
تسلّمت حكومة يوسف الشاهد في تونس مهامها يوم 29 أغسطس/ آب 2016، بوصفها حكومة الوحدة الوطنية المفترض أن يكون قوامها تقديم طرح متماسك للوحدة الوطنية الصادقة والقوية والخالية من كل مقاصد سياسوية خفية، تخدم مصلحة إنقاذ تونس من الأزمة الكبيرة التي تتخبط فيها، وانتشال الدولة التونسية من أوضاع التقسيم والتفكك والضياع التي تعيشها، والانتقال بها إلى وضعٍ يمكّنها من توحيد طاقاتها وجهودها، وصهر هذه الطاقات والجهود لتحقيق أهداف الثورة. وهذه العملية معقدة لأنها تفترض توحيد الطبقات و الفئات الاجتماعية ، من الطبقة المتوسطة، و طبقة الشغالين ،والفلاحين ، وطبقة الرأسماليين الوطنيين ،إضافة إلى النقابات العمالية ، واتحادات الفلاحين ، واتحاد الأعراف إذا قبل ببلورة بمنوال تنمية جديد يقطع مع تهج التبعية ،التي لها مصلحة حقيقية في تحقيق أهداف الثورة ، على الرغم من درجة انشداد كل منها إلى هذه الأهداف.
مرّ عام على مباشرة حكومة يوسف الشاهد مهامها، شهدت خلاله تقلباتٍ، وكان أداؤها محل متابعة وانتقادات من مختلف الأطراف، فضلا عن شبهات الفساد التي لحقت ببعض أعضائها. ولم تختلف حكومة الشاهد كثيرًا عن بقية الحكومات السبع المتعاقبة منذ الثورة، في ظرف سبع سنوات، حيث كان معدل حياة كل واحدة منها عامًا، ما أحدث حالة من التذبذب والارتباك واللااستقرار على مستوى سلطة القرار والعناية بالشأن العام. وكان الامتحان الحقيقي لحكومة الشاهد في قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية، لا سيما الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تعيشها تونس منذ سنوات عديدة.
تونس اليوم غارقة في حزمة من الأزمات المالية والاقتصادية، وحين تطرح الحلول الوطنية الممكنة والواقعية، تتجاهلها الحكومات المتعاقبة ما بعد سقوط النظام السابق، ولم تشكل حكومة الشاهد استثناءً في ذلك، بل أكدت مرّة أخرى أنها امتداد للفشل نفسه في حكومة الصيد، من خلال لجوئها إلى صندوق النقد الدولي للاستدانة، وأيضًا من خلال إقرارها مشروع قانون المالية الذي هو من صنيع صندوق النقد الدولي الذي يعمل وفقا لقاعدة “المال مقابل الطاعة”، والاستجابة لإملاءاته.
غير أن النقطة الإيجابية في كل هذا الوضع الاقتصادي المأزوم هي تضاعف حجم التحويلات المالية المتأتية من مداخيل التونسيين المهاجرين ومساهماتهم، بشقيها النقدي والعيني، ما بين سنتي 2006 و2016 ليتحول من 2010 ملايين دينار إلى 3913 مليون دينار سنة 2016 (أكثر من 70% منها تحويلات نقدية)، أي ما يعادل 5% من الناتج الداخلي الخام كمعدل سنوي. وتساهم هذه التحويلات بحوالي 20% من الادخار الوطني. وقد لعبت هذه التحويلات دورًا مهمًا في تعديل ميزان المدفوعات، من خلال امتصاصها قرابة 37% من عجز الميزان التجاري، كما مثلت مصدرا مهما للعملة الصعبة بمقدار 32% من “المقابيض” الصافية منها.
من أبرز النجاحات التي ستحسب لحكومة الوحدة الوطنية في ذكراها الأولى الحرب التي أطلقتها منذ أشهر على الفساد، وقد تقدّمت خطوات مهمة، وهي مسألة باتت خيارًا وطنيًا استراتيجيًا، فعلى الرغم من الانتقادات ذات الصبغة القانونية والحقوقية والإجرائية لهذه الحرب التي واجهتها، بسبب اقتصارها على مجموعةٍ معينة من المتهمين بالفساد، وعدم طرقها أبواب فساد أخرى، فإنّ الرأي العام تقبلها بارتياح كبير، لأنها كانت المرّة الأولى التي تتجرأ فيها إحدى حكومات ما بعد الثورة على محاربة الفساد.
ويعتبر ملف القروض البنكية من أهم ملفات الفساد التي أضرت بمصالح تونس، حيث عمد بعضهم من رجال الأعمال إلى إفراغ البنوك العمومية من المال، ولكن ليس لفائدتهم الشخصية فحسب، بل لفائدة كبار المسؤولين في الحكومة والإدارة. لكن المثير للجدل في تونس أنه بعد الثورة تكتمت الحكومات المتعاقبة على ملف محاربة الفساد، أما حكومة الشاهد فلم تفتح ملف استعادة القروض المتعثرة التي انتفعت بها فئة معينة من رجال الأعمال. وهو ما يطرح التساؤل عن سبب عزوفها عن مطالبة رجال الأعمال بإرجاع ما عليهم من ديون من أموال الشعب، والمقدرة بنحو سبعة آلاف مليار مليم، أي ما يعادل ثلاثة مليارات دولار.
المعضلة التي تواجهها حكومة يوسف الشاهد الآن مسألة التعديل الوزاري الذي طال انتظاره، لا سيما أن هناك شغورًا منذ أكثر من ثلاثة أشهر في وزارتين من الوزن الثقيل (التربية والمالية)، وانضافت لهما منذ أيام وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي. ويصطدم هذا التعديل بعقلية المحاصصة الحزبية، خصوصًا أن الطبقة السياسية الحاكمة حاليا، والقوى السياسية الفاعلة في البلاد، لا تزال تنظر إلى السلطة بعقلية الغنيمة، الكل يتسابق للفوز بها على حساب المصلحة العليا للبلاد وللشعب، غير مبالين بتفاقم ظواهر الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي والتهميش الثقافي في الولايات التونسية الداخلية والواقعة على الحدود مع الجارتين الجزائر وليبيا، و تفاقم اللامساواة داخل المؤسسة،وبين المواطنين، و بين الجهات ، وبين الولايات الداخلية و الولايات الساحلية المطلة على البحر،والمقاربة الضيقة لمعنى الثروة و الرفاه التي انحصرت في البعد الاقتصادي فحسب، وتجاهلت البعد الاجتماعي و البيئي، إلى جانب رؤية للدولة الاجتماعية مقتصرة على دور الترميم وتخفيف الصدمات متجاهلة دورها في الوقاية و الاستثمار الاجتماعي.
أخيرًا، على الرغم من أن يوسف الشاهد يعتبر الابن المدلل لرئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، وبالتالي فهو ابن حزب نداء تونس الحاكم، فإنّ “الندائيين” يرون أنه ارتكب ثلاثة أخطاء مهمة في حق زعيم الحزب، حافظ السبسي، وأتباعه: عدم إعطاء الحزب حقه من المحاصصة في تشكيل الحكومة، واتباعه سياسة التوزيع والتقسيم على حساب حق النداء الدستوري في تشكيل الحكومة والهيمنة على عضويتها. رفضه اقتراح حافظ حول رئاسة الحزب وتفويته فرصة غالية في تقوية “نداء تونس” عموما وشق حافظ على وجه أدق. استهداف رموز الحزب في حربه على الفساد بما يوحي بأنها حرب انتقائية، تستهدف “نداء تونس” وقادته دون غيرهم.
وفي المقابل، تنظر حركة النهضة إلى الحرب التي يخوضها الشاهد ضد الفساد بكثير من الريبة والخوف والتململ لسببين، أولهما إمكانية انجراره إلى الدعوات المطالبة بفتح ملفات فساد قد تورّط الحركة وبعض رموزها. وثانيهما ارتفاع شعبيته، بما يجعله مرشحا وافر الحظ لرئاسة الجمهورية، ما يتعارض مع الاتفاق غير المعلن بين حركة النهضة وحزب نداء تونس حول “التداول السلمي” على الرئاسة.
وهاهي تونس الآن بعد سبع سنوات من سقوط النظام السابق ، تجد نفسها واقعة في فخ القروض الخارجية، فضلاً عن أن الشروط المفروضة على الدولة التونسيّة تعتبر نوعًا من الألغام التي ستزيد من تفجير الوضع الاجتماعي وإقالة الدولة من دورها الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر هشاشة، إضافة إلى تسخير الموارد الاقتصاديّة لفائدة القطاع الخاص. وهاهي أيضًا حكومة يوسف الشاهد الحالية العاجزة عن بلورة منوال تنمية جديد، تعيد إعادة إنتاج فشل التنمية وتراكم الديون عليها، بسبب الضعف المزمن في البنية الاقتصادية، والفساد السياسي الذي تمارسه النخب الحاكمة و رجال الأعمال ،وهروب رأس المال الوطني إلى الخارج ، وفشل النموذج الليبرالي المفروض للتنمية وعلى البضائع والتوصيات المقدمة من الدول الصناعية والمؤسسات الدولية المانحة، أي نموذج التنمية الليبرالي المفروض وجوهره (توافق واشنطن). ولا بد من الإقرار بأن تونس اليوم تستهلك أكثر مما تنتج وتنفق أكثر مما تستخلص من موارد، وأنّ الشعب التونسي أنهكه التواكل ولا يولي لقيمة العمل أي اعتبار ولا يجد القدوة في طبقة سياسية حاكمة مهترئة وغارقة في الشعارات الخاوية والمزايدات والمهاترات.
إن الخيار الأنجع لتأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في تونس من نوع آخر ،مكان النظام الاقتصادي المهترء و الفاقد لكل صلاحية وشرعية ، يجب أن ينطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، ومن إعادة النظر في المنوال التنموي القديم برمته الذي أثبت محدوديته وعدم قدرته على مجابهة التحديات القائمة والمنتظرة باعتماده على قطاعات تقليدية ذات إنتاجية منخفضة وقيمة مضافة ضعيفة وعلى تراكم كمي لعوامل الإنتاج دون تطور ملحوظ في إنتاجية هذه العوامل.فلا مناص من منوال تنمية بديل يجمع بين النجاعة والعدالة ويعتمد على القطاعات المجددة ذات القيمة المضافة العالية والمحتوى المعرفي والتكنولوجي المرتفع. وبهذا المعنى على الدولة التونسية أن تتدخل لبناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، القادر وحده على تصحيح التوازنات المفقودة لمنوال تنمية تونسي في أزمة.
توفيق المديني
المصدر: صحيفة العربي الجديد، 29أوت 2017