رئاسة بوتفليقة المتجددة وصيرورة الحكم في الجزائر

أثارت إقالة رئيس الحكومة الجزائرية عبد المجيد تبون من قبل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ، وتعيين رئيس الديوان الرئاسي، أحمد أويحيى، خلفاً له، جدلاً سياسيًا ساخنًا في الجزائر، إذ اعتبرته الأحزاب الجزائرية، لا سيما المعارضة منها بـ«الانقلاب».ويعزو المحللون الجزائريون هذه الإقالة إلى الحرب التي دخلهامؤخرًا عبد المجيد تبون مع الكارتل المالي، حيث نص برنامجه الحكومي على فصل السياسة عن المال الذي صادق عليه نواب الأغلبية في البرلمان، ومحاربة المال السياسي، والحدّ من تأثير سلطة ونفوذ رجال الأعمال في المشهد السياسي والاقتصادي، وإيفاد لجان تحقيق إلى مصانع تركيب للسيارات يملكها رجال أعمال قالت حكومة تبون إنها لا تحترم الشروط القانونية وتمارس الاحتيال.
ومن المعروف في الجزائر أن رجال المال يمتلكون تأثيرًا قويًا على القرار السيادي للدولة الجزائرية، ذلك أن الرئيس بوتفليقة يدافع عن الكارتل المالي، و انحاز لمصلحة الكارتل المالي في صراعه مع الحكومة، لا سيما أن رجال المال و الأعمال لعبوا الدور الأبرز في تمويل حملة الرئيس بوتفليقة الرئاسية في انتخابات نيسان 2014، خصوصًا رجل الأعمال علي حداد صديق شقيق الرئيس بوتفليقة،المستعد للعب الدور عينه لمصلحة خيارات محيط الرئيس بوتفليقة بشأن الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في ربيع 2019.
تكشف إقالة رئيس الحكومة الجزائرية عبد المجيد تبون بعد ثلاثة أشهر فقط من تعيينه ومصادقة البرلمان على برنامجه، واستبداله بأحمد أويحيى، عن حالة تخبط النظام السياسي الجزائري وفقدانه التوازن وسقوطه في ممارسات مؤسفة ، وعن أن السلطة التنفيذية التي يمثلها في الجزائر الرئيس عبد العزيزبوتفليقة لا تزال ثابتة في طبيعتها،على الرغم من الحروب الداخلية المتواصلة لتوريث الحكم . ويكتسب منصب رئيس الجمهورية في الجزائر أهميته من حجم الصلاحيات التي يمنحها الدستور لهذا المنصب، فالرئيس هو رئيس الجهاز التنفيذي المباشر، يساعده وزير أول (رئيس الحكومة)، وهو رئيس السلطة القضائية بصفته القاضي الأول في البلاد، ويُعيّن ثلث أعضاء الغرفة العليا للبرلمان، وله حق التشريع بمراسيم بين دورتين برلمانيتين، كما له حق حل البرلمان.وبهذه الحقوق فإنه الحاكم المطلق عملياً.
وفي اجتماع رئيس الوزراء الجزائري الجديد،أحمد أويحي مع منظمات أرباب العمل والاتحاد العام للعمال الجزائريين؛يوم الخميس 24آب/أغسطس الجاري، في كلمة افتتاحية بثها التلفزيون الرسمي «إن فرض احترام القانون لا يتم وسط البلبلة»، في إشارة إلى عهد سابقه عبد المجيد تبون، وما شهدته فترة قيادته للحكومة من سجال وجدال، وإثارة الرأي العام في إطار صراعه مع رجال الأعمال.وأكد أن الجزائر دولة قانون، وتملك كل الوسائل والأجهزة التي تسهر على احترام القانون، لافتاً إلى أن رهان الیوم يكمن في خدمة فعالیة الاقتصاد والحفاظ على استقلال الجزائر.
كان أويحيى يشير بوضوح الى الجدل الذي رافق حملة الفصل بين السياسة والمال ومحاربة المال السياسي التي أطلقها رئيس الحكومة السابق، عبد المجيد تبون، منذ تسلمه مهامه في 25 مايو/ أيار الماضي، والتحفظ الكبير لرجال المال والأعمال على سياسته. وأدى الصراع الحاد بين الحكومة ورجال الأعمال الى انحياز الرئاسة لصالح رجال الأعمال واتهمت تبون بالتحرش بالمستثمرين وإطلاق مبادرات فوضوية. وقرر الرئيس بوتفليقة بفعل ذلك إقالة تبون واستخلافه برئيس الديوان الرئاسي أويحيى.وطمأن أويحيى الشركاء الاقتصاديين بشأن إنهاء سياسة الحكومة السابقة ووقف الحملة على الاستثمارات الخاصة وتعهد بمساندة ومساعدة جميع المؤسسات الاقتصادية، وطمأن في السياق نفسه العمال بشأن التزام الدولة سياسة مبنية على العدالة الاجتماعية والتضامن الوطني.وأقر أويحيى بصعوبة الظرف الاقتصادي الذي تمر به الجزائر بسبب تراجع عائدات النفط نتيجة انهيار أسعاره في الأسواق الدولية، ودعا إلى مزيد من التعاون بين كافة الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، إلى حين تجاوز هذه الأزمة.
وفي ضوء الحالة المرضية المزمنة للرئيس بوتفليقة، تعيش الجزائر الآن حالة من القلق،والترقب،والإنتظار،والخوف من المجهول –المعلوم القادم. وفي معظم الأوساط السياسية ، يعتقد المحللون السياسيون الجزائريون أنّ المناخ السياسي الراهن، يوفر أرضية سياسية لتمرير مشروع توريث الحكم لشقيق الرئيس بوتفليقة، ألا وهو المستشار الرئاسي سعيد بوتفليقة.وهناك من يدافع عن التوريث في الجزائر، منها تصريحات الأمين العام لحزب «جبهة التحرير الوطني» جمال ولد عباس، الذي اعتبر أن «شقيق الرئيس بوتفليقة لديه كل الحق في الترشح، وأنه لا توجد موانع دستورية على ذلك». حتى أن ولد عباس راح يجد لشقيق الرئيس بوتفليقة مزايا تؤهله للحكم وخلافة شقيقه بالقول إن «سعيد بوتفليقة أستاذ جامعي ناشط نقابي مناضل».
وحتى داخل السلطة الجزائرية لا يجرأ أحد على معرفة الحقيقة. . فقد أنشأ رئيس الدولة حواجز حوله،إذ ألغى كل الذين لا يمتون إليه بصلة الدم خلال السنوات الماضية. في الوقت الحاضر،هومحاط بأخويه:مصطفى،الطبيب،وسعيد،المستشار. و يبدو أن البلاد تعاني الآن من الجمود .فالمؤسسات معطلة.والرئيس بوتفليقة يحتكر السلطات كلها. والنتيجة باتت معروفة ،إذ تعيش مؤسسة الرئاسة الجزائرية فراغا سياسيا حقيقيا، على الرغم من نفي الأمين العام لحزب «جبهة التحرير الوطني» (أكبر كتلة في البرلمان) جمال ولد عباس أن يكون السعيد بوتفليقة، الشقيق الأصغر للرئيس، صاحب القرار أو أنه يشكل «سلطة موازية»، حين أكد أن «بوتفليقة هو الحاكم الفعلي وصاحب القرار في البلاد، خلافاً لما يروَّج من إشاعات كاذبة، حول سلطة موازية حلّت محله».فقد أدخل مؤيدو بوتفليقة عبارة جديدة في قاموس الحياة السياسية،إنّه الضامن الحقيقي لاستقرار الجزائر.وكأنّ الجزائر لا تمتلك رجال دولة وسياسيين قادرين على القيام بالنقلة النوعية المطلوبة التي تخرج البلد من حال الجمود التي تعاني منها.
وكانت الطبقة السياسية الجزائرية شهدت قبل بضع سنوات قليلة انقساماً واضحاً بشأن ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بين مؤيدين لولاية رابعة للرئيس ومعارضين لها. ولم يعد سرّاً أنّ هناك مجموعة معيّنة مرتبطة ببوتفليقة تخشى خروجه من المرادية، أي قصر الرئاسة. ارتكبت هذه المجموعة مخالفات، وفضائح فساد كبيرة ، وهي تخشى بكلّ بساطة الملاحقة القانونية وربّما الانتقام السياسي. ومن المدافعين بشراسة عن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يتصدر«حزب جبهة التحرير الوطني» (الأفالان) طليعة هؤلاء، بوصفه الحزب الذي يحتل المركز الأول في المجلس الشعبي الوطني الجزائري.
تعيش الجزائر في خضم تموجات ما بات يعرف «بالربيع العربي» و تداعياته الخطيرة على صعيد إسقاط النظم التسلطية العربية في عدد من البلدان العربية، و عجز الحركات الإسلامية التي استلمت السلطة عن بناء السلطة الديمقراطية البديلة، ما جعل حتى الشعوب العربية تعيش حالة من الارتباك السياسي و الحيرة من الإسقاطات المدمرة لثوراتها. و هذا الوضع هو ما يدفع الآن بالعديد من الأحزاب السياسية في الجزائر، لا سيما الأحزاب المشاركة بالسلطة ، إضافة إلى المؤسسة العسكرية إلى التمسك ببقاء الرئيس بوتفليقة في الحكم ، خوفاًمن حدوث فراغ كبير يؤدي إلى تفجير الوضع في الجزائر، في ظل تنامي الإرهاب في معظم العالم العربي.
ومن المعروف في التاريخ السياسي المعاصر في الجزائر أن الجيش هو الذي يصنع الرؤساء في الجزائر لا صناديق الاقتراع ، و هو دائما يلعب دورا ً أساسا ًفي تعيين أو إقالة الرؤساء، إذ تعتبر المؤسسة العسكرية الجزائرية أنها الحامية الوحيدة لقوانين الجمهورية، إذ لم تشهد أي انقسام في صفوفها مطلقا ً في خلال أخطر الأزمات،على غرار المؤسسة العسكرية التركية التي تعتبر نفسها الحامية الوحيدة للعلمانية. وفضلاً عن ذلك، لا تؤمن المؤسسة العسكرية الجزائرية بالتوريث، وهي تشترط أن يكون الرئيس المستقبلي للجزائر أن يكون على دراية كاملة بالملفات الأمنية على المستوى الإقليمي والدولي ،وأن يكون نظيفًأ ومحبوبًا من الشعب الجزائري ، وغير متورط في أزمات الولايات الرئاسية الأخيرة.والحال هذه، لا يمكن لهذه المؤسسة أن تدعم شقيق الرئيس بوتفليقة نظرًا لشبهات الفساد، إذ تتحدث التقارير بشكل دائم عن علاقة بين سعيد بوتفليقة ورجال المال والأعمال.
لاجدال في أنّ بقاء الرئيس بوتفليقة في الرئاسة مدى الحياة،رغم عجزه عن القيام بأي مبادرة من أي نوع كان في مجال إصلاح المؤسسات، يكرّس العناد والجمودالمهيمنين على سياسات الدولة الجزائرية .ومادام الرئيس بوتفليقة الحاضر-الغائب، ليس لديه أي همّ سوى أن يكون هواري بومدين آخر، ستظل الجزائر تعيش في ظل دكتاتورية متجددة قد تقحم البلد في متاهة أخرى إذا ما أقدم النظام على القيام بمغامرة توريث الحكم لشقيق الرئيس سعيد بوتفليقة.
فمسألة توريث الحكم في الجزائر ، ستفسح في المجال لفتح مشاكل سياسية ومناطقية عنيفة،لا سيما أن مناطق عديدة باتت تعتبر نفسها ضحية لفترة حكم الرئيس بوتفليقة ، مثل منطقة الشرق و القبءل ، وستقضي على كل طموحات و انتظارات المجتمع الجزائري في تحقيق الإصلاحات الديمقراطية الضرورية، التي تنقل الجزائر من وضعية حكم الحزب الواحد ذي الرأسين (حزب جبهة التحرير الوطني ، و التجمع الوطني )،إلى تأسيس مرحلة انتقالية تفسح في المجال لإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية ، القادرة على إعادة بناء اقتصاد مزدهر، حيث يعاني الاقتصاد الجزائري من تبعية لعائدات الغازوالنفط التي تحولت إلى كارثة منذ انهيار أسعار الطاقات الأحفورية،وعلى لعب دور إقليمي رائد في منطقة المغرب العربي ، بل على الصعيد القارة الإفريقية.
توفيق المديني
المصدر: صحيفة الحياة اللندنية_27أوت2017