
قد يأخذك كتاب من نفسك ويعيدك إليها مرة أخرى، وأنت ممتلئ بحيوات وخبرات جديدة، تمكن كاتبها من أن يسحبك إليها سحبًا، واستغرقك بكاملك لتعيد اكتشاف نفسك. ولطالما حوّل كتاب بعينه مسار قارئه وأيقظه من سباته. هذه التجربة تعيدنا إلى العصر الجاهلي حين شاع فيه “سحر الكلمة”، إلى الدرجة التي حدت ببعضهم إلى ترويج سلعهم وتزويج بناتهم عبر وسيط الكلمة، موقنين بمدى قدرتها على أن تعمل في قلب قارئها أو مستمعها، وتأثيرها بما تستكشفه عبر عوالمها الموازية أو المشتبكة والمنخرطة في الواقع. وفي نهاية كل عام عادة ما يُدلي هؤلاء القرّاء بتلك العناوين التي استحوذت عليهم وما زالت تلح بعض فقراتها عليهم، منها ما قد يتسبب في إضحاك القارئ، ومنها ما يفجر لديه الرغبة في البكاء، ومنها ما أثار في ذهنه قائمة من التساؤلات والشكوك أو اليقين والاطمئنان، ومنها ما نجح في اقتناص الواقع بكامل عريه ومنها ما شطح به في عوالم الخيال.
وفي مقال لإليني كالوركوتي على النيويوركر تحت عنوان “كتب أحببناها في 2017” تطالعنا بعض هذه العناوين:
أحاديث مع الأصدقاء:
في مستهل العناوين التي لفتت الانتباه هذا العام، رواية الأيرلندية سالي روني “أحاديث مع الأصدقاء”، وهي روايتها الأولى، وتدور عن صديقتين تجمع بينهما علاقة حميمة، إحداهما فرانسيس طالبة جامعية مؤرقة وسريعة الملاحظة تمارس الكتابة أثناء دراستها الأدب الإنكليزي في دبلن، والأخرى بوبي المتزنة إلى أقصى حد؛ بوبي مثلية الجنس، وفرانسس ثنائية الجنس، وعبر السرد يقعان معاً في علاقة حميمة محفوفة بالمخاطر مع ميليسا ونِك، وهما زوجان في الثلاثينيات يعيشان بين الفن والزواج المتقلب. وتقع أحداث الرواية في دبلن مشتبكة بأوساطها الثقافية، تقول إليني كالوركوتي عن الرواية: هي إحدى رواياتي المفضلة لهذا العام وقد شعرت بأنها واقعية تماماً، فالحوار يبدو حديثاً شفوياً بين شخوص الرواية، وروني تلتقط الارتباك الجميل لكونك شابًا ذكيًا ولديك كثيراً من الأفكار حول العالم ولا دليل يوجهك لطريقة العيش فيه. كذلك تلتقط عبر السرد فيضاً من ثرثرة الآخرين، يتسم بنبرة فكاهية وإدراك لأغوار الأوهام والتصورات الذاتية. “لقد استغرقني عالمها جداً، لدرجة أنني بمجرد ما انتهيت من قراءتها، عدت مرة أخرى إلى الصفحة الأولى وقرأتها مرة أخرى. آمل أن يكون كتابها المقبل قريباً”. يُذكر أن روني وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة “صنداي تايمز” للقصة القصيرة.
البلهاء:
تشبه سيلين بطلة إليف باتومان في روايتها الأولى “البلهاء” فرانسيس عند روني، فسيلين، أيضاً، طالبة جامعية حادة الذهن ومولعة بالقراءة، ولكنها تفتقر إلى المعرفة المستمدة من التجربة. وتمتلئ الرواية بمواقف كوميدية. تقول كالوركوتي “حين أتذكر جرجرة قدميها لحرم جامعة هارفارد صامتة ومجمدة من الثلج، من دون أن ترتدي قفازها (ضيعته مرة أخرى)، أو إلى قرية صغيرة في المجر، حيث ذهبت في فصل الصيف لتعليم اللغة الإنكليزية، لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك حتى الآن. تبدأ الرواية في عام 1995، وقتها كان البريد الإلكتروني من وسائل التواصل الحديثة، وكانت سيلين الوافدة إلى الجامعة والابنة لمهاجرين تركيين، تدرس في فصول لم تسمع شيئاً عن موضوعاتها من قبل، فتلتقي بالصربية سفيتلانا، وبمحض الصدفة تنسجم مع إيفان، طالب الرياضيات الأكبر منها سناً، وفي حين ينعدم الحديث بينهما تقريباً، يتبادلان الرسائل التي تكتسب كل يوم معاني جديدة وغامضة، في نهاية العام الدراسي، يذهب إيفان إلى بودابست لفصل الصيف، وتتجه سيلين إلى الريف المجري، لتعليم اللغة الإنكليزية في برنامج يديره أحد أصدقاء إيفان. ثم تقضي أسبوعين في زيارة لباريس مع سفيتلانا. لتكون هذه الرحلة نقطة تحول في حياتها ورحلة أكثر داخل نفسها.
قلب تعس:
كريستينا أيضاً، في المجموعة القصصية الأولى لجيني تشانغ “قلب تعس”، ابنة وحيدة لمهاجرين صينيين، والمجموعة تضم سبع قصص تنطوي على تعقد وفوضى الحياة لفتيان يكافحون من أجل معرفة أنفسهم، ويعيشون في مبانٍ مزرية في نيويورك، وعلى الرغم من تلك الحياة فكريستينا لديها طريقة رائعة بشكل مذهل للتعبير عن نفسها.
تركز مجموعة تشانغ على تلك الجماعة من المهاجرين الذين يساومون على حياتهم المهددة بالانقراض، كونهم فنانين من الصين وتايوان، من أجل الكفاح المستمر للحياة على خط الفقر في التسعينيات في مدينة نيويورك، وتستكشف الطرق العديدة التي يمكن أن ترفع بها الأسرة والتاريخ من شأننا أو تحط منه، من فتاة تتوصل إلى تفاهم مع دور جدتها في الثورة الثقافية إلى ابنة تكافح من أجل فهم أين ينتهي دور عائلتها ويبدأ دورها هي، وإلى فتاة تكتشف قوة جسدها في الإلهام والتدمير.
هدف غبي غير مبرر:
كذلك صدر هذا العام لغريس بيلي كتاب جمع قصصها القصيرة ومقالاتها وقصائدها معاً لأول مرة تحت عنوان “قارئ غريس بيلي”، وتذكر كالوركوتي أن بيلي دائماً ما تحفزها سياسياً وفنياً، كما أنها تظل مصدراً للشعور بالراحة العميقة خلال هذا العام المرير. وإلى جانبها زميلتها القروية الغربية “تمارا شوبسين”، بمذكراتها “هدف غبي غير مبرر”، وفيها تأخذ تمارا القارئ في رحلة إلى قرية غرينتش إلى طفولتها البوهيمية في سبعينيات القرن التاسع عشر، في قلب وحول مطعم عائلتها الأسطوري في شارع بيدفورد.
كذلك تستعرض في مقالها كتابين، ساعداها على الإبحار والتنقل ما بين الإيمان والتحرر منه:
من البكتيريا إلى باخ والعكس:
الأول “من البكتيريا إلى باخ والعكس”، يقول الفيلسوف الأميركي والعالم المعرفي دانيل دينيت “… يمكن للنظم الطبيعية أن تخلق “كفاءة بدون فهم”، أي الحالات التي يحدث فيها تطور دون أن يشارك الفرد أو الآلة في استيعاب أسباب التطورات الحادثة”. فكرة تطور الآلة المتزايد وامتلاكها قدرات جديدة بتطور الفكر البشري والتساؤل حول قدرتها على الاستيعاب وعدم وعي البشرية بتقدير تلك المخترعات، والإفراط في الاعتماد عليها في معظم مجالات الحياة اعتماداً يستحق التوقف لندرك أننا أمام منعطف خطر. وفي رأي عبد الإله مجيد “أنه في حين أن كثيراً من طروحات دانيل دينيت مثيرة للجدل، وتقنع بعض القراء أكثر مما تقنع بعضاً آخر، فلدى دينيت سجل ممتاز في التنبؤ بالتطورات التي ستحدث في علم المعرفة، وسيكون من التعجل الرهان على خروجه عن هذا المسار. وسواء اقتنع القراء أم لم يقتنعوا، فإنهم سيجدون عقولهم تغتني بأدوات تفكير قوية متعددة”.
وكان الكاتب الآخر هو البروفسيور أنتوني كرونمان، عميد كلية القانون في جامعة ييل، تقول كالوركوتي لقد أخذني كتابه “اعترافات وثني بعث من جديد” في رحلة موازية. فإذا كان دينيت يسعى إلى التوفيق بين وجود الروح مع العالم المادي – فإن كرونمان يخطط للقيام بشيء مماثل في التقاليد الإنسانية: إذ يحاول دمج طرق التفكير المتناقضة الكثيرة عن الحياة التي نرغب في أن نؤمن بها في وقت واحد، بوصفنا معاصرين. كثير منا يمتلك حدسًا بقدسية الحياة ولكننا أيضاً نؤمن بالمنهج العلمي، الذي يترك مساحة صغيرة للمقدس؛ نجد أنه من الصعب تصور الحياة الآخرة بشكل حرفي، ولكننا نريد أن نفهم كيف ستكون بعد رحيلنا.
كرونمان في كتابه ينقب عبر تاريخ الفكر، جامعاً بين أوغسطين ووالاس ستيفنز، أو نيتشه وميلاني كلاين، مشيداً نظاماً من المعتقدات من اختراعه الخاص – “الوثنية المنبعثة من جديد” – التي يجدها مرضية. وليس متوقعاً من القارئ قراءة كل “اعترافات” كرونمان دفعة واحد
ة، ولا من المحتمل أن يجد فيه كل شيء مقنعاً. ولكنه كتابه رائع وملهم ويتسم بسرد سلس وممتع.
قائمة التايمز 2017:
كذلك تضمنت قائمة النيويورك تايمز من بين 100 كتاب رواية “لنكولن في البرزخ” لجورج ساندرز، الحائز على جائزة مان بوكر في الإصدارات الأفضل لهذا العام. والرواية تقوم على حدث حقيقي: حين دفن إبراهام لنكولن ابنه البالغ من العمر 11 عاماً ويلي في مقبرة واشنطن ذات ليلة في عام 1862. فقد تخيل الصبي محصورًا في الباردو، وهو مصطلح بوذي ينتمي لشعب التبت ويطلق على البرزخ، وتتبع رواية سوندرز رفيق الميت، المحاصر أيضاً في المقبرة وليس بوسعه تقبل الموت نهائياً، فيلحظ الصبي وهو ينتظر بيأس عودة أبيه. والرواية قائمة في مجملها على الحوار تقريباً، وتتضمن كذلك مقتطفات من النصوص التاريخية والسير الذاتية والرسائل، وبعضها يتناقض مع بعض، وبعض آخر من خيال المؤلف الذي أحسن فيها توظيف تقنيات الحوار والمناجاة والتداعي لسرد سيرة الأب والابن. طارحًا بأسى فكرة المصير الإنساني وفجاءة الموت وقسوة عالم الموتى في البرزخ. وفي “قتلة زهور القمر”، يقوم ديفيد غران بإعادة النظر في سلسلة صادمة من الجرائم التي قتل فيها عشرات الأشخاص من أمة الأوساج في أوكلاهوما بدم بارد، واستناداً إلى سنوات من البحث والأدلة الجديدة المذهلة، يأتي الكتاب كتحفة سردية رائعة، إذ تكشف كل خطوة في التحقيق عن سلسلة من الأسرار المشؤومة، والتحامل على الهنود الأميركيين الذي أتاح للقتلة فعل ذلك مع الإفلات من العقاب.
والخريف لإلي سميث التي وصلت إلى قائمة البوكر القصيرة وتدور حول علاقة صداقة بين رجل طاعن في السن وامرأة في الثانية والثلاثين. ورواية الباكستاني محسن حميد “مخرج الغرب” التي تجمع بين واقع مضطرب وخيال جامح. والذئاب لإيميلي فردلاند الواقعة في غابات مينيسوتا الشمالية. كذلك تضمنت القائمة كتاب كلينتون “ماذا حدث” الذي تسرد فيه تفاصيل تجربتها في منافسات الانتخابات الرئاسية.
ضفة ثالثة