
بوضوح توجد ألغام موقوتة بل لا أغالي إن قلت إنها أم القنابل زرعت في ثنايا العملية الدستورية التي يفترض أن تفضي إلى انتهاء المراحل الانتقالية وتنقذنا من براثن انقسام السلطات والتشظي.
وسط حالة الاستبشار والفرح والتفاؤل بمسودة الدستور المرتقب التي أعلنت هيئة صياغة مشـروع الدستور الليبي عـن صدورها بعدما وصفت هذا المنجز بأنه جاء نتيجة تـوافقات، لتسري في وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام موجة تفاؤلية تبشّر الليبيين بانتهاء معاناتهم بمجرد أن يصوتوا على الدستور المنقذ بـ“نعم”.
بعيدا عن ثنائية التفاؤل والتشاؤم والتهليل وتكسير المجاديف أقول إننا نكرر كالعادة ومن دون مبالاة نفس الخطأ ليصبح خطيئة، ثم نندم ونتّهم خصومنا بأنهم خدعونا وضحكوا علينا، لتبدأ مرحلة نضال كلامي أخرى، فعلى ما يبدو أدمنا دور الضحية وأتقنا لغة المظلومية.
أتفهم جيدا حالة الاستبشار التي تجعلنا نغفل عن عمد حينا، وعن قلة معرفة أحيانا عن الأخطار الواضحة والمحدقة بنا، فنحن غرقى نتشبث بأي قشة رغم أننا ندرك أن القشة لا يمكنها أن تنقذ غريقا.
ومن دون مراوغة أو تنميق للكلام أقول بوضوح توجد ألغام موقوتة بل لا أغالي إن قلت إنها أم القنابل زرعت في ثنايا العملية الدستورية التي يفترض أن تفضي إلى انتهاء المراحل الانتقالية وتنقذنا من براثن انقسام السلطات والتشظي، بل وشبح التقسيم والانفصال والأهـم معاناتنا اليومية، والحكمة تقتضي أن نفككها ولا ندعهـا تنفجر خصوصا وأننـا اكتوينا بنيران قنابل أخف وجرّبنا نتيجة الانسياق وراء عواطفنا، والمفروض أننا اكتشفنا أن شعار “نتعامل حتى مع الشيطان كي ننقذ أنفسنا” مجرد وهم، ولم يجلب لنا إلا الخسران.
هل لا زلنا نتذكر عندما رفعنا شعار “لا للتمديد” وخرجت مظاهرات وشنت حملات إعلامية لإنهاء المؤتمر الوطني العام، وكيف تم رفع سقف التفاؤل بأننا بمجرد انتخاب جسم جديد يستمد شرعيته من الشعب ستصبح الحياة لونها “بمبي” وسينطلق قطار بناء الدولة سريعا ليصل بالناس إلى محطة الاستقرار والهناء، يومها نبّهنا إلى قنبلة موقوتة تمثلت في آلية التصويت على مقترحات لجنة فبراير، فكان الرد كالعادة تسفيها وتحقيرا ووصما بالعمالة والجهالة، وأن المجتمع الدولي سيدعم خيار الشعب، ولا صوت يعلو فوق إرادة الشعب الذي سينتخب ممثليه، فكانت النتيجة التي لم تكن بحاجة إلى منجّم أن اعترض من لم تعجبه نتائج الانتخاب فبدأ الأمر بجدل قانوني وخاض المحللون في الأمر، وتنافست شاشات الإعلام كُلّ يثبت وجهة نظره، ليتم حشد الأنصار وصولا إلى حرب الفجار، ويتحاكم الخصوم للقضاء الذي أصدر حكما بعد طول انتظار خضع للتأويل، ونتجت عنه عودة المؤتمر بقرار دولي إلى طاولة الحوار ليكون جزءا من المشهد، ويتحول الحل الموهوم إلى تشظ وانقسام وتسيل دماء الليبيين أنهارا نصرة لهذا التأويل أو ذاك، وتتحول معيشتهم إلى نكد جعل دولا كانت يوما تتلقى المساعدات والصدقات منا تشفق علينا وتدعونا للتعقّل والعقل.
من الآن أقول لكم وأنا أعي جيدا إن قولي سيذهب كالعادة أدراج الريح، سيطعن من لا تعجبه نتائج الاستفتاء المنتظر أمام القضاء بدعوى أن هيئة صياغة مشروع الدستور تجاوزت مدتها وتعمل دون تمديد قانوني وشرعي وهي منتحلة صفة ومغتصبة للصلاحيات، وسيتكرر السيناريو؛ جدل قانوني وحشد للأنصار. لتختم بحرب الفجار، وهذه المرة ستكون الفاتورة باهظة الثمن لأن التفجير هذه المرة ستحدثه قنبلة ملعونة تدعى أم القنابل.
السيناريو المعتمد في كل مـرة هو: إشغـال الناس بقضية فرعية وإقحامهم في حروب صغيرة، إلهاء لهم عن المعركة الحقيقية والقضية الأساسية، فالسياسة في ليبيا تعتمد مبدأ تبديد الوقت وتخوين أي صوت يحاول التحذير من القنابل المزروعة.
هل تذكرون كيف تم إلهاء الناس بقضية من يأخذ نصيب الأسد في مقاعد المؤتمر الوطني العام، الأحزاب أم الأفراد، رغم أن العلة كانت في طريقة احتساب الأصوات، وبالتالي لم تنفع الأصوات التي جناها التحالف وكانت اكتساحا له شيئا، لتذهب تلك الأصوات أدراج الرياح. نبّهتُ ونبه الكثيرون مثلي إلى هذا فكان مصيرنا اغتيالا معنويا ومنعنا من التواصل مع الناس، وكانت حالة انتشاء الناس والفرح بأنهم يجرون أول انتخابات سمّوها عرسا كفيلة بمحاربة وصم الآذان عن أي صوت “نكدي” مثلي.
هل تذكرون كيف تم إلهاء الناس بقضية منع الأحزاب من الترشح لانتخابات مجلس النواب، رغم أن الحزبي ترشح بثوب فردي، فالقانون أجاز هذا الترشح، وكيف نبّهنا وقتها إلى أن لفظة فردي لا تقصي من كان منتميا إلى الحزب، وأن العلة لا زالت قائمة وهي طريقة احتساب الأصوات، حيث سيجد من صوت لفلان أن أصواته قد ذهبت لعلان، ومع هذا حالة الحنق والضيق التي كان يعيشها الناس جعلتهم يتعلقون بأي قشة غافلين عن أن القشة لا ولم تنقذ غريقا، وبالتالي صموا آذانهم عن صوتنا “النكايدي”، ولم يحفلوا بالتحذيرات، وكان ما كان.
أما سيناريو اليوم فسيكون: إيهام الناس بأنهم بمجرد التصويت سينتهي الانقسام وتدور عجلة الاقتصاد وسنضع أول خطوة في طريق بناء الدولة “هل سمعتم هذا الكلام من قبل”، ثم إشغال الناس بنقاش مفتعل حول مواد من الدستور مثل قضية حظر التكفير وهل هو مطابق للشريعة أم لا، ليتم تبديد الوقت ويصل يوم التصويت، وتظهر النتيجة، ويطعن الطاعنون، ليتنادوا دفاعا عن الثورة التي سرقت، وهذه المرة لن نعود إلى نقطة الصفر بل إلى ما تحت الصفر بمراحل.
الحل: يجب تفكيك هذه القنبلة اللعينة، إما بإلزام كل الأطراف (وأعنيها كلمة كل) بالتوقيع على وثيقة ملزمة برعاية دولية بأنهم أقروا مبدأ الاستفتاء على الدستور، وأنهم قد قبلوا بالتمديد لهيئة صياغة الدستور بأن تعمل، وهذا الأمر متروك للقانونيين – خصوصا ونحن لدينا خبرات مشهود لها بالكفاءة والمقدرة داخليا وخارجيا- بأن يجدوا له صيغة ومخرجا يضمنان بألا يطعن أحد في شرعية عمل الهيئة، لأنه إن تم الطعن في شرعية عمل الهيئة وأغلب الظن أن المحكمة ستحكم بعدم شرعيتها سيكون كل ما نتج عنها باطلا على الأقل في نظر من لم تعجبه النتائج أو وجد نفسه خارج المشهد.
أما القول بأن لدينا ردودا على الخصوم وسنفحمهم في معركة استعراض كلامي، والاتكاء على عبارة معلبة “الشعب مصدر السلطات” ولا مجال للطعن فيها، فأقول لو كانت الردود تنفع وتنهي جدلا لنفعتنا في تجارب سابقة، لأن كل طرف لديه ردوده وحججه، فليبيا تمر بوضع غير مستقر وحالة استثنائية لا يمكن التعاطي معها بأساليب الحالات الطبيعية والمستقرة.
أرجوكم وأتوسّل إليكم وأقبّل أقدامكم بألا تضعوا رؤوسكم في التراب كالنعامة، وأن تبتعدوا عن الثقة المفرطة ولنفكك هذه القنبلة الملعونة طالما هذا الأمر متاح الآن. اللهم إني بلغت.. اللهم فاشهد.
فتحي بن عيسى
المصدر: العرب، العدد 10609، 2017/04/21،ص8.