
صحيح أن المشهد السياسي والحزبي التونسي في السنوات التي تلت ثورة الشعب متقلّب ويشهد متغيرات كثيرة ومتسارعة وصحيح أن إدارة الإختلاف بالحوار والتوافقات والمرور عبر صناديق الإقتراع الحرة والديمقراطيّة قد ساهم في تكريس بعض معالم الديمقراطية المباشرة والتشاركية، ولكن بعض “الأمراض الوراثيّة” لازالت تنخر المشهد..
التناقر الإيديولوجي الذي يبلغ حدّ التنافي والدعوات إلى الإقصاء والإستئصال عناوين وشعارات ليست بالجديدة، فهي نفسها التي كانت تردّدها نفس رموز النخبة التونسيّة في الجامعات وفي الساحات النقابيّة قبل نحو ثلاث عقود من الآن، تنافر كاد أن يعصف بالتجربة التونسية برمّتها سنة 2013 ولكنّ بعضا من الحكمة والجنوح إلى النزعة التشاركيّة وإدارة الإختلاف بالأسلوب الأكثر تحضرا متمثلا في الحوار قد أنقذت المسار.
“التوافق” بديلا عن الإستقطاب الثنائي
عبر حوار وطني دام أشهرا إثر إنسداد في الأفق أمام الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي سنة 2013، تمكّنت تونس من تجاوز خطر الإستقطاب الثنائي على قاعدة “علماني/ إسلامي”، توافقات نالت بموجبها البلاد جائزة نوبل للسلام سنة 2015 وكرّست الحوار والتشارك في إدارة دفّة البلاد بعد نتائج صناديق تشريعيات نهاية سنة 2014.
بعد تجربة دامت ثلاث سنوات في السلطة بالشراكة مع حزبين آخرين (أحدهما ليبرالي والآخر إشتراكي)، غادرت حركة النهضة دفّة الحكم طوعا لأجل البحث عن توافقات تنقذ المسار الإنتقالي المهدّد بالسقوط سنة 2013، حركة أكّدت النهضة حينها على لسان رئيسها راشد الغنوشي أنها تأتي على إثر قراءات وتقييمات للتجربة من جهة، وضمن مسار تكريس التوافق كإستراتيجيّة بديلا عن التنافي.
في الأربع سنوات التي تلت صائفة صعبة سنة 2013 تمكّنت تونس من شق خطوات مهمّة نحو القطع مع الإستقطاب الثنائي على قاعدة “علماني/إسلامي” كان التوافق بين حركتي النهضة ونداء تونس بعد إنتخابات نهاية سنة 2014 أكبر مشهد معبّر عنه.
ظلّت الجبهة الشعبيّة تراوح مكانها وتكرّر نسخ مواقفها نفسها، دون مراجعات جديّة وخطوات إلى الأمام لتجاوز العزلة التي فرضتها على نفسها بسبب طبيعة مواقفها وبياناتها الإقصائيّة، لتعرّف نفسها على الدوام “نقيضا للنهضة” أو ضدّا لها
جمود الجبهة الشعبية
على عكس أغلب التيارات الأخرى من إسلاميين ولبراليين، عجز أكبر إئتلاف يساري في المشهد التونسي متمثّلا في الجبهة الشعبيّة في مغادرة مربع التنافي والإقصاء الإيديولوجي وفي إستيعاب قواعد ونواميس الزمن الديمقراطي الذي دشنته ثورة الشعب وعمّده الدستور الجديد للبلاد الأكثر ديمقراطية في الوطن العربي.
بشكل لافت، ظلّت الجبهة الشعبيّة تراوح مكانها وتكرّر نسخ مواقفها نفسها، دون مراجعات جديّة وخطوات إلى الأمام لتجاوز العزلة التي فرضتها على نفسها بسبب طبيعة مواقفها وبياناتها الإقصائيّة، لتعرّف نفسها على الدوام “نقيضا للنهضة” أو ضدّا لها، تعريف قد يمكن فهمه على أن حركة النهضة قد باتت الرقم الصعب في المشهد السياسي والحزبي، ولكن يمكن تفسيره أيضا على أنّه عجز كبير من طرف الجبهة على التعايش مع أبسط قواعد ومبادئ الديمقراطية.
عادت الجبهة الشعبية لتعريف نفسها بـ”ضديد النهضة” في محاولة واضحة لإخفاء التصدّع الداخلي بين مكوناتها على خلفيّة التقييم الأخير من جهة ولتسويق نفسها للإنتخابات القادمة عبر محاولة إستدراج حركة النهضة للردّ على إتّهاماتها
ضريبة إنتخابيّة
بسبب جمودها وعدم القدرة على إجراء مراجعات عميقة وجديّة دفعت الجبهة الشعبية ضريبة إنتخابيّة باهضة الثمن وتساهم في عزل نفسها شيئا فشيئا لا فقط عن بقية مكونات المشهد ولكن عن محيطها الإجتماعي وبيئتها الإجتماعيّة أيضا وهوما كشفته بشكل جلي وواضح الإنتخابات البلديّة التي شهدتها البلاد في شهر ماي من سنة 2018 الجارية.
كشفت الإنتخابات البلديّة الأخيرة على أن الجبهة الشعبيّة غير متواجدة في نحو نصف المناطق البلديّة من خلال عدد قائماتها المترشحة وكشفت نتائج الإنتخابات عن حجم وحضور ضعيف لها شعبيا وإنتخابيا، نتائج كانت منتظرة بالنسبة لكثير من المحللين والمتابعين للساحة السياسية التونسيّة بسبب خيارات الجبهة وخطها السياسي بالأساس.
مباشرة بعد ظهور نتائج الإنتخابات البلديّة الأخيرة شكّلت الجبهة الشعبيّة لجنة للتقييم داخليا لآداء قيادتها السياسي ولمشاركتها الإنتخابية التي أفرزت نتائج ضعيفة، تقرير أعاد إلى الواجهة الصراعات الداخليّة صلب قيادة الجبهة وعاد تبادل الإتهامات بين قيادييها الذي يرى بعضهم في تصريحات لإذاعات وصحف محليّة أن سبب الفشل متعلّق أساسا بضعف الآداء الإتصالي وعدم تطوير خطاب الناطق الرسمي حمة الهمامي فيما يقول آخرون أن المنتقدين لآداء الهمامي يريدون السطو على الجبهة الشعبية.
بسبب جمودها وعدم القدرة على إجراء مراجعات عميقة وجديّة دفعت الجبهة الشعبية ضريبة إنتخابيّة باهضة الثمن وتساهم في عزل نفسها شيئا فشيئا
العودة للمربع الأوّل
قبل أشهر من الإستحقاق الإنتخابي التشريعي والرئاسي المنتظر في نهاية سنة 2019، عادت الجبهة الشعبيّة لإصدار البيانات وإطلاق التصريحات وعقد الندوات الموجّهة أساسا لإتّهام حركة النهضة بالتسبب في الأزمة السياسية الحالية وبالتسبب في الأزمة الإقتصاديّة والإجتماعية، وحتى بالوقوف وراء الإغتيالات السياسية، تماما كما فعلت في صائفة سنة 2013 وفي سنة 2014.
عادت الجبهة الشعبية لتعريف نفسها بـ”ضديد النهضة” في محاولة واضحة لإخفاء التصدّع الداخلي بين مكوناتها على خلفيّة التقييم الأخير من جهة ولتسويق نفسها للإنتخابات القادمة عبر محاولة إستدراج حركة النهضة للردّ على إتّهاماتها.
يثبت يوما بعديوم أن وجود حركة النهضة في المشهد بصفة عامة وفي مشهد الحكم والسلطة بصفة خاصّة هو في نفس الوقت سبب وجود الجبهة الشعبية كإئتلاف يساري لم يكن ليوجد لولا هزيمة إنتخابات 2011 بسبب التشرذم وفي الوقت ذاته سبب لتكريس عزلتها وجمودها بعد عجزها عن تعريف نفسها ببرامج ومواقف أخرى غير تلك الموجّهة ضدّ النهضة.
توفيق البكّاري
المصدر: مجلة ميم 2018/10/10