تونسرأي

الانتخابات البلدية في تونس

 

 

وقف مندهشا ينظر إلى هذا الرصيف في شارع الهادي نويرة، أطول شارع في العاصمة التونسية بحي النصر الشهير وقد التهمت منه المقاهي والمطاعم هناك ما شاءت. لم تعد هناك من إمكانية لاستعمال المشاة لهذا الرصيف إلا بشكل متقطع، بمعنى أن تسير قليلا عليه ثم تجد مبنى في وجهك فتنحرف للمشي على الطريق بمحاذاة السيارات المسرعة، حتى تجد «ثغرة» تعيدك إليه وهكذا دواليك. لقد «قـُـــضم» الرصيف من قبل هذه المحلات التي استغلت حالة فوضى ما بعد الإطاحة ببن علي في كانون الثاني/يناير 2011 لتفعل ما تريد بما في ذلك توسعة مساحاتها بابتلاع الأرصفة وإدماجها مع مساحتها الأصلية دون حسيب ولا رقيب.

قال له صاحبه وكأنه يحاول التخفيف من صدمته: أنظر إلى بعض هذه المحلات لقد تم إغلاقها بسبب تعديها هذا وسحبت منها التراخيص، لكن ما بـُــني لم يهدم بعد على غرار ما تم في منطقة «البحيرة» الراقية قبل بضعة أشهر، ولعل الجميع يفضل أن تتكفل بذلك المجالس البلدية التي سيجري انتخابها قريبا لتكتسي الاجراءات كلها قوة الشرعية القانونية والشعبية. «أرجو ذلك.».. رد عليه وكأنه غير واثق تماما من أن ذلك سيحدث فعلا.

الانتخابات البلدية في تونس التي يفترض أن تجري في 17 كانون الأول/ديسمبر المقبل، هي الأولى بعد الثورة مطلع 2011 وميزتها الكبرى أنها تأتي بعد حالة التشبع طوال هذه السنوات من التغني بالثورة والحريات وسن دستور جديد وإنشاء الهيئات الدستورية الكبرى، باستثناء المحكمة الدستورية. كما أنها تأتي بعد أن تابع المواطن أداء الأحزاب الكبرى في البلاد ومدى التناغم بين ما ترفعه من شعارات وما خبره الناس منها من سياسات وممارسات، وأغلبه محبط الحقيقة. لم يعد المواطن في تونس بذاك الذي يمكن الضحك عليه بأي خطاب سياسي مختال سواء كان دينيا مغرقا في التحفظ، أو ليبراليا في ألفاظه أكثر من أي شيء آخر، أو عدميا مزايدا لا يعجبه شيء.
الانتخابات البلدية في تونس ستنزل السياسيين من علياء الشعارات السياسية إلى امتحان الخدمة المباشرة للمواطن في حياته اليومية، وهو الامتحان الأصعب.

ستــُـحاسب الأحزاب عن الطرقات والأرصفة والنظافة والمرافق العامة وهي مجالات لا تنفع فيها فذلكات السياسيين ولا مراوغاتهم. كما أن هذه الانتخابات ستشكل في نفس الوقت امتحانا للمواطنين أيضا حتى يكفوا عن التذمر والشكوى من كل شيء وفي أي شيء وأن ينخرطوا في المساهمة الفعالة اليومية في النهوض بمستوى مدنهم حتى تغادر بشكل جاد مربع الفوضى والتعدي على القانون وتبادل الاتهامات عن من يتحمل مسؤولية كل ذلك. أول المهام المطروحة على المجالس البلدية الجديدة، التي سيكون التنافس حول الترشح لعضويتها تنافسا على خدمة المواطن الفعلية الملموسة وليست الهلامية، هي فرض القانون على الجميع ووضع حد لحالة الفساد والتسيب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة. هناك بنايات بنيت دون ترخيص، وتوسيعات تمت بنفس الطريقة، واستيلاء على أراضي الدولة طوال السنوات الماضية التي اعتبر فيها كثيرون أن تراجع قوة الدولة مدخل ممتاز لفعل كل ما هو غير قانوني ثم محاولة فرضه لاحقا أمرا واقعا لا يمكن التراجع عنه. هؤلاء لا بد من تسفيه أوهامهم هذه حتى يعاد للقانون سلطته وللدولة اعتبارها.

على هذه المجالس كذلك أن تنخرط من أول يوم في حل مشكلة النظافة في المدن التي شوهت صورة البلاد وأضرت بها كوجهة سياحية، نظافة الشوارع والساحات والحدائق العامة، وأن تصلح الطرقات والأرصفة التي تدهورت وتآكلت، وأن تشطب نهائيا ظاهرة الباعة المتجولين الذي حولوا أجمل ساحات المدن وشوارعها إلى أسواق شعبية خارج القانون، وأن تنشأ المرافق العامة الضرورية التي ترفع من مستوى الخدمات العامة في البلاد كلها وتفتح الفضاءات الترفيهية للعائلات والأطفال وغير ذلك كثير.

يجب.. ويجب.. ويجب… ولكن كل ما سبق رهن في النهاية بتوفير الاعتمادات المالية اللازمة وهي اعتمادات تأتي من المواطن وتذهب إليه. هنا لا بد من حملة توعوية كبرى لجعل المواطن يحترم ويقدس، ليس فقط المساهمة في نظافة مدنه بالتصرف الحضاري الواجب عليه، وإنما أيضا بدفع الاداءات البلدية المستحقة عليه ودفع الضرائب خاصة من قبل الشرائح الاجتماعية المرفهة التي دأبت على التهرب من ذلك والتحايل على الدولة لسنوات طويلة.

هذا هو المدخل الحقيقي لجعل السياسيين ينجحون في كسب قلوب المواطنين قبل عقولهم، وجعل المواطنين يتحملون مسؤولياتهم عوض الإدمان على الشكوى ورمي المسؤولية على الآخرين… فهل ينجحون؟

القدس العربي _ 2017/08/16

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق