
أخيرا أزيح الستار عن حكومة يوسف الشاهد في نسختها الثانية التي حملت معها أسماء جديدة. وأنهت مهام وزراء وأبقت على آخرين وسط تباينات في الآراء والردود ذهبت جلها باتجاه مقاربة المكاسب السياسية التي نالها كل طرف أو خسرها في هذا التعديل الحكومي مقابل الاشادة والتنويه ببعض الكفاءات والخبرات التي التحقت بالحكومة، غير أن العديد من تلك القراءات وقعت «أسيرة» مقاربة ضيقة انتصرت لمنهج المقارنة دون أن تستحضر الاطار «الماكرو» لهذا التحوير أو المعادلة السياسية التي حكمته.. و«الطبخة» التي أنتجته.. وإذا كان ليس خافيا أن مخاض المشاورات الماراطونية التي قادها رئيس الحكومة مع مختلف قادة الأحزاب كان مضنيا وشابته ضغوط وعقبات كبرى أجّلت خروج التشكيلة الحكومية الجديدة إلى حيّز الوجود في أكثر من مرة، إلا أنه حاز في النهاية على تأييد غالبية الأحزاب والقوى السياسية مما جعلها أول حكومة تحصل على مثل هذا الاجماع السياسي منذ ثورة 14 جانفي. وهو ما من شأنه بالتالي أن «يعبّد» أمامها طريق نيل الثقة خلال الجلسة البرلمانية المنتظرة يوم الاثنين الماضي.. لكن ما ينتظر حكومة الشاهد 2 أكبر من مجرّد الحصول على ثقة البرلمان وأكبر حتى من تصريحات الشاهد بأن التعديل الوزاري سيحوّل حكومة الوحدة الوطنية إلى «حكومة حرب» ضدّ الفساد والبطالة والتفاوت الجهوي ومن تصريحات رئيس الدولة باجي قائد السبسي بأن «التحوير الوزاري هو فرصة الأمل الأخير من أجل وضع الأمور في نصابها والابتعاد عن السلوك المغامر» مع أنها في الحقيقة كذلك ،قولا و فعلا، بما أن أي فشل محتمل لهذه الحكومة الجديدة لن تكون نتيجته هذه المرة تحويرا وزاريا آخر بل ربما يفضي -لا سمح الله- إلى خروج الوضع عن السيطرة خاصة لما نعلم أنها المرة الأولى التي يتم فيها، منذ 14 جانفي 2011، منح رئيس حكومة فرصة القيام بتشكيل حكومة مرتين بما يعني أنه لن يكون مسموحا له الحصول بالتالي على فرصة ثالثة… لكن الدعم الذي حصلت عليه هذه الحكومة خلال هذا التحوير و الحاضنة السياسية التي حظيت بها من قبل القوى الفاعلة في المشهد السياسي بدءا من الاتحاد العام التونسي للشغل مرورا بالحزبين «الكبيرين» وصولا إلى التوازنات السياسية التي «تؤمّن» تركيبتها التي تضم مزيجا من الوزراء المتحزبين والكفاءات والشخصيات الوطنية المشهود لها بالخبرة، توحي بأن التعايش بين مكوناتها لن يكون صعبا لا سيما إزاء القضايا والاستحقاقات الكبرى… لكن أيا كانت هذه التوازنات ،على أهميتها القصوى، فإن السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو: هل تنجح هذه الحكومة في الامتحان وفي المهام الكبرى التي تنتظرها خصوصا على المستوى السياسي. ونعني هنا بالأساس الاستحقاقات الانتخابية، الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، وعلى المستوى الاقتصادي الذي يشكل انهيار الدينار وشبح الافلاس أبرز عناوينه؟
«العناوين» كثيرة و كبيرة لكن حلها سيبقى رهين الظروف وأجواء المشاورات التي سترافق الاجتماعات والجلسات المنتظرة للأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج خلال المرحلة القادمة سعيا إلى بلورة رؤية مشتركة تساعد هذه الحكومة على كسب حروبها على الفساد والارهاب والانهيار الاقتصادي. لكن هذه الحروب الثلاث لا شك في أن وجود شخصيات وطنية اعتبارية في التشكيلة الجديدة كوزارة الدفاع والداخلية والمالية يجعل كسبها ممكنا شريطة أن تحضر الجرأة السياسية وروح النجاعة والإرادة الاصلاحية في العمل الحكومي وأن تطغى المقاربة التشاورية مع كل الفرقاء في القضايا الكبرى للوطن.
إن الحاجة ماسة الآن إلى استيعاب حقيقة أن الحقل السياسي والعقل السياسي في تونس يحتاجان بشكل استعجالي اليوم إلى الوعي العميق بدقة اللحظة التي تستوجب بالخصوص العمل على تثبيت مستلزمات الاستقرار على جميع المستويات مع ما يفترضه ذلك من انخراط فوري وفعّال في ثقافة البناء والاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أدى تعثّره و«تعذّره» إلى هدر الكثير من الوقت والجهد والفرص التي تشدّ إليها الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتلبية آمال المواطن وتطلعاته ولو في حدودها الدنيا..
من أعطاب الراهن السياسي أننا سرنا في خط انحداري و«هبوط اضطراري» منذ أن تراجعت السياسات الوطنية لحساب الأجندات الخارجية ومنذ أن انكشف الوضع الداخلي على المزيد من الانغماس في السياسات الحزبية الضيقة التي أحدثت اهتزازا مدويا في ثقة المواطن بالطبقة السياسية…و هي دائرة خطيرة بات طرح الأسئلة الجادة للخروج منها مسألة أكثر جدية…و بات فيها استنهاض الخيارات والتفكير في الأفق السياسي والاقتصادي عنوانين مهمّين. لكن الأهم اليوم هو التوقف عن «هدر» معاناة المواطن في متاهات الصراعات العبثية.. والتأسيس لدولة وطنية قوية..
هل هذا «حلم»؟.. ربما، لكننا لن نشفى منه!