
استقلت ليبيا سنة 1951 بعد خروج الإيطاليين من الغرب الليبي، وخاصة بعد أن استطاع الملك الراحل (إدريس السنوسي) توحيد كل من برقة وفزان وطرابلس في ديسمبر 1952م، وقد أدار الملك البلد دستوريا وباقتدار في إطار تعددية سياسية فريدة، قبل أن يُنفذ “الملازم/ العقيد ( معمر القذافي) انقلاباً عسكرياً في 1 سبتمبر/ أيلول 1969، تمكّن به من إطاحة الحكم الملكي والتأسيس لحكم فردي شمولي سماه بـــ”الجماهيري”، حيث أقصى فيه كل العائلات السياسية وقمعها ونكل بالجمعات والتنظيمات الإسلامية عبر التوظيف والاختراق طوراً، وعبر التغييب القسري والسجون والمعتقلات الرهيبة طوراً ثانياً، رغم حوارات مساعديه منتصف العقد الماضي مع عدد من قيادات الإسلاميين، أما بعد سقوط نظام العقيد فقد تطور وجود الإسلاميين وتعددت تنظيماتهم وأحزابهم وأذرعهم السياسية والاجتماعية والعسكرية في ظل صراعات فرقاء فبراير وعودة السبتمبريين (أنصار القذافي)، وتنظيماتهم المتعددة والمتناحرة سياسياً بعد 2015…
فما هي مختلف نلك الجماعات والتنظيمات والأحزاب ؟، وكيف تطور مسارها التاريخي، وما هي آفاقها المستقبلية في ظل التطورات الدراماتيكية إقليميا ودوليا وقرب حسم الازمة الليبية سياسيا عبر عقد المؤتمر الوطني الجامع والذهاب الى انتخابات تنهي الازمة المتفجرة بين أطراف الصراع مند ضائقة 2014؟
عندما تم توحيد ليبيا في ديسمبر 1952م، كانت الصوفية تغلب على المجتمع الليبي طوال قرون وعقود خلت ولكن الخلفية والبرامج السياسية كانا غائبان في تسيير الدولة ودواليبها منذ ثلاثيات القرن الماضي بينما كانت حاضرة في أنشطة المجتمع الثقافية والاقتصادية بل وجدت الحظوة والقبول….
أما جماعة الإخوان المسلمين فقدت ظهرت منذ نهاية الأربعينات حيث استطاع ثلاث شبان مصريين وهم : “عزالدين إبراهيم” و”محمود يونس الشربيني” و”جلال الدين إبراهيم سعده” وقد قبل الملك السنوسي طلب لجوئهم إليه من مطاردة الحكومة المصرية، بل ونشطوا في نشر فكر الجماعة في ليبيا، وفي استقطاب الطلاب الليبيين، قبل أن يساعدهم رئيس الديوان الملكي، عمر الكيخيا، في تأسيس “هيئة الدعوة الإسلامية” في العام نفسه مما مكن الإخوان من مواصلة نشاطهم حتى 1954، عندما أصدر الملك السنوسي مرسوماً يحظر نشاط الجماعة ولم توضح الوثائق والكتابات الأسباب الحقيقة لذلك…[1]
وفي نفس الفترة تقريباً نشطت مجموعات وافدة من خارج ليبيا، تنتمي لجماعة التبليغ والدعوة، بعقد محاضرات ودروس تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أنشطتها توقفت منذ الثمانيات إثر انقلاب القذافي، على الرغم من أنها لم تشتغل بالسياسة….
2- عهد القذافي: القمع والنفي وسياسة الترهيب والتوظيف :
تم تصفية حزب التحرير وإعدام العشرات من مُناضليه وشبانه وهرب بعض أعضائه الى مصر وأوروبا وأمريكا…
اعتقلَ عدداً من قيادات “الإخوان المسلمين”، ونكّل بهم في سجونه، بدءاً من 1973م، فيما عرفت بــ “الثورة الثقافية”، ليضطرهم للإعلان عن حل الجماعة، لكن نشاط الجماعة عاد، نهاية العقد، برجوع طلاب ليبيين كثيرين، يدرسون في الخارج، كانت أعداد كبيرة منهم قد انتظموا في الجماعة في الخارج. ومن خلال أعمالٍ خيرية ودعوية، استقطبوا مزيداً من أبناء الأسر المتوسطة، وظهر نشاطهم بشكل أكبر في جامعة بنغازي القريبة من القبائل الشرقية، المعارضة لحكم القذافي، والتي لا تزال تحتفظ بالولاء للأسرة السنوسية. ونفذ القذافي حملات اعتقالٍ واسعةٍ في صفوف ابناء الجماعة، ليصعّد من أعماله القمعية، بموجة اغتيالات وإعدامات في ساحات الجامعات، ولا سيما جامعة بنغازي، تحت مسمى “الثورة الطلابية”، ليعود نشاط الجماعة إلى السّرية، وغيب في السجون أبرز دعاتهم، عبد الكريم الجهاني من برقة، وعمرو النامي من طرابلس، وبموازاة جماعة الإخوان التي لم تكن تنتهج العمل المسلح ضمن نشاطها ظهرت بداية التسعينات حركة التجمع الإسلامي ….[2]
قمع الإخوان وحزب التحرير لم ينه وجود التيار الإسلامي حيث ظهرت جماعات أخرى عديدة، قريبة من فكر الإخوان خاصة وناشطة في العمل الدعوي، البعيد عن السلاح على غرار جماعة (الدعوة والتبليغ) التي نشطت شرق ليبيا في الثمانينيات، ونالها، هي الأخرى، ما نال “الإخوان”، فقد اعتقل أبرز رجالها (محمد بوسدرة) في البيضاء عام 1989….
قمع التدين والخصومة السياسية الكبيرة مع أنظمة الخليج والتهكم على السنة النبوية وقتل الشيخ محمد البشتي، ترك وفسح المجال لنشأة وتطور الجماعات السلفية وجعل عدداً من الشباب الليبي يعتنقون أفكار المذهب الوهابي، ولكن سرعان ما طاولهم أيضاً قمع نظام القذافي إلا أن وتيرة انتشار الأفكار السلفية ازدادت بين الشباب عبر الأشرطة المسجلة والكتيبات التي يُؤتى بها سراً من الخارج، من دون أن يكون لهذه الحركة زعيم ومرجع رسمي[3]، وقد تواجدت عمليا كل مدارس السلفية في ليبيا ( المدخلية الجامية – السرورية – العلمية – الجهادية) …
أدى القمع الذي لقيته الجماعات والتنظيمات الإسلامية وشباب الصحوة الإسلامية لدى مناصريها والكثيرين من معتنقيها، الرغبة في الانتقام والبحث عن سبيل لإسقاط النظام، فنظم بعض دعاة الفكر الجهادي دعواتٍ للخروج عليه والبحث عن أساليب لإسقاطه فتم ابتكار نظرية “الخيمة والعمود” فتم تشكيل بعض خلايا عبر معسكرات تدريب في الخارج على غرار:
قبل أسابيع من ثورة فبراير 2011م قامت “الجماعة المقاتلة الليبية” في أوروبا بتقييم مسارها التاريخي وبدراسة الوضع السياسي في ليبيا ودراسة الوضع الإقليمي والدولي، وقد تزامن ذلك التقييم مع نجاح الثورتين التونسية والمصرية ( 14 جانفي 2011 بالنسبة للأولى و25 جانفي/ يناير 2011 للثانية)، حيث تم تأسيس “الحركة الإسلامية للتغيير”، والتي أعلنت تبني الخيار الديمقراطي المدني كمنهج للتغيير السياسي وأصدرت بيانا سياسيا يوم 15 فيفري 2011 ، ولتكون لاحقاً أهم الأطراف في انتصار ثورة فبراير 2011م….
شاركت أغلب الحركات الإسلامية الليبية في دعم ثورة فبراير 2011، بل شارك بعضها عبر أنصاره وأعضائه في القتال ضد كتائب نظام معمر القذافي، وحافظ بعضها على سلميته مع انتهاء الثورة، واتجه بعضها إلى تكوين أحزاب سياسية، خاضت غمار أول تجربة ديمقراطية، إبّان انتخابات المؤتمر الوطني العام عام 2012:
بُعيد ظهور التجاذبات السياسية داخل “المؤتمر الوطني”، ارتبطت الأحزاب السياسية في البلاد بكتائب مسلحة، كانت قد دعمتها بالسلاح والمال، إبّان العمل المسلح للثورة عام 2011، فقد ارتبط حزب العدالة والبناء بــ”لواء الدروع” الموزّع على أكثر من مدينة في ليبيا، أبرزها بنغازي ومصراته، وهو من أقوى الألوية العسكرية في البلاد. وارتبطت بعض مجموعات الجماعة المقاتلة بكتائب عدة في طرابلس وبنغازي، لتدخل، بعد تصاعد المواقف السياسية الذي انتهى بالإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية الثانية، نهاية يوليو/تموز 2014، لتنتج الخلافات حول النتائج انطلاق عملية فجر ليبيا منذ أغسطس/ آب من العام نفسه عدة أشهر. وخلال اشتداد القتال في بنغازي، وجد اللواء المتقاعد (خليفة حفتر) الذي ظهر على رأس عملية عسكرية أطلق عليها مسمى “عملية الكرامة” في مايو/ أيار 2014، في هرب أغلب أعضاء البرلمان إلى طبرق، متكأً سياسياً لشرعنة عمليته العسكرية، ولينتهي المشهد إلى انقسام سياسي في البلاد، بعودة “المؤتمر الوطني العام” إلى الواجهة السياسية في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، داعماً عملية “فجر ليبيا”، ومعلناً، بعد عودته بأيام، عن حكومة إنقاذ وطني والتي قادها القيادي (عمر الحاسي)، ثم عوضه خليفة لغويل، وهما قياديان إسلاميان …
5- واقع وراهن التيارات “الجهادية” في ليبيا اليوم :
فسيفساء التيارات الجهادية في ليبيا كما أوضحنا أعلاه معقدة ومتشابكة ومتطورة ومتحولة وأغلب مكوناتها ترى في الوصول إلى حل سياسي مع مكونات حكومة طبرق أو في تشكيل حكومة جديدة تباشر عملها من طرابلس ضربا لأجنداتها السياسية والميدانية:
والخلاصة : أن كل هذه التنظيمات لا تتحكم في مصيرها وأجنداتها وأنها مجرد أداة توظيفية وأنها مخترقة في مؤسساتها القيادية، ويمكن أن يقع توجيهها لاحقا لعدد من الأهداف سواء لإفشال الحوار والتوافقات أو لإرباك أي حكومة قادمة أو لخدمة أجندات وأهداف خارج ليبيا يُرتب لها مستقبلا من طرق قوى إقليمية ودولية …[6]
والخلاصة : أن التنظيمات الجهادية الليبية من غير المجموعات الموالية لداعش، لن تكون ضد تكوين حكومة ليبية جديدة بناء على تعديل اتفاق الصخيرات بدون أن تساندها سياسياً بالنسبة للبعض (القراءة هنا هي قراءة شرعية وفكرية)…. [9]
يتكوّن التيار المدخلي في ليبيا أساساً من بعض العناصر الذين يرفضون ظاهرا الاشتغال بالسياسة، و عملياً ليس بين عناصر هذا التيار ارتباطات تنظيمية ظاهرة للعيان كما لا توجد له زعامة موحدة بل زعامات كثيرة متنوعة يتقارب بعضها ويجتمعون في بعض المسائل، ويحصل بينهم افتراق واختلاف أحياناُ، وقد يصل إلى حد القطيعة، وإنما يجمع عناصر هذا التيار تشابه المنهج في التعامل مع المخالف ومحاولة احتكار التسمي بالسنة والسلفية وتضليل بقية التيارات ولهذا التيار موقف متشدد من العمل السياسي والحزبية والانتخابات والتقارب مع الآخرين، كما أنه مُغال في ما يسمى طاعة ولي الأمر….
ت- 2011-2014: التيار المدخلي وتطور المواقف والاصطفافات :
بعد انتصار ثورة فبراير، ومقتل العقيد معمر القذافي، وهروب نجله الساعدي إلى النيجر، خرج أتباع الحركة السلفية عموماً للعلن، وساهموا بشكل فاعل في العمل الإغاثي الاجتماعي، إلا أنهم لم يُساهموا في العمل السياسي، بل نظروا إلى انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012 على أنها “بدعة لا يجوز الخوض فيها”.[10]
وقبل الانتخابات، قام أتباع المدخلي في ليبيا، بهدم تراث الصوفية في ليبيا وحرق أدبيات الإخوان المسلمين. كما شكلوا دوريات ضد الرذيلة التي ركزت على مكافحة تهريب المخدرات، واستهلاك الكحول، وغيرها من الأنشطة التي تعتبر غير إسلامية، وتجسد ذلك بشكل بارز في قوة الردع الخاصة لكارة والجماعات المرتبطة بها. ومع اندلاع الصراع بين تياري الكرامة والفجر في صيف 2014م، انضمت جماعات المداخلة المسلحة للفصائل المتحاربة…
ثم لاحقاً وأثناء زيارة رئيس الوزراء السابق علي زيدان للمملكة العربية السعودية طلب من شيوخ المداخلة والسلفية بها إصدار فتوى تحض أتباعهم في ليبيا على المساهمة في انتخابات مجلس النواب الليبي التي أجريت في الخامس والعشرين من جوان 2014، ومن ثم صدرت فتوى على موقع الشيخ ربيع المدخلي بأنه على الليبيين المشاركة في الانتخابات لاختيار نُوابهم، وفهم السلفيون الرسالة، وشاركوا في عمليات الاقتراع بكافة المدن والقرى المُتواجدين بها، وبالتالي بدأت مواقفهم تتطور وفقا لاصطفاف المملكة العربية السعودية إقليمياً والتي أصبحت ضمن إطار المحور الإماراتي/المصري…. [11]
ث- 2014-2017 : الدور الحاسم للمداخلة في الشرق الليبي:
بدأت أدوار المداخلة في الشرق الليبي منذ نهاية سنة 2012 عبر تشابك الأدوار، وتقاطع لأدوار أجهزة مخابرات إقليمية في بنغازي بالذات باعتبارها المدينة المفتاح لحسم الصراعات في ليبيا منذ العقود الأولى للقرن العشرين، وفي الفترة التي سبقت عملية الكرامة بقيادة (حفتر)، أزالت أجهزة الاستخبارات في الشرق الليبي، العديد من السلفيين المداخلة من قوائم المراقبة التي كانت موضوعة في عهد القذافي، بل وبدأت بإشراكهم بنشاط في المعركة ضد التنظيمات الإرهابية في بنغازي، ولكن البعض من المتابعين يعتقد أنهم – أي المداخلة- قد وظفُوا ذلك بان صفوا العديد من خصومهم داخل التيار الإسلامي بل وضيقوا عليهم، وأخذوا منهم مساحات فعلهم وأنشطتهم…
ولا يختلف اثنان أن تغيراً آخر قد طرأ على أتباع المدخلي في ليبيا، بعد إعلان اللواء المتقاعد (خليفة حفتر) حركته الانقلابية البيضاء في السادس عشر من ماي 2014، إذ أيدوا حفتر خلافاً لمنهجهم القائم على عدم الخروج على ولي الأمر، الذي كان وقتها المؤتمر الوطني العام، مدفوعين بفتاوى أتت من المملكة العربية السعودية مفادها أن المؤتمر الوطني العام انتهت صلاحيته وولايته في السابع عشر من فيفري 2014 وذلك تماهياً مع حركة لا للتمديد التي ظهرت بعد هذا التاريخ رافضة استمرار المؤتمر الوطني العام وداعية إلى مرحلة انتقالية ثالثة على رأسها مجلس للنواب، وهي جوهر وفكرة حزب تحالف القوى الوطنية بزعامة (محمود جبريل)….[12]
كما انتشرت بمدن الشرق الليبي أيضاً مكتبات لأتباع المنهج المدخلي السلفي تبيع في كتب ذات طبعات فاخرة سعودية ولبنانية بأسعار رخيصة بخلاف ما هو معروف عن أسعار هذه الكتب في ليبيا خاصة تلك الكتب التي تنتقد أتباع الحركات الإسلامية الأخرى، كالإخوان والسلفية الجهادية، مما جعل مُراقبون يقولون بأن هذه المكتبات ممولة من أطراف بعينها في المملكة العربية السعودية…
أما في درنة فقد اشتدت حرب التصفيات والانتقام بين المداخلة والجهاديين طيلة سنتي 2014 و2015، حيث تعرضت محال تجارية أصحابها من أتباع “المدخلية”، إلى عمليات تفجير من طرف الجهاديين بسبب ما قيل من أن المداخلة منضمون في العمليات القتالية العسكرية التي يشنها (حفتر) على بنغازي يومها، ومشاركتهم في تحقيقات أمنية مع أتباع السلفية الجهادية من درنة…
وعملياً خسر (حفتر) وأنصاره جزء من الهلال النفطي في مارس 2017 م مباشرة بعد أن نبهت السلطات السعودية على المدخلي بعدم التدخل في الشأن الليبي يومها، وهو ما يعني أن المداخلة قد انسحبوا، ولم يحاربوا يومها، وأنهم كانوا القوة النافذة بعد أسابيع في استرداد ما افتك من (حفتر) قبل ذلك ..
بغض النظر عن التجاذبات وصعوبة المهمة التي تقوم بها اليوم البعثة الأممية بقيادة (غسان سلامة) أو بعض الوسطاء ( دول مصر والجزائر وليبيا وتونس وبعض قيادات الإسلاميين العرب على غرار رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي)، يضاف إلى ذلك تعقد تفاصيل المشهد الليبي ومفرداته العديدة والمتعددة في أفق نهاية السنة الحالية، فإنه يمكن التأكيد على أن نجاح الحوار الليبي أمر محسوم خلال اشغال المؤتمر الوطني المرتقب، بينما سيكون تشكيل الحكومة الليبية حتى بعد الانتخابات سيعرف صعوبات عدة ومزالق عديدة وتحديات كبرى وعوائق لا تحصى ستسعى أطراف عدة إقليمية وربما دولية إضافة إلى أطراف في الداخل الليبي، إلى العمل على توسيعها وتضخيمها، حيث أن تلك الأطراف ستلعب كل ما بقي لها من أوراق لإفساد المشهد الجديد وخلط الأوراق و إعادة الأمور للنقطة الصفر، أو ربما أعقد مما كان عليه الوضع في أوت 2014 …
ولكن من الأكيد أيضاً أن تطورات المشهد الإقليمي وطبيعة الموقع الجغرا – سياسي لليبيا وقربها ومن السواحل الأوربية وطبيعة التحديات الاقتصادية في دول الجوار الليبي ستدفع الجميع خلال الأيام والأسابيع القادمة نحو الدفع لإنجاح الحل السياسي وإجراء انتخابات تغلق باب الصراعات الميدانية والعسكرية…
ورغم ذلك ستعرف ليبيا تحديات جسيمة على مستوى الترتيبات الأمنية وبناء و قيادة المؤسسات السياسية والعسكرية وترتيبات الحدود مع الدول المجاورة والعمل على إنهاء الصراع الممتد أكثر من ثلاث سنوات بين “التبو” و”الطوارق”…
ولكن أمل الشركات العابرة للقارات في الاستثمار في ليبيا ورغبة عديد العواصم الكبرى في إعادة النشاط لسفاراتها في طرابلس من أجل الظفر بعقود لكبرى شركاتها في بلد قد يصبح لاحقا وبسرعة كبيرة دبي2 باعتبار امتداده الجغرافي وثرواته الباطنية الرهيبة و طول شواطئه الساحلية وقلة عدد سكانه إضافة للصحراء الممتدة نحو وسط القارة الإفريقية (دول الساحل والصحراء) …
وفي الأخير فان مستقبل ليبيا في أفق نهاية السنة الحالية سيكون واعداً من أجل عودة الوئام بين الأخوة الليبيين حتى يتمنوا من إجراء مصالحة شاملة وعادلة تدفن آلام الماضي، وتوقي الصعاب عبر تشكيل الحكومة الجديدة تنهي المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات ديمقراطية وشفافة تقنع الجميع في الداخل والخارج وتكون منطلقاً لإعادة بناء المؤسسات الدستورية وحتى يهنأ الليبيون كل الليبيين بغض النظر عن أحزابهم وقبائلهم ومدنهم وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية والسياسية…
ولكن ما يمكن التأكيد عليه أن ليبيا قد تعرف الصعوبات والعراقيل والتغذية لها، ولكنها ستنجح في الأخير لأن عدم نجاحها يعني الانزلاق الى ما هو غير متوقع ليس في ليبيا فقط بل في كل دول الجوار، كما أن النجاح المرحلي والبدء في المرحلة الانتقالية الأخيرة التي نرجو أن تكون الأخيرة لا يعني عدم تجدد الخلافات لاحقاً وان بشكل جزئي ولكن المهم هو النجاح المرحلي لأن الخلافات والصراعات بعدها ستكون بيد صاحب السلطة الاصلية، وهو الشعب الليبي، وهو شعب يدل تاريخه الطويل أنه شعب وطني وصبور وفريد من نوعه ….
– إن صعود ما يُسمى بالمداخلة، ولا سيَما في المؤسسات الأمنية والدينية والادارية، كان أحد نتائج الصراع المتفاقم في ليبيا والتدخل الإقليمي، وإن اضطر الفاعلون الأمنيون في “طرابلس” و”مصراتة” و”بنغازي” و”البيضاء” يعترفون جميعا بتسخير قوة الجماعات السلفية المقاتلة في حملاتهم ضد الخصوم السياسيين وخاصة ضد داعش ومثيلاتها من التنظيمات الإرهابية، ولكنهم يجهلون الآثار لذلك على مستقبل ليبيا وبالتالي فلابد من إعادة النظر وتقييم مسارات تواجدهم وتوظيفهم إدارياً وأمنياً وعسكرياً ودينياً بناء على قاعدة الولاء لليبيا أولاً وأخيراً…
-على عكس مدن الشرق الليبي وخصوصياته فإن الحضور الكمي والسياسي للمداخلة سيكون ضعيفا في الغرب الليبي نظرا لسيطرة فعلية لــــ:
التيارات الليبرالية (على غرار جمعيات أهلية قريبة من تحالف القوى الوطنية) والتيارات الإسلامية القريبة من الإخوان المسلمين عبر أذرع سياسية واجتماعية بناء على تراكم فعل تاريخي تنظيمي واجتماعي، إضافة الى التيارات الوطنية والعروبية (عمليا قيادات سياسية وفكرية من أنصار القذافي وعدداً من النخب الجامعية ….)
– سيبقى حضور التيار المدخلي ضعيف كمياً وسياسياً في الجنوب الليبي، لأن مُدنه وقُراه تغلب عليها عوامل القبيلة والغلبة والغنيمة، ولأنصار القذافي حُضور قوي كمياً وشعبياً وقبلياً، كما أن مستقبل التيار الإسلامي في الجنوب سيكون قوياً وفاعلاً لأسباب سوسيولوجية وإقليمية، كما أن أهالي الجنوب هم أقرب للاعتدال وأقرب لخصوصية وطنية تتناقض مع ماهية المنتسبين للتيار المدخلي…
– لن يتوقف خطر البعض من المنتسبين للتيار المدخلي المشحونين بالمقولات التكفيرية للمدخلي، عند بعض جرائمهم السابقة في ليبيا على غرار جريمة اغتيال الشيخ نادر العمراني، ولن تتوقف تلك الجرائم في ليبيا وفي الإقليم، إلا إذا تداعى علماء الأمة وقادتها ومُفكروها للتحذير منهم ومن ضلالاتهم وانحرافاتهم دون مُواربة بل لابد من إنجاز تحقيقات أمنية واستقصائية لجرائم الاغتيالات التي حدثت في بنغازي سنوات 2012 و2013 و2014…
ستبقى التصريحات العلنية للمدخلي بشأن ليبيا، مُتناقضة في غالب الأحيان، بل، واعتبرها المُتابعون والكثيرون في ليبيا مسيئة وتدخلاً لا مبرر له في الشؤون الداخلية للبلاد، وهي تصريحات ستٌقلل من قدرة الفاعلين في التيار المدخلي مستقبلا على التلاؤم مع التطورات المستقبلية في ليبيا وخاصة في حال نجاح الحوار الليبي في الوصول الى توافقات مُهمة لأن أغلبهم لا يستطيع السباحة إلا في مستنقعات الفوضى العارمة، وهُم ذوي قُدرة على الهدم لا على البناء، ولن يستطيعوا التلاؤم العملي والفعلي مع مسار ديمقراطي انتقالي ….
إن بعض القوى الإقليمية والدولية من الممكن أن تُوظف مستقبلاً أتباع التيار المدخلي بناء على توظيف شيوخهم الإقليميين على غرار “الرسلاني” أو”البرهومي” أو مُنظري التيار (المدخلي والجامي) كمقدمات موضوعية لضرب استقرار الجزائر، ولو على مدى بعيد كما يمكن توظيفهم في إعاقة ناعمة لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وتعطيل تجديد الفكر الدني وتطوير الشأن الديني عبر الدفع للخيار المصري عبر استنساخ تجربة حزب النور من خلال الدعم اللوجستي والمالي وعبر أدبيات فكرية وسياسية وإعلامية وتوجيه مدقق استخباراتيا عبر لافتات إعلامية واقتصادية وعبر مجالات الفنون والفلاحة والسياحة والعلاقات الخارجية وعبر استراتيجيات الإنقلاب الناعم على مسار الثورتين الجزائرية والتونسية…
المصدر : مركز أمية