عبدالله جاب الله قيادي إسلامي مزمن يطمع بكرسي رئاسة الجمهورية في الجزائر

لم يكد يجفّ حبر الصراع الدائر مابين الإسلاميين في المنابر والوكالات والنشرات، حتى خرج رئيس جبهة العدالة والتنمية الجزائري عبدالله جاب الله ليعلن قبل أيام قليلة، ودون تردد أنه قد يترشح للرئاسيات. مستبعداً إمكانية تحقيق وحدة اندماجية ما بين تيارات الإسلام السياسي في بلاده.
يصرّ الإسلاميون على ركوب اللعبة الديمقراطية في البلاد، رغم انكشاف مشروعهم في أكثر من دولة عربية، ولكن يبدو أن التعديل الحكومي الأخير الذي أنهى مهام أربعة وزراء وأبقى على رئيس الحكومة أحمد أويحيى، كان قد ترك خيبة أمل لدى الإسلاميين أكثر مما يتصوّر البعض.
فقد حاول الإسلاميون التوحّد في جبهة واسعة لمواجهة المنافسة الانتخابية والتموضعات الحزبية والسياسية طيلة العقود الماضية، لكن ذلك كان يفشل على الدوام. يقول جاب الله إن تلك الوحدة أمر غير ممكن “بسبب عقبات تتعلق، بالدرجة الأولى، بطبيعة المسؤولين الحاليين لهذه الأحزاب، والذين يميلون أكثر نحو الفرقة”، ويضيف “أنا شخصيا ناضلت من أجل الوحدة منذ 1976. ورأيت أمل تحقيق الوحدة في كل مرة ينكسر، لأن النفوس البشرية الموجودة وكأنها قائمة على الفرقة وليس على الوحدة”.
لا يخفي جاب الله طموحه في الترشح لرئاسيات 2019، معتبرا ذلك “طموح كل ناشط في المجال السياسي”، غير أنه ربط ترشحه لهذا الموعد بما وصفه “بضرورة توفر عوامل النزاهة والحرية لفتح المجال أمام الأكفاء والمتنافسين في هذا الموعد الانتخابي الهام”.
ومن بين الشروط التي عرضها جاب الله للترشح للرئاسيات “سحب ملف الانتخابات بجميع جوانبه ومكوّناته من وزارتي العدل والداخلية، ومنحه لهيئة مستقلة تماما”.
ويمثل هذا الرجل الجدير بالتناول حقا، الجناح الجذري المتشدّد في صفوف التيار الإخواني الجزائري، فعلى مدى سنوات النشاط السري في الثمانينات والسبعينات من القرن الماضي، وإطلاق جمعية النهضة الثقافية، ظل عبدالله جاب الله متمسّكا بأولويته في قيادة التيار، وبموقع كظل يقف خلف الإسلام السياسي في الجزائر، ما أدخله في نزاع مبكر مع الأحزاب الإسلامية الأخرى، كالجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، وحركة مجتمع السلم الحالية.
البحث عن حلفاء لا إسلاميين:
اليوم يبحث جاب الله، عن تحالفات جديدة تحسّبا للانتخابات الرئاسية، بعد توقف مسار استكمال مشروع الاتحاد الإسلامي الذي أطلق عليه “الاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء”. لأن الإسلاميين يعتبرون خارج تفكير جاب الله الآن.
جاب الله كان قد دفع ثمن تمسّكه بالقيادة، التورّط في نزاعات عديدة ما بينه وبين بقية التيارات الإسلامية، دفعته على الدوام إلى الانسحاب وتأسيس أطر جديدة. فمن حركة النهضة إلى جبهة العدالة والتنمية، إلى حركة الإصلاح الوطني إلى تأسيس جبهة الجزائر الجديدة.

ذات مرة علّق إعلامي جزائري على مسيرة جاب الله بالقول إنه قد اشتهر “أثناء أحاديثه وفي خطاباته بأنه دائما هو أول من قال، وأول من عارض النظام الجزائري، وأول من أسس، وأول من اقترح وأول من فكر، وأول من بدأ الدعوة في الجزائر، وأول من تنبّه إلى المخاطر المحدقة بالحركة الإسلامية، وأول من دعا إلى الوحدة، وأنه الوحيد المستهدف من طرف النظام من دون بقية السياسيين الآخرين المعارضين، وأنه هو الأول والأول. حتى قلت يوما: بأن الشيخ جاب الله هو آدم الجزائر دون منازع”.
هذا التوصيف، يعكس الوجه الآخر لشخصيته، وهو الذي اصطدم منذ السنوات الأولى لظهور الإسلام السياسي في الجزائر في سبعينات القرن الماضي، مع رموز وشخصيات التيار، بسبب عقدة القيادة والتفرد، ورغبته الجامحة في انضواء الجميع تحت عباءته، فكان يرى في جغرافية الشرق، حيث مسقط رأسه، الأولوية في احتضان الفكر الإخواني، وفي شخصه القائد الأصلح قبل محفوظ نحناح ومحمد بوسليماني وعباسي مدني وعلي بلحاج والآخرين.
فكره يبدو وكأنه يرفض استلهام التجارب الإسلامية الحديثة في بعض الدول العربية، فقد كان يتحفّظ على الارتباط المباشر بالتيار الإخواني أو السلفي، ويفضل ما كان يعرف من خلال بعض الإسلاميين بتيار “الجزأرة” القائم على التأسيس لتجربة محلية تستلهم مشروعها من بعض الشيوخ والمصلحين.
لغته الصارخة والمباشرة وافتقاده لفنون الخطابة والتوظيف الخفيف للمصطلحات والألفاظ التي يتقنها كثيرا قادة الجناح الآخر في إخوان الجزائر، تعكس دقة جاب الله في تقفي التفاصيل، فقد صرّح بعد الانتخابات المحلية التي جرت في شهر نوفمبر الماضي، بأنه “لاحظ أن أصابع مرتادي مسجد ضاحية درارية بالعاصمة، غير مطلية بحبر الاقتراع، مما يؤكد أن المقاطعة كانت كبيرة في الانتخابات المذكورة”.
المواقع القيادية التي تربع عليها جاب الله لم يغادرها إلا تحت ضغط التمرد الداخلي وليس امتثالا لمبدأ التداول على القيادة والممارسة الديمقراطية، قد تفطن مؤخرا لما جنته ميولاته النفسية والذهنية على مساره السياسي، من خلال استحداث منصبين قياديين هامين، الأمين العام ونائب الرئيس، في جبهة العدالة والتنمية، دون تقديم توضيحات حول أبعاد القرار بتحديد مهام وصلاحيات المنصبين، وإن كانت من قبيل تخفيف العبء على الرجل الذي تقدم به العمر، أم مجرد إجراء شكلي لتزيين الواجهة.
وجاء شعار المؤتمر الأخير لجبهة العدالة والتنمية “الوفاء والاعتبار”، ليكرّس مسار المراجعة الفكرية والسياسية لجاب الله، التي كشف عنها بعد النكسة التي مُني بها تيار الإسلام السياسي في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة التي جرت في النصف الثاني من العام المنقضي.
لقد اعترف الرجل، لأول مرة في تاريخ الإسلام السياسي في الجزائر، بما أسماه “الأسباب الذاتية والعيوب الموضوعية في صلب الأحزاب الإسلامية، وبعزوف الشعب الجزائري عن المشروع الإسلامي، بسبب الممارسات السلبية المتراكمة طيلة العقود الماضية، التي أفقدت الإسلاميين الثقة التي كانوا يحظون بها لدى الناخب الجزائري”.

تراجع الإسلاميين ظاهرة دولية:
دعا جاب الله في أعقاب صدور نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة إلى “ضرورة إجراء مراجعة سياسية وتقييم للمرحلة السابقة، من أجل الحفاظ على تيار الإسلام السياسي كقوة من القوى السياسية الفاعلة في البلاد، وحمايته من التلاشي”، واعترف بـ“تأثير العوامل الإقليمية والأوضاع السياسية المحيطة بالبلاد، في تراجع وعاء الإسلاميين”، في إشارة إلى الحرب الميدانية العسكرية والسياسية على الإرهاب والتطرف”.
وحملت رسائل جاب الله، اتهامات مبطنة لغرمائه التقليديين في حركة مجتمع السلم، بتحميلهم مسؤولية تهاوي شعبية تيار الإسلام السياسي في البلاد، باعتبار “حمس” شاركت السلطة منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي إلى العام 2011 مؤسساتها الرسمية والسياسية، الحكومة والتحالف السياسي المؤيد لبوتفليقة، وهو الأمر الذي يراه أحد أسباب عزوف الجزائريين عن الأحزاب الإسلامية.
وها هو يكتفي بالمجالس النيابية في البرلمان والبلديات والولايات، ويرفض جميع أشكال التقارب مع السلطة، فكان من الرافضين لوقف المسار الانتخابي في 1992 من طرف المؤسسة العسكرية، بعد اكتساحه في الدور الأول من قبل جبهة الإنقاذ المُنحلّة، كما كان من الموقّعين على ما عرف بـ“وثيقة سانت ايجيديو” العام 1995 رفقة عدة شخصيات وأحزاب سياسية معارضة، لإنهاء حمّام العشرية الدموية والعودة إلى المسار الانتخابي، لبعث مؤسسات دستورية شرعية في البلاد، فضلا عن مشاركته في استحقاقين انتخابيين رئاسيين “1999 و2004”، حيث انسحب في الأول ضمن المرشحين الستة، الذين قرروا الانسحاب عشية الاستحقاق، للتنديد بانحياز المؤسسات الرسمية لصالح مرشح السلطة عبدالعزيز بوتفليقة، وحصل على نتائج متواضعة في الثانية.
جاب الله مهووس بعقدة القيادة والمشيخة الإسلامية، ولذلك يبادر للتعبير عما أسماه ضمنيا بـ“الندم” على هذا المشروع، لأن طموحات الآخرين قطعت الطريق عليه مبكرا. وهو الذي لم يشغل طيلة حياته أي منصب مهني، بسبب ما يراه ملاحقة السلطة له والتضييق عليه، نظرا إلى مواقفه المعارضة لها منذ سنوات الدعوة ودروس المواعظ والإرشاد في سبعينات القرن الماضي، ليبقى واحدا من النماذج القيادية الإسلامية، التي ترسخ الخلافات والصراعات الداخلية في صفوف الإخوان. وتحت محك شرعية الأبوة والأولوية والمشيخة، تنسل حقائق التيار الى السطح، ويترسخ أكثر السؤال الذي طرحه القيادي الإخواني والإعلامي الراحل نذير مصمودي، كعنوان لكتابه “متى يدخل الإسلاميون في الإسلام”.
صابر بليدي __ العرب