
لم تكن النتائج الجزئية الأوّلية للانتخابات البلدية مفاجئة، وإن لم تخل من أسرار ورسائل. فبصرف النظر عن أرقام استطلاعات الرأي المختلفة، كانت أغلب الأوساط السياسية والإعلامية تتوقّع منذ مدّة تقدّما للنهضة وتراجعا لنداء تونس. ولم يكن خافيا أنّ ذلك كان من أهمّ أسباب تأخير موعد الانتخابات والتلكّؤ في مسار الحكم المحلّي. جاءت النتائج عاكسة تقريبا لخارطة تقديم الترشّحات. ولن تُغيّر النتائج على ما يبدو التوازنات الحزبية وهندسة المشهد السياسي، خاصة بعد تأكيد حركة النهضة على تمسّكها بمخرجات انتخابات 2014 وخيار التوافق. وأهمّ ما حصل تغيّر في ترتيب الحزبين الرئيسيين، مع مؤشرات في بقيّة المشهد. فلماذا تأخّر النداء وتقدّمت النهضة؟ وكيف نقرأ بقيّة المشهد؟
لماذا تأخّر النداء؟
تشقّق حزب حركة نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية، قبل أن يعقد مؤتمره الأوّل، وتفرّق رصيده الانتخابي بين شظايا أحزابه والمتمرّدين عليه، وبدا تراجعه مفهوما. لكن الحزب مع ما عاشه من ظروف صعبة جدّا، صمد وحلّ ثانيا في بلديات 2018 وحافظ على التوازن مع حزب حركة النهضة الحائز على المرتبة الثانية في انتخابات 2014، والمرتبة الأولى في بلديات 2018. ومن المؤكد أنّ النداء سيستخلص الدروس ويتوقّف طويلا عند نتائجه في هذه المحطة، بعد صدمة ألمانيا في الانتخابات التشريعية الجزئية، إذا أراد الاستعداد الجيّد لاستحقاق التشريعية والرئاسية أواخر السنة الموالية 2019.
وليس خافيا على المتابعين أنّ النداء إضافة إلى ما عاشه من أوضاع داخلية، فقد دفع فاتورة أخطاء سياسية تراكمت في الفترة الأخيرة. ولعلّ من أهمّ تلك الأخطاء موقفه السلبي من مسار العدالة الانتقالية ومروره القوي بالبرلمان إلى تصويت فاقد لأيّة فاعلية أو شرعية قانونية أو سياسية ضدّ التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة. إضافة إلى بعض انتداباته المستفزّة للرأي العام الكاره لرموز منظومة حكم بن علي، ومحاولات بعضهم استعادة خطاب استقطابي باسم المشروع “الحداثي والإصلاحي” ضدّ ما يسمّونه مشروع “الإسلام السياسي”. فقد فشل سيناريو تكرار ما نجح سابقا في وضع تغيّر كلّيا. كما ذكّرت علاقة النداء بالإدارة وبعض أساليب حملته الانتخابية التونسيين، بصور نمطية مرفوضة للحزب الحاكم المنحلّ. وتلك حقائق نسوقها دون تحامل، ولا نرى أيّة جدوى في إنكارها أو تجاهلها في مراجعات النداء لأخطائه.
لماذا تقدّمت النهضة؟
تقدّمت حركة النهضة وأحرزت فوزا مستحقّا في بلديات 2018 يحاول البعض عبثا سرقته منها، تحت عناوين مختلفة وبتلبيس واضح على النتائج المعلنة. فقد زرعت النهضة وحصدت خيرا. فلم يعد خافيا أنّ مُخرجات المؤتمر العاشر (2016) في التخصّص والانفتاح، وندوة الإطارات (2017) التي أكدت الخيار، كانت استباقا من حركة النهضة لتقييم مسارها وتجديد رؤيتها الفكرية وتطوير خطابها وسياساتها من أجل “نهضة جديدة” قادرة على منافسة جدّية في الاستحقاقات الانتخابية.
كما أنّ إيمانها بالحكم المحلّي المنصوص عليه بالباب السابع من الدستور الذي أسهمت بقوّة في تأسيسه، وإصرارها على إنجاح المسار الديمقراطي لتونس، وقناعتها بأنّ الانتخابات المحلية خطوة حاسمة في ترسيخ المواطنة والديمقراطية، كانت عناصر دافعة للنهضة للاستعداد المبكّر لهذا الاستحقاق داخليا، وتقديم التنازلات في سبيل بلوغه وطنيا.
حافظ المشهد الحزبي على ملامحه العامة، كاشفا الفجوة بين حزبي النهضة والنداء المتقدّمين بفارق شاسع عن بقية الأحزاب. وكان التصويت إليهما تصويتا مجدّدا للتوازن الحزبي ولسياسة التوافق التي يفرضها النظام الانتخابي نفسه
لذلك كانت النهضة الطرف الأكثر جاهزية للتنافس، وهو الأمر الذي بدل أن تُشكر عليه، صار مجلبة للتخويف منها وتحميلها مسؤولية “انتكاسة” المسار في حالة فوزها. وتلك أيضا من تداعيات إسقاط بعض النخب التونسية لسيناريوهات دول عربية مختلفة عنّا جوهريا في المسار والسياق والتعاطي.
حافظت النهضة على نسبة المصوّتين لها، وحسّنت النسبة في عدد المقاعد. ولا قيمة لتراجع عدد ناخبيها في ظلّ تراجع نسبة المشاركة العامة في انتخابات محلية لأول مرة، وفي ظلّ مزاح عام سلبيّ، بسبب الصعوبات المختلفة، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية، التي تمرّ بها البلاد، إضافة إلى المشاكل الأخرى المتصلة بالوضع التربوي والصحي واستفحال الجريمة ومظاهر الاستعصاء عن الحكم وغيرها. وحقّقت النهضة مكاسب نوعيّة في هذه البلديات قد تكون لها آثار أفضل فيما يليها من انتخابات إذا أحسنت متابعتها واستثمارها. إذ كانت للشروط القانونية الموضوعية في إشراك النساء والشباب خاصة، وللقرار الذاتي بالانفتاح على الكفاءات المستقلة في نصف قائماتها، آثارا واضحة في تغيير الصورة النمطية عن النهضة وتحسين مقبوليتها وتوسيع شرائحها الانتخابية وتقدّمها في أغلب المدن الكبرى التونسية، وكسبها النتائج في مواقع غير تقليدية لها. وكان التجديد للنهضة من جديد بعد تجربة صعبة في الحكم في ظروف انتقالية استثنائية.
حافظت النهضة على نسبة المصوّتين لها، وحسّنت النسبة في عدد المقاعد. ولا قيمة لتراجع عدد ناخبيها في ظلّ تراجع نسبة المشاركة العامة في انتخابات محلية لأول مرة، وفي ظلّ مزاح عام سلبيّ، بسبب الصعوبات المختلفة، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية، التي تمرّ بها البلاد
وكيف بقيّة المشهد؟
حافظ المشهد الحزبي على ملامحه العامة، كاشفا الفجوة بين حزبي النهضة والنداء المتقدّمين بفارق شاسع عن بقية الأحزاب. وكان التصويت إليهما تصويتا مجدّدا للتوازن الحزبي ولسياسة التوافق التي يفرضها النظام الانتخابي نفسه. وأكّدت النتائج بعد مرحلة الترشّحات، الحاجة الأكيدة إلى مراجعة الخريطة الحزبية التي لم تعد تتّسع لهذا العدد المعلن على الأوراق فقط، ولهذه المشاركة التي لا تعكس منافسة جدية. وكان من اللافت الصعود المتنامي لحزب التيار الديمقراطي، الذي شارك بعدد محدود من القائمات (69) وحقق نتائج مشجّعة.
وفي المقابل اختفت عناوين حزبية أخرى أو حصدت نتائج ضعيفة جدّا لحملتها التي ارتكزت على مهاجمة حزبي النهضة والنداء. وكانت المفاجأة الأهمّ في عدد القائمات المستقلة المشاركة وفي حصول بعضها على نتائج باهرة في بعض الدوائر البلدية، بما يبعث برسائل هامة للمشهد الوطني عموما، وبما يعزّز الأمل وقد يشجّع على مشاركة أرفع في الاستحقاقات التشريعية والرئاسية لسنة 2019.
وحقّ لنا التفاؤل:
أشّرت بلديات 2018 على أنّ المشهد السياسي التونسي بدأ يتعافى من خطابات الاستقطاب والاستئصال والتخويف من “الخارج”، ويتّجه أكثر إلى “الداخل” وإلى اختبار البرامج ومصداقية الخطابات والشخصيات. فبلديات 2018 التي تنقل المحليات من النيابات الخصوصية “المؤقتة” إلى المجالس البلدية “المنتخبة”، سترسّخ أكثر فأكثر خيارات التعايش والتوافق والتعاون، في مجالس ستكون متنوعة بالضرورة، وستعمل بمبادئ التشاركية والشفافية وتحت مراقبة الناخبين والمتابعين.