الإعلام والعودة إلى مربّع 7 نوفمبر 1987

تواترت في الآونة الأخيرة تصريحات عدد من الفاعلين الممثلين لهياكل المهنة الصحفية في تونس عبّرت عن توجس من نوايا بعض أصحاب القرار التي قد تكون بصدد التخطيط للعودة إلى الوراء ونسف ما تحقق من مكاسب في مجال الحريات وخاصة حرية الرأي والتعبير.
ويأتي تصريح نقيب الصحافيين ناجي البغوري في هذا السياق حاملا لعدة دلالات، حين قال إن المناخ العام الذي يخيم على البلاد حاليا هو “مناخ 1987″، مشيرا إلى بعض الممارسات الأمنية.
البغوري اعتبر أيضا أنّ مشروع الحكومة لقانون الاتصال السمعي البصري يندرج ضمن عمل فريق السلطة على “إعادة الإعلام العمومي إلى إعلام حكومي”.
وعززت المبادرة التشريعية لكتلة نداء تونس بخصوص تجريم “القذف الالكتروني” الاقتناع بوجود “عقلية استبدادية وتضييقية للحريات تحن إلى زمن الديكتاتورية”، وفق ما ذهبت إليه نقابة الصحافيين.
فالنواب الذين اقترحوا المشروع، حسب النقابة، يعيشون في عصر ما قبل الثورة، مستعيدين في مشروعهم مصطلحات ألغاها الدستور التونسي ما بعد الثورة مثل “النظام العام” و”الأخلاق الحميدة” و”ثلب الهيئات الرسمية”.
لم يكن من الصدفة أن يصدر، بالتزامن مع هذا الجدل، كتاب علمي يفسر بأدوات بحثية عبارات مثل “مناخ 1987″ و”الإعلام الحكومي”. فقد جاء الكتاب الصادر في مجلدين “السياسة الإعلامية في تونس: مراكز نفوذ، صراع خلافة، سقوط نظام- دراسة أكاديمية حول الإعلام في عهد بن علي”، و”الإعلام التونسي في عيون معاصريه 1956-2011″، للصحفي والباحث خالد الحداد، توثيقا لمرحلة انقضت بآلياتها والفاعلين فيها، ولكنها مرحلة لم تمح من الذاكرة سواء من الرافضين أو من المتعلقين بها.
قد يكون من أوجه الشبه مع مناخ بدايات تركز الاستبداد، ما أشار إليه الكاتب من “عدم وجود إرادة سياسيّة لإصلاح القطاع الإعلامي حتّى يلعب أدواره المهمّة في مراقبة السلطة وإنارة الرأي العام بالمعلومات وإدارة الجدل بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيّين، على الرغم من الوعود التي قطعتها السلطة في خطابها الأوّل يوم 7 نوفمبر 1987”.فقدأخفى الخطاب السياسي إستراتيجية تُفعّل “الرقابة الإعلاميّة” عوضا عن تثبيت “الحريّة الإعلاميّة”.
وكشف الدكتور خالد الحداد أنّ “السياسة الإعلاميّة في تونس خلال حكم الرئيس السابق بن علي” قد انطلقت بشكل إيجابي حيث عرفت البلاد انفتاحا إعلاميّا لافتا، ولكنّ الأمر كان لفترة قصيرة فقط (7 نوفمبر 1987- أفريل 1989) اعتمدت بعدها إستراتيجية التعتيم والتضييق. ذلك ما يعنيه اليوم النقيب البغوري بعبارة “مناخ 1987” ويحذّر منه.
لم يكن نظام الحكم يسمحُ بتعدديّة فعليّة، وبرغم ما تعرّض له من تحديّات وصعوبات فقد تمسّك بديمقراطيّة صوريّة تدور كلّها في فلك السلطة.ويعود هذا السلوك إلى فلسفة تسلطيّة تتأسّس على الهيمنة على مختلف القوى السياسيّة والمجتمعيّة من خلال اختراقها ثمّ العمل على احتوائها وتحديد أنماط تَحرُّكها واشتغالها بما يتوافق مع مصلحة السلطة لا مصلحة الدولة والمجتمع بفئاته ونخبه.
إنّ المخاوف الرئيسة اليوم، هي ما أشار إليه بحث خالد الحداد من أنّ “المنظومة الإعلاميّة الرسمية وضعت هدفا مركزيّا لها، احتواء أكبر عدد من الفاعلين وإخضاعهم بطرق شتّى لأجندة عنوانها الأبرز خدمة السلطة السياسية القائمة والدفاع عن مختلف سياساتها”.
وهي معاينة نسمعها اليوم أيضا من حين إلى آخر عند الحديث عن أدوار أصحاب القرار وبعض رجال الأعمال والمال السياسي الموزع في قطاع الإعلام، حيث “تعمل مراكز النفوذ، كل من جهته، على الهيمنة على إدارة المنظومة الاعلاميّة، العمومية والخاصة، عبر العديد من الآليات ومن أهمّها آلية الاصطفاف السياسي وخدمة المصالح الضيّقة”، كما ورد في كتاب خالد الحداد.
لكنّ أخطر الاحتمالات هو خضوع الصحافيين وقبولهم بالإملاءات وانحيازهم للولاءات. وقد كشفت الدراسة الميدانيّة، من خلال الشهادات التي جمعها خالد الحداد (في المجلد الثاني للكتاب) من فاعلين سياسيين حكوميين عملوا خلال عهدي بورقيبة وبن علي، ومن صحافيين بنفس الفترة، واقع الرقابة المسلّط على الصحافيّين والضغط الَّذِي كانت تُجابههُ المؤسّسات الإعلاميّة والعراقيل الماثلة أمام “الحريّة الإعلاميّة”؛ والتي من أبرزها العقاب و”سياسة التعليمات” التي قاربت أن تكون “عقيدة” راسخة في الأذهان والنفوس يتسابق الجميع لأداء طقوس الولاء لها، ممّا كرّس على أرض الواقع “الرقابة الذاتيّة” كأيسر السبل وأسهلها لتفادي الصدام مع السلطة وتأمين مواطن الشغل واستدامة بقاء المؤسّسات الإعلاميّة.
وما لا نرجوه لواقع الإعلام في تونس ولمسار الانتقال في مرحلة ما بعد الثورة، هو ما توقف عنده الباحث خالد الحداد، عند تفسيره لسقوط نظام بن علي، فقد انتهى تتبُّع الأحداث والوقائع المتعلقة بالمسألة الإعلاميّة الى اكتشاف نزاع حقيقي داخل المنظومة الإعلاميّة شمل المواقع والتسميات والتعيينات والتمويل والتوجهات الكبرى، إلى حدّ بلغ تقسيم مركز القرار الاعلامي بين أكثر من طرف.وهو ما أدّى في النهاية، إلى حالة من الصدام وتنازع الهيمنة.
لطفي الحيدوري ___30 دقيقة