تحاليل

بعيدا عن “اللبس” الاديولوجي…أيّ ضرورة لنظام الأوقاف في الاقتصاد التونسي

 

 

أثار مشروع القانون الخاص بالأوقاف الذي طرح على المجلس الوطني التأسيسي سنة 2013، جدلا واسعا في تونس حيث اختلفت الاراء بين مؤيد للقانون باعتباره “يحقق العديد من الاهداف التنموية” ومعارض له كونه يعد بمثابة “تهديد لمدنية الدولة”، وبعد أخذ ورد واتهام صريح لحركة النهضة بـ”أسلمة” الدولة حينذاك ظلّ مشروع القانون ملازما رفوف البرلمان.

ويوم الاثنين 28 أوت، نفض رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الغبار “مجددا” عن هذا المشروع، حيث دعا الكتلة النيابية للحركة بمجلس الشعب إلى تقديم مشروع  قانون جديد للأوقاف والاقتصاد التضامني الاجتماعي من بين أهدافه دعم التعليم العالي والبحث العلمي.

واعتبر الغنوشي ان هذا القانون سيكون حلا لمشاكل التعليم في تونس وسيجعل من التعليم لا ينتمي للقطاع الخاص كما لن يكون حكومي إنما تعليم تضامني، وفق تعبيره.

قلنا “مجدّدا”، باعتبار أنّ تونس ألغت سنة 1959 هذا القانون، ذلك أنّه شهران فقط بعد إعلان الإستقلال أقر رئيس الجمهورية آنذاك   الحبيب بورقيبة قانونا تم على إثره إلغاء الأوقاف العامة وحل جمعية الأوقاف ودمج العاملين في قطاع الأوقاف في مؤسسات الدولة وأشفع هذا القرار بقانون ثان سنة 1957 يلغى بموجبة الأوقاف الخاصة والمشتركة.

وبُرر إلغاء الأوقاف بمحاولة دولة الإستقلال تحديث مدونتها القانونية وبسط هيمنتها وسيادتها على المؤسسات القائمة حينها ووقف العجز المالي لجمعية الوقف وتحرير الإقتصاد وإيجاد موارد جديدة للدولة.

جامع الزيتونة الذي تأسس قبل حوالي 13 قرنا، يعتبر مثالا حيا على نظام الأوقاف، وتمت مصادرة جميع ممتلكاته في بداية عهد الحبيب بورقيبة، وفي 12 ماي 2012، أعلنت مشيخة جامع الزيتونة استئناف التعليم الزيتوني بالجامع وفروعه الـ 25 في كامل الجمهورية التونسية.

والوقف هو “ملكية دون انتفاع وصنف قانون 57 الأوقاف إلى صنفين اثنين: أوقاف على النفس أي تحبيس الرقبة وهي الأوقاف الأصلية المتعارف عليها وتبقى على ملكية الحابس حتى بعد موته وعلى منفعة المجموعة. أما الصنف الثاني فهو أوقاف على الصالح العام والتي تؤول إلى الصالح العام بعد موت الحابس على غرار أوقاف عزيزة عثمانة كمستشفى عزيزة عثمانة وما حوله”.

وتعتبر الأوقاف من ضمن المؤسسات القانونية التي كانت سائدة قبل الاستقلال، ولازالت موجودة في بعض الدول الإسلامية وغيرها من البلدان، وتعني الأوقاف وقف أو “تحبيس” بعض الممتلكات لفائدة مؤسسات خيرية أو تربوية أو علمية…

الأوقاف “تغزو” العالم

عالميا، راج نظام الوقف (foundation) في التعليم بالولايات المتحدة الأمريكية،  ليحتل نصيب 80 %، فبيل وميلندا غايتس مؤسسة برأس مال يفوق ميزانية عدة دول مجتمعة، ويتجاوز مقدرات مؤسسات دولية عظمى كالمنظمة العالمية للصحة، أثرها في العالم يتجاوز أثر الولايات المتحدة في قطاعات التعليم والبحث العلمي والوقاية من الأمراض والتطعيم والتنمية البشرية والفلاحية وغير ذلك.

وجامعة كامبردج البريطانية، الأكبر بالعالم من خارج الولايات المتحدة، وأفضل جامعة بريطانية، بل الأفضل على مستوى العالم، أخرجت 65 عالماً نال جائزة نوبل، مثل اسحاق نيوتن وستيفين هوكينغ، 50 بطلاً أوليمبياً بريطانياً، 15 رئيس وزراء بريطاني، الخ. رأس مال المؤسسة الموقوف لخدمة أهدافها التعليمية 6 مليارات جنيه إسترليني.

وجامعة أكسفورد الأقدم بإنجلترا والاكثر شهرة، تقوم أساسا على التبرعات وعلى دخل مؤسساتها السبع التي تضمن تغطية مصاريف معاهدها الثانوية وكلياتها المتميزة على مستوى العالم.

ذلك أنّ، أكبر الشركات الناجحة على مستوى العالم تساهم في التغطية الاجتماعية لموظفيها وعمالها وتشارك كمساهم أساسي في إنعاش الحياة التعليمية والطبية والثقافية عبر تأسيس مؤسسات ترعاها وتمولها.

حسابات ايديولوجية…

إلى ذلك، فإنّه لما فكك الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الحبس والاوقاف بتونس بعد الانفصال الإداري عن فرنسا، كانت حساباته أيديولوجية وسياسية بحته، ولم يأخذ بالحسبان حاجة المجتمع التونسي للمؤسسات الداعمة من خارج الدولة.

ففي الأخير، كل أملاك المؤسسات الوقفية آنذاك تحولت الى أملاك للدولة، ولم تستطع استغلالها كما يجب طبق إرادة الواقفين، فضاعت الأموال وضاعت الأهداف، وتحول المجتمع التونسي إلى مجتمع ضعيف مرهون بقدرات الدولة المالية الضعيفة وبإرادة السياسيين. ووقع تجريد المجتمع من أدوات الفعل الذاتي، عكس المجتمعات الغربية والاسيوية التي حافظت على زخم العمل المدني، فأتاح ذلك للدولة التخفيف من الأعباء وللمجتمع التنظم لتحقيق ما تعجز عنه الأطر الرسمية عبر عمل الخير بمعناه الواسع.

لهذا، فإنّ ربط مبادرة تقديم مشروع قانون المؤسسات، أو الأوقاف كما يحلو لفقهائنا تسميتها، بحركة النهضة، مزعج لسببين:

أوّلا، سينبري حتما بعض المعتادين على معارضي النهضة على تلبيس الموضوع لبوس الأيديولوجيا والدين، وسيجعل من الموضوع محاولة من النهضة لاستغلال المؤسسات والأوقاف المقبلة لصالحها عبر تجيير الجهود الشعبية لغايات تخدم التوجه الديني المجتمعي.

ثانيا، سيقع تقزيم الموضوع وحصره في كون المؤسسات تحمل معنى دينيا، ويقع التضحية بكافة الأبعاد الاجتماعية والعلمية والانمائية. كما ان من يريد اضعاف المجتمع لتسهيل حكمه، لن يرضى بإرساء اهم رافعة اجتماعية على الاطلاق تمتعت بها الدول المتقدمة ولا تزال.

من منطلق مبدئي، يجب على كل الأحزاب، وفي مقدمتها الجبهة الشعبية والنداء، لا النهضة فحسب، العمل على تنقيح مجلة الالتزامات والعقود بشكل يتيح الإنشاء للمؤسسات، مع ضمان رقابة الدولة المالية والإدارية، كما يجب الضبط لأنواع المؤسسات، الاقتصادية منها والاجتماعية والتربوية والدينية، لكي يقع اجتناب التعسف في استعمالها، سواء من طرف الأفراد أو الجماعات، كالأحزاب وغيرها.

والمهم ان التجارب متاحة وكثيرة على مستوى العالم، وتفاصيل التجارب السويسرية والفرنسية والبلجيكية، لكي نقتصر على المدارس الفرنكوفونية القريبة، ممتازة ومتاحة، بما يجنبنا تلاعب الأحزاب واقحام الأيديولوجيا في المسألة.

ان بورقيبة لما ألغي الأوقاف، اجزم انه لم يرد إضعاف قدرة المجتمع التونسي على النهوض.

في زمانه، كانت الظروف مختلفة وكانت أولوية الحزب الدستوري آنذاك مقاومة المد الزيتوني والتعليم الزيتوني والفكر الزيتوني وغير ذلك من الثقافة التقليدية التي حسب بورقيبة انها سبب التخلف، فاِتبع آنذاك القوانين الفرنسية الموجودة، وقد كان المشرع الفرنسي مصاب حينها بحساسية تأثير الدين على المجتمع.

غير أن البرلمان الفرنسي راجع نفسه بعد ذلك وأقر المؤسسات بأنواعها في قانونه المدني، اما تونس المقلدة، فبقيت على الحال السابق للدولة الفرنسية النموذج، ولم تتبع تطور مؤسستها التشريعية.

ويرجع الأمر في ذلك إلى كون البرلمان الفرنسي حي ومتأثر بمحيطه الاجتماعي والاوروبي والدولي وببحث عن المصلحة لشعبه الذي انتخبه بلا تزوير، اما البرلمانات التونسية المتعاقبة حتى الثورة، فكانت حتى تاريخ انتخاب المجلس التأسيسي قائمة على التدليس لإرادة الشعب والوفاء للحزب بأيديولوجيته التاريخية التي ربطت مسألة انشاء المؤسسات بالدين، فهي ترفضها آليا بلا تفكير.

وليس مفاجأ ان أعضاء المجلس التأسيسي المنتخبين من الشعب بشكل سوي هم من طرح الموضوع من جديد، وكانت ردة فعل الساحة السياسية والحزبية مبنية على الرفض البين للمؤسسات بناء على ربطها الآلي بالدين، او الالحاح عليها والمطالبة بها، أيضا عبر ربطها بالدين.

وفي كلتا الحالتين، يكون مفهوم المؤسسة المعاصرة كما هو متعارف عليها في المجتمعات المتقدمة قد ضاع او يكاد.

مع إعادة طرح الأستاذ راشد الغنوشي للمسألة ومطالبة كتلة حركته تقديم مشروع لإدخال نموذج المؤسسة في القانون التونسي، ارجو ان لا تغلب الأيديولوجيا المصلحة الوطنية من جديد، وارجو ان تفهم الأطراف التي تتصدر الدفاع عن التقدمية والمجتمع العصري ان المؤسسة أداة لا غنى عنها اليوم لأي اقتصاد ناجح ولأي مجتمع ناهض. كما ان حرية التنظم والاجتماع، وهي حريات أساسية دستورية، لا معنى لها اطلاقا ان منع المواطن التونسي من فعل الخير، وخاصة في المجالات التي تعجز الدولة عن تغطيتها كالصحة والتعليم والبحث العلمي والتنمية المستدامة والتنمية الجهوية.

فرصة جديدة إذا قد تكسر ضباب الأيديولوجيا لارساء مؤسسة ضرورية لنهضة البلاد، فهل سنجتمع من اجل تونس، او نسقط في مستنقع الكره والأيدولوجيا لتكريس اضعافها. للحديث بقية…

رضا العجمي *

المصدر: الضمير، 29-08-2017

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رضا العجمي محامي ورئيس مركز جنيف للديمقراطية وحقوق الإنسان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق