الجزائررأي

«خَلِّيها تصدِّي»… شعار أيقظ جزائريين وأخاف آخرين

 

 

ورد في تقارير صحافية جزائرية أن الجهات الأمنية في البلاد أوقفت شابا كان ناشطا على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب «هاشتاغ» أطلقه على منصات الإعلام الاجتماعي سماه «خليها تصدِّي».

الهدف من «الهاشتاغ»، ومعناه «دعِ الصدأ يأتي عليها»، تشجيع الناس على مقاطعة شراء السيارات المجمَّعة محليا بسبب ارتفاع أسعارها بشكل فاق العقل والمنطق في السنتين الأخيرتين. وقد لقيَ «الهاشتاغ» تجاوبا شعبيا هائلا كان من ثماره تراجع أسعار السيارات بأرقام هائلة ناهزت الثلاثين في المئة في بعض الحالات. حدث هذا في بلد بلا منطق وآخر همَّه قواعد السوق.

وورد في تقارير محلية أن حملة «خليها تصدِّي» ستمتد إلى سلع وخدمات أخرى منها العملات الأجنبية التي ترتفع بلا توقف.
لكن بدلا من مكافأة الشاب الذي وراء هذه الحملة الفاعلة، فضّلت السلطات اعتقاله. كان يمكن جلبه والاستفادة من طاقاته وقدراته، لكن العقلية السياسية ـ الإدارية الجزائرية الجبانة ترفض أمثال هذا الشاب وتخنقهم.

نحن هنا نتكلم عن مجتمع يعيش فوضى قلَّ نظيرها، القوي فيه يأكل الضعيف، بلا هيئات تحمي الأفراد والجماعات: تنظيمات المجتمع المدني كلها بين مدجَّن مستسلم، أو مقموع ومعرض للاندثار. فلا أحد ينصفك أو يستعيد حقوقك مهما كانت المظلمة التي تعرضت لها، خصوصا إذا كان خصمك أحد تماسيح المال أو السياسة، أو الاثنين معًا. ونتكلم عن مستهلك، بسبب العوز وجهله بحقوقه وغياب الخيارات وعقم (أحيانا تواطؤ) أجهزة الدولة، يستهلك أيَّ سلعة تُسوَّق له، محلية كانت أم مستوردة (من الصين) من دون الحد الأدنى من مواصفات الصحة والسلامة.

ولا توجد جهة تحمي المستهلك وتدافع عن حقوقه، وإن وُجدت فهي عديمة التأثير وقلَّ مَن يعرفها أو يكلف نفسه عناء الشكوى لها. منذ نحو سنتين، عادت سوق السيارات في الجزائر إلى ما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. الندرة والرشوة والمحسوبية على الرغم من أن السوق، نظريا، حرة والزبون يدفع ثمن سيارته مقدَّما بأسابيع وشهور. كل هذا بفضل القرارات «الحكيمة» المتعلقة بتنظيم سوق السيارات والتي ما فتئت تتفتق بها قرائح حكومة الرئيس بوتفليقة.

وسط هذا الظلام الدامس، يصبح صاحب «خلّيها تصدِّي» ثروة قومية. ويجب منحه وساما وطنيا، لأنه ألقى حجراً في البركة الضخمة الراكدة.
أوقفت الجهات الأمنية هذا الشاب (النكرة) لأن ما قام به أيقظ الناس من سباتهم، وأثبت أن المجتمع لا يزال محتفظا ببعض النبض، ولأنه علَّم الناس نفض الغبار من حولهم والمطالبة بحقوقهم سلميا ومن دون تحمل مخاطر الخروج إلى الشارع.

الذي يخيف السلطات أكثر هنا، أن تنتقل عدوى ما قام به هذا الشاب فيبرز آخرون يقلدونه، وتتسع دائرة المطالب من «حقوق المستهلك» والحاجات الاجتماعية اليومية، إلى مطالب سياسية وأسئلة تزعزع عرش الماسكين بالبلد وأوصلوه إلى هذا المستنقع.

وعليه، فصاحب «الهاشتاغ» المذكور، من وجهة نظر الحكام، هو إنسان تتوفر فيه كل صفات العدو الذي لا بد من قنصه كي يواصل المجتمع نومه الهادئ ويستمر في شلله المزمن.

في الوقت ذاته، تزدحم منصات الإعلام الاجتماعي، إلى حد الاختناق، بقصص هامشية أبطالها رجال دين وتجار فتاوى ومعالجون بالرقية والأعشاب وغيرهم. تفرد لهؤلاء وقصصهم مساحات كبرى في صحف تصنَّف رئيسية، وأوقات بث مهمة في قنوات تلفزيونية لبث «دروشتهم» في المجتمع.

سرعان ما تتحوَّل قصص هؤلاء إلى قضايا رأي عام كأن قوة خفية تقف وراء منحها كل تلك المكانة. آخر ما هنالك قصة مدرب الفريق القومي لكرة القدم، رابح ماجر، ونكتة «ألو بورتو» التي يدّعي فيها قدرته على إقناع نادي بورتو البرتغالي بمتطلباته من خلال مكالمة هاتفية واحدة. وكذلك «شيخ» يُدعى محمد علي فركوس، منح نفسه لقب زعيم التيار السلفي في الجزائر وراح يصول ويجول في عالم الفتوى أمام مرأى ومسمع مَن أمروا باعتقال صاحب «خليها تصدِّي».

الآن ينشغل المجتمع، بشكل لافت، بنكتة ماجر وفتوى فركوس المتعلقة بتصنيف خاص منه «لأهل السنة والجماعة». بينما سيُنسى بسرعة ذلك الذي ألقى حجراً في بركة سوق السيارات (إذا كان محظوظا). وقد يقضي عقوبة بالسجن لن يتذكره خلالها أحد غير والديه وأقاربه، كأن هناك قوة خفية تعمل على مسحه من الذاكرة، تتقاطع مع جاهزية المجتمع للنسيان بسرعة وللاهتمام أكثر بأمثال فركوس وماجر.

لن تُزعج السلطات أحداً يطلق «هاشتاغ» عن ماجر أو فركوس ومن يشبههما، لأن «نشاطا» كهذا لا ينذر بأي حجر في أي بركة، ولا يحمل بذور أيَّ دور إيجابي في إيقاظ المجتمع من خدره. العكس هو الصحيح. والعكس هو ما ستحاربه السلطة وإن اقتضى الأمر شنَّ الاعتقالات.

توفيق رباحي __ القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق