رأي

في صلة السياسة بالفساد في تونس

 

       لا يمكن أن نتحدث عن انتقال ديمقراطي أو عن ديمقراطية ناشئة أو عن جمهورية ثانية أو عن دستور رأى فيه بعض البسطاء ‘أحسن دستور في العالم’ إلاّ إذا شملت الحرب على الفساد مصادرَه ومواردَه على السواء.

آخر نتائج الحرب على الفساد التي كان رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد قد بدأها في شهر مايو 2017 إيقافُ سبعة أشخاص في بداية هذا الأسبوع بمقتضى قانون حالة الطوارئ، وذلك بعد مداهمة مخازن ومستودعات للبضائع المهربة في ولايات مختلفة وخاصة في ولايتي مدنين وصفاقس، والموقوفون يعدون من كبار المهربين والمتاجرين بالسلاح والمبيضين للأموال؛ والجرائم التي أوقفوا بسببها حسب ما ورد في جريدة الصباح بتاريخ 26 سبتمبر الجاري هي “افتعال فواتير والتصريح بمعطيات مغلوطة ذات علاقة بكمية البضائع ونوعياتها وقيمتها المالية والضلوع في عمليات توريد لفائدة الغير مقابل عمولات متفاوتة وخلاص بضائع بطرق غير قانونية وتحويلٌ غير شرعي لعملة أجنبية وتبييضُ أموال وتوريد بضائع حاملة لعلامات مقلدة منها تونسية وأجنبية إضافة إلى جلب بضائع لا تتوفر فيها المواصفات الفنية المطلوبة وإغراق السوق الموازية بها”.

وبإيقاف هؤلاء يبلغ عدد الموقوفين منذ شهر مايو 22 شخصا، هم في الأغلب ممن يعدون أنفسَهم من رجال الأعمال. وإيقافُ هؤلاء الآن بعد أربعة أشهر من انطلاق الحملة على الفاسدين وإيقافِ جماعة منهم ووضعهم قيد الإقامة الجبرية خلال الأشهر المنقضية يعني أنهم لم يتعظوا بما حدث لمن سبقهم أو هم يستخفّون بما تقوم به الحكومة من محاربة للفساد، أو أن لهم في السلطة أو في قيادات الأحزاب المتنفذة حماةً يحمونهم ويمنعون عنهم الإيقاع بهم، ومهما يكن السبب فهو دال على أن الفساد قد تأصّل فيهم وأصبح لهم عادة وأدمنوا عليه مثلما يدمن على المخدرات متعاطوها. ثم إن هؤلاء ينتمون إلى صنف واحد هو صنف المحترفين للتجارة الموازية مع ما يتبعها وينتج عنها من التهريب وتبييض الأموال والتهرب من دفع الضرائب لخزينة الدولة.

وليسوا في الحقيقة وحدَهم الفاسدين في هذه البلاد، فنحن نتابع يوميا في الصحافة المكتوبة والإلكترونية أخبارا عجيبة غريبة تتعلق بأناس تفتَرض فيهم بحكم مِهَنهم أو بحكم مسؤولياتهم النزاهةُ ونظافة اليد والجيب. ومن تلك الأخبار ما قرأناه عن قضية اللحوم الفاسدة التي توزع على المطاعم المدرسية والمطاعم الجامعية بموافقة من أطباء بياطرة ومسؤولين إداريين أو في بعض المسالـخِ البلدية؛ وما قرأناه عن دور بعض المسؤولين في الديوانة في تهريب العملة والأدوية أو في تسهيل إدخال بعض البضائع الفاخرة دون دفع ضرائب للدولة؛ أو ما قرأناه عن سرقة الأدوية من المستشفيات ومن الصيدلية المركزية وبيعها إلى الخواص أو تهريبها إلى الخارج، وخاصة إلى ليبيا.

لكن أخطر القضايا في نظرنا هي التي يكون فيها للسياسة أثر. وأمامنا عدد كبير من هذه الأخبار التي نشرت في الصحافة المكتوبة ولم نقرأ تكذيبا لها أو مقاضاة لناشرها، على أن التكذيب والمقاضاة ليسا دائما دليلا على عدم صحة الخبر.

ومن الأخبار العجيبة التي قرأناها قصة رجل أعمال مساهمٍ بارز في تمويل أحد الأحزاب الحاكمة وابنٌ لمدير عامّ لأحد المجامع الاقتصادية الكبرى يُطالب بطلاق امرأة من زوجها لتكون له خليلة! وقد شكته إلى أكثر من جهة لكن نفوذه المالي والحزبي يحميانه من التّتَبّع؛ وما قرأناه عن شقيق رئيس حزب سياسي تدخّل لصالح شركة أجنبية هو مساهم فيها من أجل السيطرة على قطاع بيع تذاكر الطعام في مؤسسات ووزارات تونسية بطرق غير قانونية حتى أصبحت تسيطر على 90 بالمئة من القطاع وتسببت في إفلاس ثلاث شركات منافسة؛ وما قرأناه عن ملف بيع الشاورما بلحم القطط في مطعم ذي صبغة تركية يوجد في المنار بمدينة تونس، وتدخُّل سفير دولة أجنبية لدى رئيس حزب سياسي نافذ ليتدخل ليمنع غلق المطعم، وقد كذّبت بعض الجهات الرسمية هذا الخبر وقامت بعض الصحف اليومية بمهاجمة الناشر معتبرة أن الخبر “ليس سوى ضرب من خيال واسع”، وأنه يندرج ضمن “نظرية المؤامرة لتحويل وجهة الرأي العام عن قانون المصالحة” الذي كان بصدد المناقشة عند نشر الخبر، وقد رد المشرفون على الصحيفة ناشرة الخبر على مكذبيه متهمينهم بالتسرع في التكذيب دون تثبت أو مساءلة لكاتبه، مصرين على أنهم متأكدون “من كل كلمة بل من كل حرف حبرناه في الموضوع”.

وأَقْتبِس هنا- مع بعض التعديل- قولا لأبي عثمان الجاحظ كنا تعلّمناه ثم علمناه “ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له”، ولكن- بما أن الاعتراض عليه من المعنيين به ضعيف وأن كاتبه وناشره لم يُتَتَبَّعا بسببه- “ليكنْ قلبُك إلى (تَصْديقه) أمْيَلَ”.

وأما آخر الأخبار ذات العلاقة بالسياسيين فمتعلق بشخص نُعِتَ بـ“امبراطور الكونترا” ويبدو أنه نائب في مجلس نواب الشعب ممثل لحزب قوي عضو في حكومة الوحدة الوطنية. ولهذا النائب صلة بمهرب يقوم بتوريد البضائع المدرسية المهربة وبتوزيعها على مخازن تابعة للنائب ثم على السوق الموازية في تونس الكبرى. وقد اكتُشِفت في المخازن التابعة للنائب منذ أوائل سبتمبر في نطاق المراقبة الاقتصادية التي تقوم بها الإدارة الجهوية للتجارة بمنوبة 850 ألف قطعة مدرسية مقلدة مجهولة المصدر، وقد قيل آنئذ إن المواد قد حجزت وتم “استيفاء محضر الحجز ومحضر البحث في شأنها وإحالته إلى القضاء”. ولكن يبدو أن للقضية وجها آخر يتمثل في أن المسؤول على الإدارة الجهوية للتجارة والذي قام بعملية مداهمة المخازن قد عوقب بنقلته إلى ولاية أخرى، ولم ينقذه من هذه العقوبة إلاّ تغيير وزير التجارة بوزير جديد.

وما ذكرناه ليس إلا عينات من ملفات كثيرة تنتظر رفع الغبار عنها، ومن أهمها وأثقلها ملفات فساد تعود إلى فترة حكم الترويكا، ومنها قضية الهبة الصينية وقضية العجول البرازيلية وقضية الخرفان الرومانية وقضية البنك الفرنسي التونسي، وقد تورط فيها جميعها سياسيون كانوا مباشرين لمهامهم، بل إن من القضايا الخطيرة أيضا ما ورد في تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2017 من إخلالات وتجاوزات كبيرة في تصرف الإدارة التونسية، وخاصة في انتدابات المتمتعين بالعفو التشريعي العام وذوي مَن سُمُّوا شهداءَ الثورة وجرحاها، وخاصة في وزارتي التربية والشباب والرياضة، وقد تبين أن كثيرين من المنتدبين ليست لهم المؤهلات العلمية والبيداغوجية للتدريس، بل ليس لهم من حسن السيرة والسلوك ما يؤهلهم لأن يكونوا مربّين، وقد تكبدت الدولة بسبب هذه الانتدابات العشوائية خسارة الملايين من الدينارات.

والحقيقة أن المتتبع للظاهرة يلاحظ أنها قديمة في البلاد التونسية، ولا شك أن جيل الاستقلال ما زال يذكر الشركات والمؤسسات الوطنية التي تسبب لها المسؤولون الأوّلون عنها في إفلاسها وخاصة في السنوات السبعين من القرن الماضي، وكانت عقوبتُهم نقلتَهُم من المؤسسات التي أفلست إلى مؤسسات أخرى قد يعيثون فيها فسادا أيضا، والتعلة التي كانت تعتمد في إعفائهم من العقوبة هي “الدفاع عن هيبة الدولة”.

وقد تواصلت الآفة أشد وأعم بداية من السنوات التسعين من القرن الماضي إلى اليوم، وقد قوّى منها قبل سنة 2011 انتقالها إلى أعلى هرم في السلطة لارتباطها بالقصر والعائلة الحاكمة فيه، ثم قوّى منها بعد سنة 2011 غيابُ سلطة الدولة ثم بحث السّاسة عن الغنائم. وليس غريبا لذلك أن تحتل تونس في تقرير دولي حول البلدان التي تسجَّل فيها مخاطر الفساد المرتبة 59 من جملة 146 بلدا، وقد يتعلل البعض بأنها أفضل حالا من 58 بلدا، ولكن هذا التعلل لا قيمة له إذا نزلنا ظاهرة الفساد في إطار البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة في البلاد، فإن مما يغذيها ارتفاعَ معدلات الجريمة ومعدلات الانتحار وحوادث الطرقات القاتلة والبطالة والانقطاع عن الدراسة، ولتونس في هذه المجالات كلها معدلاتٌ مرتفعة كنا نود أن يعوّضها ارتفاعٌ في معدلات أخرى مثل عدد الناجحين في الامتحانات الوطنية- ومنها الباكالوريا- وعدد الجامعات المتميزة بجودتها في ترتيب الجامعات العالمية- وتونس اليوم مغيبة تماما منها- وعدد العلماء والمفكرين التونسيين ذوي الشهرة العالمية وعدد الأدباء الذين ترجمت آثارهم إلى لغات أجنبية، ولكن هذه المجالات تنتمي إلى التربية والثقافة والبحث العلمي، وليست هي من أولويات حكومات “الجمهورية الثانية”.

ونعتقد إذن أن الحرب على الفساد بتتبع المهربين ومبيضي الأموال في الاقتصاد الموازي من رجال الأعمال مهمة جدا، ولكن ينبغي أن تكون مرحلةً تليها مرحلةٌ أخرى أهمّ هي تتبع حماة أولئك الفاسدين والمستفيدين بالحصول على منافع منهم من السياسيين، بل تتبع المستغلين من هؤلاء لنفوذهم السياسي أو لصفتهم الحزبية بداية من سنة 2011 إلى الآن. فلا يمكن أن نتحدث عن انتقال ديمقراطي أو عن ديمقراطية ناشئة أو عن جمهورية ثانية أو عن دستور رأى فيه بعض البسطاء “أحسن دستور في العالم” إلاّ إذا شملت الحرب على الفساد مصادرَه ومواردَه على السواء.

د. إبراهيم بن مراد

المصدر : العرب ،العدد 10765، 2017/09/28،ص9.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق