبة ثقافة الآخر بذلك..

 

  • في كتابه «العبور إلى المستقبل» ( أكتوبر 2006) يرصد وهو الباحث المتمرس طيلة اكثر من ثلاث عقود، الممارسة السياسية العربية بمختلف اتجاهاتها، والتي هي أحوَج ما تكون إلى تعميق أساسها النظري، فإذا بها تهمل هذا الأساس وتستبدل المصلحة بالمبدأ أو المعلومة بالفكرة، وإذا بها – حسب رأيه- توظّف الفكر في خدمة السياسة من خلال تحوّله إلى أيديولوجيا تبريرية، حتى أن بعض الأحزاب والحركات القومية لم تجد خلال عقود من الزمن، رغم التحولات العميقة في الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، ضرورة في تطوير منطلقاتها الفكرية التي عفا عليها الزمن وتجاوزها الواقع، مكتفية بوظيفتها الجديدة: وظيفة التبرير الأيديولوجي للممارسة السياسية السلطوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق