رأي

نصيحة لمن يحكم تونس

 

 

لست متأكدا بداية إن كنت أنت الذي يحكم بالفعل؟ أم أن الأمور تجري كما يتردد حينا بعلمك وأحيانا من وراء ظهرك. ولكن ما أعلمه ويعلمه التونسيون جميعا هو أنك أنت المسؤول الأعلى والأول، حتى إن كنت رسميا وبالدستور الجديد محدود المهام والصلاحية.

ولHجل ذلك سأخاطبك أنا الذي ولدت وعشت في عصر كانت النصيحة فيه قدحا وتجديفا وحتى معصية وخيانة، لأثير معك مسألة واحدة لا غير وهي مستقبل شراكتك في الحكم مع الإسلاميين. وحتى تطمئن فسأخبرك أني لست ممن يلومك أو من يستغرب كيف توصلت الآن فقط، وبعد سنوات من الشراكة والوفاق معهم إلى أنهم لم يصلوا بعد لدرجة المدنية، التي كنت ترغب فيها. ولست من الذين لا يفهمون لماذا لن تطمئن أو ترتاح لهم أبدا مهما قالوا وفعلوا ومهما قدموا من ترضيات وتنازلات. فكل ذلك يبقى من صميم حقك في اختيار الأقرب لقلبك.
وأنت تعلم ولا شك بأن القلوب معلقة فقط بيد الله، وليس لي أو لغيري أن يطلب منك أن تدوس على قلبك لتحبهم وتودهم بالغصب، أو أن يطلب منهم بالمقابل أيضا أن يبادلوك الحب والود والهيام. ولكن هل لي أن اسألك فقط إن كان اختلافك عن هؤلاء الإسلاميين، الذين يجمع العالم بأسره على أنهم الاكثر اعتدالا وسلمية وحكمة من بين باقي الاسلاميين العرب، وكرهك الفطري لهم مبرر كاف لرفضهم واقصائهم والسعي لازاحتهم بشتى الطرق وانكار حقهم في الإسهام في قيادة بلد قلت أنت بنفسك أكثر من مرة انه يحتاج لجهود وطاقات كل ابنائه بلا استثناء.

لطالما جربتم القوة معهم وسلطتم عليهم على مدى عقود طويلة أقسى ألوان القمع والاجتثاث والاستئصال، وأشدها فظاعة وألقيتم آلافا من شبابهم ونسائهم وشيوخهم وراء قضبان السجون والمعتقلات، بتهم تافهة وجوفاء ولمجرد الاشتباه والتشفي، ونكلتم بهم وبعوائلهم بأساليب خسيسة لاإنسانية، ودفعتم آلافا آخرين للجوء والتشرد بين قارات العالم الخمس، وقطعتم أرزاق الباقين ونغصتم عيشهم وقلتم عنهم إنهم قتلة وإرهابيون يتسترون بالدين، وأعلنتم أنكم بتجفيف منابع الإسلام والتضييق على المتدينين ستقتلعون «النهضة» من جذورها، وستجعلونها بعد كل التشويهات والنيران الاعلامية التي صوبتموها بحدة وشراسة نحوها أثرا بعد عين. ولكنكم شاهدتم النتيجة بانفسكم، لقد عادت «النهضة» أقوى عودا وأشد تنظيما وأكثر قوة ونفوذا لتقابل كل تلك الاحقاد والجرائم بالصفح والتجاوز، الذي لم يكن ليخطر على بال أحد منكم . فلماذا اذن لا تستخلصون الدرس ولا تدركون ان منطق الاجتثاث والاقصاء والنفي قد ولى وانتهى، وأنه لم يعد صالحا ومناسبا للمرحلة.

لا يكفي أن تقولوا إنكم لن تستنسخوا «النموذج المصري» سيئ الذكر، وإنه لا سبيل ابدا للعودة الى الوراء والنكوص عن الديمقراطية، وإنه ليس في خططكم الانقلاب على التجربة يوما ما والزج بهم من جديد في السجون والمعتقلات تحت تهم الارهاب اياها، ما دمتم قد غيرتم المنهج والتكتيك، واحتفظتم بالهدف والغاية نفسها، وصرتم تبحثون عن مخرج مناسب للتخلص منهم بالمكر والحيلة هذه المرة، بعدما عجزتم وفشلتم في السابق في فعل ذلك بالعنف والقوة العمياء.

لنكن عمليين وواقعيين، ما الذي يخيفكم بالتحديد ويجعلكم قلقين لدرجة الهوس من هؤلاء الاسلاميين؟ ستقولون ربما إنكم ترتابون في صدق نواياهم وتعتقدون جازمين بانهم ظلاميون مستبدون يريدون أن يطوعوا الديمقراطية ويجعلوا منها مصعدا للوصول للسلطة، وانهم بمجرد أن يتحقق مرادهم سوف يتركونها جانبا ليقيموا ديكتاتورية دينية تبطش بالخلق وتدوس كل الحقوق والحريات وتكون شبيهة بنظام الملالي في ايران، أو ربما حتى أشد منه تشددا وتعصبا، وأنهم سيلغون ساعتها كل القوانين والتشريعات التحررية التي تطبق في تونس منذ ستين عاما ويعيدونها إلى عصور الظلام والانحطاط. ومع أنه من حقكم ان تفكروا في ذلك، وحتى أن تقولوه مرة ثانية لشعبكم عساه يصوت لكم في الانتخابات المقبلة، إن قررتم إجراءها بالطبع مثلما فعل قبل ثلاث سنوات من الان حين صدق بانكم ستكونون السد المنيع الذي يحميه من الهجمة الاصولية الكاسرة، إلا انكم تعرفون جيدا ان كل ذلك ليس سوى وهم وخرافة صنعتموها بانفسكم وعملتم على نشرها، رغم ادراككم إنها صعبة، بل حتى مستحيلة التحقق على الاقل في هذا الظرف بالذات. ألستم أنتم من تمسكون الى الان بكل مقاليد الدولة، من أعلى رأسها الى اخمص قدميها؟ وأليس رجالكم هم الذين سيروها ويستمرون في تسييرها على اختلاف الازمة؟ إذن ما الذي يمكن لهؤلاء الاسلاميين فعله وكيف سينقلبون على نظامكم؟ هل مسكتم على مدى أكثر من اربعين عاما من ولادتهم ووجودهم، أي خيط أو دليل حقيقي على تورطهم في العنف؟ او دعوتهم للاحتراب الاهلي أو لقلب انظمة الحكم؟ أو سمعتم احدا منهم يكفركم او يكفر دولتكم ويدعو لقيام دولة الخلافة؟ أو حتى يرفض قوانينكم وتشريعاتكم ويدعو لتطبيق احكام الشريعة بدلا عنها؟

لنفترض ان كل احلامكم تحققت وتمكنتم بضربة قاصمة وسريعة من فض شراكتكم بهم، وقضيتم عليهم وعلى أفكارهم ومواقفهم التي ترتابون منها، هل تظنون إن طريقكم سيصير ساعتها مفروشا بالورود؟ وانه لن تعترضكم محن وازمات اقوى واشد من تلك التي كانت ستحصل لو كانوا موجودين معكم؟ هل سيختفي حينها كل معارضيكم وسيتبخر تماما ونهائيا مثلما يتوهم خبراؤكم ومنظروكم أي اثر لما يسمى «الاسلام السياسي » في تونس ؟

ان كنتم تتصورون ان ذلك ممكن بالبساطة والسهولة التي تتوقعون، فانتم ولا شك غائبون عن الوعي ولا تملكون حتى الحد الادنى من المعرفة والاطلاع الكافي على ما يجري داخل وخارج بلدكم. ألا تعرفون ان الطبيعة تأبى الفراغ، وان غياب النهضة أو الاخوان او أي حركة سياسية سلمية اخرى، سيفتح الباب واسعا لحركات وتنظيمات اكثر تشددا ودوغمائية وانغلاقا؟ ثم أليس توافقكم مع الاسلاميين بالذات هو سر نجاح تونس، مقابل فشل باقي التجارب في مصر وسوريا وليبيا وغيرها؟ لم تستبدلون النجاح اذن، وان كان نسبيا ومحدودا بمغامرة عبثية مجنونة لا تدركون مآلها ومصيرها؟ لقد واجهتم بلا شك ولازلتم تواجهون ضغوطا قوية ومستمرة، وربما حتى تهديدات خارجية لتفضوا شراكتكم بهم وتعلنوا الحرب عليهم، ومن المؤكد ايضا إن طموحكم في الاستئثار والانفراد بالسلطة وابقائها ملكية خاصة وحصرية بسلالتكم هو الذي يجعلكم مذبذبين ومحتارين في التعامل معهم. ولكن هل ترضون لتونس مصيرا مظلما وقاتما ومجهولا؟ وهل تملكون الان بديلا فاعلا وجاهزا لهذا التوافق الذي شبهتموه يوما بخطين متوازيين لا يلتقيان؟ لن أقول لكم في الاخير إن شركاءكم هم الاحسن والافضل على الاطلاق، أو انهم زهاد لا يفكرون مثلكم في السلطة، ولا يعرفون حيل السياسة وآلاعيبها، ولكني اقول لكم فقط من باب النصيحة فكروا جيدا بتونس اولا قبل ان تفكروا بانفسكم فايا و تلافيف غزوة مانشستروبسلالتكم، وبمن يدعونكم ليل نهار للخراب والدمار.

نزار بولحية _ القدس العربي 2017/09/13

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق