إصدارات

صدر عن المعهد العالي للغات بتونس.. «المنطوق الثوري.. انقطاعات وانزياحات».. هل الربيع العربي ثورة لسانية؟

«هل الرّبيع العربي ثورة لسانيّة ؟» هو عنوان من بين عناوين كثيرة لمقالات صدرت مؤخّرا في كتاب بعنوان «المنطوق الثّوري: انقطاعات وانزياحات» « Le parler révolutionnaire :Ruptures et Dérives » الصّادر عن المعهد العالي للّغات بتونس في ماي 2017، وقد أشرف عليه الأستاذ بورقيبة بن رجب وكان ذلك في إطار ندوة علميّة دوليّة التأمت بالمعهد العالي للّغات بتونس جامعة قرطاج في ماي 2013، شارك فيها عدد من اللّسانيّين من دول مختلفة أروبيّة وعربيّة، وتضافرت فيها كل الجهود للنظر في موضوع «المنطوق الثّوري» من زوايا نظر مختلفة ومتنوّعة، فكانت النتيجة صدور هذا الأثر المتكوّن من ثمانية عشر مقالا باللّغتين الفرنسيّة والعربيّة بحثت كلّها في تأثير حدث الثّورة على اللّغة وإدراك العالم بعد التحوّلات الحاصلة في دول الرّبيع العربي.

لقد كان هدف الباحثين المشاركين في النّدوة، الكشف عما وقع للّغة بعد حدث الثورة في بعض البلدان العربيّة، والّتي سميّت بثورات «الرّبيع العربي»، لأنّهم لاحظوا حدوث انقطاعات وانزياحات أصابت نظامها، فانقطعت علاقات بين الكلمات ومعانيها والمصطلحات ومفاهيمها، ورست دلالات أخرى ومعاني حافّة مستحدثة، ما كانت لتطفو على السّطح لولا حدوث الثورة الّتي كانت قادحا محفّزا لإعادة النّظام إلى أشياء تزعزع نظامها واحتاج إلى إعادة حسابات وإعادة نظر في ظلّ التغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة الحاصلة.

الرّبيع العربي ثورة متجلّية في المنطوق:

إنّ اللّساني لا يحاول أن يغيّر الواقع بقدر ما يحاول فهمه وتفسيره من خلال اللّغة والكلام، فالتغييرات والتحوّلات الّتي برزت بعد الثورات سجّلت حضورها في الكلام المنطوق من خلال ظهور ظواهر لغويّة جديدة لم تكن موجودة قبل الثّورة، فكأنّ الكلام المستعمل بين الناس قد ثار بدوره على اللّغة وكوّن أشياء نظاميّة جديدة تشتغل بمنطق آخر مخالف للمنطق المعهود، فظهرت كلمات جديدة ومصطلحات مستحدثة تعبّر عن تصنيفات جديدة لدول «الرّبيع العربي»، كما انتقلت بعض الكلمات إلى معان أخرى حافّة ثانويّة لا نصل إلى فهمها إلّا بمعايشتنا لواقع الثورة، فمثلا نجد في بعض المقالات من تحدّث عن ظهور مصطلحات جديدة في مواقع التّواصل الاجتماعي لوصف الرّئيس السّابق مثل « Zaballah » « zaba » « benalisme»، وكذلك لتسمية الرّئيس المؤقّت المرزوقي  مثل «الزّقزوقي» و«tartorologie» كذلك سجّلت هذه المواقع ظهور أفعال جديدة متحدّثة عن الأوضاع السّياسيّة في البلاد مثل «يطرطر» من طرطور و « salafiser » من سلفي … و الملاحظ أنّ هذه الاستعمالات جاءت لتعبّر عن أفكار الشّعب التّونسي وتبيّن طريقتهم في تناول المواضيع السّياسيّة  بعد الثّورة. وقد حاول الأستاذ بورقيبة بن رجب تفسير ما يقع للمنطوق اللّغوي من انزياحات وانقطاعات،  فذهب إلى أنّ الأمر يعود إلى محاولة المتكلّم إيجاد معادلة جديدة لكلامه المنطوق تأثّرا بما يحدث لمجتمعه بعد الثّورة ، يقول:»(…) فمثلما وجب إيجاد معادلة جديدة للواقع بعد ثورة 14 جانفي فإنّه وجب إيجاد معادلة جديدة في «آلة الكلمات» المتحدّثة عن ذلك الواقع.»

الثّورة انزياح عن النّظام اللّغوي :

إنّ فرادة المقالات الموجودة في الكتاب تكمن في زوايا النّظر المختلفة الّتي انطلق منها الباحثون، فنجد في هذا الكتاب أمثلة مستمدّة من الكلام المنطوق وأخرى من الرّسوم والكاريكاتورات ومن الشّعارات المرفوعة في الاعتصامات ومن خطابات السّياسيّين ومن الكلمات والمصطلحات المستحدثة الّتي أنتجتها مواقع التّواصل الاجتماعي، فكلّ هذه الشّواهد جاءت لتفسير الكيفيّة الّتي انتقلت بها الكلمة من معنى إلى آخر والآليّات الّتي ساعدتها في ذلك، فنجد مثلا من تحدّث عن الخطاب المزدوج الّذي تميّزت به بعض الخطابات السّياسيّة، فقد قامت الباحثة مريم ماجول بتتبّع سيرورة الأحداث وسيرورة الخطابات في أزمنة متفرّقة وذلك بوضع بعض الكلمات المعتمدة في الخطابات لنفس الأشخاص  تحت الملاحظة، لتبرز في النّهاية التضارب الّذي يلحق أقوال السّياسيّين، الّذين يتلاعبون بالمصطلحات بحسب الظّروف السّياسيّة الحافّة كأن تتحوّل كلمة «متطرّف» قبل 14 جانفي إلى  كلمة «متظاهر» بعد 14جانفي ثمّ تتحوّل إلى «مشاغب» لتصل إلى «ارهابي» في ظروف معيّنة، وهو ما يفقد الخطاب مصداقيّته وما يوقعه في دائرة «الكذب».

كذلك نجد من المقالات ما بحث في أسباب اختيار كلمات معيّنة والتخلي عن كلمات أخرى، فعند وصف ما حدث بعد الثّورة هناك من اختار مصطلحات معيّنة على حساب أخرى مثل «الصّحوة» ،»النّهضة» «اليقظة» وهي كلّمات تدعّم فكرة التحوّل الحاصل في البلدان العربيّة بعد حالة «السبات العميق» الّتي كانت تعيشها هذه الدّول. فصورة النوم والسّبات وأهل الكهف،الّتي طالما وصف بها العالم العربي، كانت كفيلة بإخراج كلّ هذه المصطلحات للتّعبير عن واقع ما بعد الثورة.

ولعلّ فكرة «الرّبيع العربي» الّتي اتّفق عليها أغلب المتكلّمين تعود أيضا إلى التمثيلات الذّهنيّة الّتي ترى في الرّبيع صورة الشّباب والخصوبة وظهور البراعم الجديدة، فقد رأت الباحثة ريم بن يعقوب أنّ كلّ تلك الصّفات تجتمع في ذهن المتكلّمين للتّعبير عن تفاؤلهم بالثّورة وبالفعل الشّبابي وبتغيّر الأحوال إلى الأفضل..

لقد قدّم هذا الكتاب رؤية جديدة لثورات الرّبيع العربي من منظور لساني، فعادت بنا الأمثلة المعتمدة في المقالات إلى أجواء الثّورات في بداياتها، وربّما تكون نفس تلك الأمثلة قد اكتسبت اليوم، وبعد مرور ستّ سنوات، أبعادا أخرى في ظلّ الأحداث السّياسيّة العالميّة الرّاهنة، الأمر الّذي يؤكّد على ديناميكيّة اللّغة من جهة وعلى فرادة ما قدّمه هذا الكتاب من جهة ثانية.

المصدر: الصباح، 2017/06/29، ص9.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق