
علي عبد اللطيف اللافي
بتاريخ اليوم السبت 12 أوت 2017، يكون قد مرّ على ذكرى اغتيال الزعيم الكبير الشهيد صالح بن يوسف ست وخمسين سنة بالتمام والكمال، ولكن الأسئلة ما زالت تتردد كل سنة في كل ذكرى اغتياله، كيف تم اغتياله، ومن قتله؟ ومن خطط ومن نفذ؟ و لكن الأمر الأهم أن الرجل لا زال حيا في أذهان التونسيين حتى الذين لم يعرفوه عن قرب، بل حتى الذين ولدوا بعد اغتياله؟
+ مسيرة الزعيم الوطني صالح بن يوسف:
صالح بن يوسف هو أحد أبرز قادة الحركة الوطنية، وهو من مواليد 11 أكتوبر 1907 بمنطقة ميدون التابعة لمعتمدية جربة من ولاية مدنين، وقد توفي في 12 أوت 1961 بمدينة فرانكفورت بعد أن لحقته يد الاغتيال هناك، نشط بن يوسف ضمن الحركة الوطنية، وتولى الأمانة العامة للحزب الحر الدستوري الجديد، كما تولى وزارة العدل في حكومة محمد شنيق التفاوضية بين 1950 و1952، وساهم بشكل رئيسي واستراتيجي في بناء المنظمات الوطنية، ثم عارض سنة 1955 الاستقلال الداخلي الذي قبل به بورقيبة، وهو ما أدى إلى حدوث صدام بينهما، بل إن الخلاف بينهما أدى إلى حدوث شرخ في الحزب، وإلى دخول أنصار الفريقين في صراع مفتوح، ورغم حصوله على تأييد جزء كبير من الإطارات الدستورية، فقد خسر بن يوسف صراع الزعامة، ووقع فصله من الحزب، وانحاز الحبيب عاشور الأمين العام لاتحاد الشغل يومذاك لبورقيبة، ومكنه من عقد مؤتمر الحزب بصفاقس سنة 1955، وهو المؤتمر الذي رجح كفة بورقيبة وأنصاره الذين لم يكتفوا بذلك، بل قاموا بتصفية أنصار الحركة اليوسفية، وتم إنشاء معتقل “صباط الظلام” الرهيب وأمثاله من المعتقلات الغير إنسانية لتعذيب خصومهم اليوسفيين وسحلهم وتجويعهم ومطاردتهم، واختراقهم من الداخل عبر الترهيب والترغيب واختلاق الأكاذيب ضدهم حتى آخر الستينات (نذكر حكاية الزعيم علي الزليطني مثالا لا حصرا) للقضاء عليهم قضاء مبرما …
اختار بن يوسف ابتداء من جانفي 1956 اللجوء إلى المنفى، فوقع تهريبه إلى منطقة “الشهابانية” ثم إلى الأراضي الليبية، ومنها دخل مصر، وتقرب من الزعيم المصري جمال عبد الناصر، إلا أن إعلان الاستقلال في مارس 1956 والجمهورية في جويلية 1957 وابتعاده عن البلاد وسحق أنصاره، أدى إلى إضعاف موقفه، واغتيل في النهاية في 12 أوت 1961 في ألمانيا….
+ من اغتال بن يوسف وكيف؟
اغتيل صالح بن يوسف في كمين نصب له من قبل زرق العيون ونظام الرئيس بورقيبة، وهو أمر لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى دليل عيني ومادي أو شهادات من هنا وهناك، فالحبيب بورقيبة هو من اعترف بذلك واعتزّ به في خطبه التي كان يُلقيها بمعهد الصحافة، وهو الاعتراف الذي أعيد بثه في الثمانينات في أكثر من مناسبة وضمن ما سمي يومذاك بــ”توجيهات الرئيس”، كما قام بمنح الأوسمة للقتلة في احتفال رسمي، بل إن القاتل المباشر والمجرم “عبد الله الورداني” بعد 16 سنة من اغتياله للزعيم بن يوسف أبرز مسدسه سنة 1977 أمام الحبيب عاشور أثناء الأزمة مع اتحاد الشغل وقال مُهددا “بمسدسي هذا قتلت بن يوسف، ومستعد أن أكرر الفعلة معك الآن”[1]، وقد اعتبر المؤرخون والمتابعون والجامعيون أن اعتراف بورقيبة وتوسيمه للقتلة يعتبر “سابقة في تمجيد الجريمة السياسية والقتل المنظم والافتخار بذلك على رؤوس الملأ”[2]…
وعمليا غادر بن يوسف “الحياة في لحظة دراماتيكية قلّ نظيرها إلا في الأشرطة السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، قتل الزعيم الكبير في غرفة مظلمة في فندق الرويال بمدينة فرنكفورت الألمانية وحيدا بلا حارس ولا مرافق ولا منقذ ولا معين ولا صاحبة ولا بنين، قتله كاتم الصوت، استدرجه ذوو القربى، هكذا تقول الرواية التاريخية، سقط الزعيم وهو يتخبط في دمائه في بلاد بعيدة في الجغرافيا، غريبة في اللسان والعقيدة، لكنه مات شهيدا، فلا فرق بين أن يكون القاتل بورقيبيا أو فرنسيا، فقد اجتمعا في الولاء لفرنسا الاستعمارية والدفاع عن مصالحها، واتخذا من القتل الممنهج والمنظم خيارا في مواجهة الغريم الوطني. لقد كان بن يوسف يدرك أن الشهادة قادمة لا محالة، فهو زعيم المقاومة المسلحة بامتياز، وصاحب الخيارات الراديكالية في مواجهة الاحتلال الفرنسي وعملائه”[3]….
يعرف الجميع أن صالح بن يوسف كان شجاعا في التعبير عن مواقفه، وكان وطنيا غيورا، والدليل أنه صفع بورقيبة أثناء لقاء المحاولة الصلحية، وواصل تمسكه بما آمن به منذ التحاقه بالحركة الوطنية، وبمبادئه التي ناضل من أجلها حتى في اللحظات التي ظهر فيها وكأنه يخسر كل شيء، وهذا واضح وجلي في رسائله لأنصاره وخلافاته مع المرحوم الطاهر لسود، ففي لقاء زوريخ في فيفري 1961 قال “ما زلت أعتبر الاتفاقيات خطوة إلى الوراء، والاستقلال الصوري الذي تحدثني عنه ليس إلا كارثة على تونس وعلى الثورة الجزائرية التي أعلم أنك تتآمر عليها”[4]
لقد آمن صالح بن يوسف بالتحرير الكامل لكافة بلدان المغرب العربي، بل اعتبر رحمه الله أن استقلال إحداها لا يوقف حركة المقاومة من أجل تحرير البقية، فذلك عهد وميثاق عاهد عليه عبد الكريم الخطابي الزعيم المغربي وأحمد بن بلة الزعيم الجزائري وشعبيهما، ورعاه الراحل جمال عبد الناصر بعد أن أمّن الدعم اللوجستي العسكري والمادي والغطاء السياسي والدبلوماسي، و قد أكد على البعد العربي والإسلامي للحركة الوطنية خلال خطابه المعروف في جامع الزيتونة المعمور في 7 أكتوبر 1955[5] …
+ ماذا خسرت تونس باغتيال بن يوسف؟
آمن بن يوسف بالقضية الوطنية وبرفاقه شهداء المقاومة التي بدأت منذ أن وطئت أقدام المستعمر أرض تونس سنة 1881، ووقع التصدي للغزاة من طرف الوطنيين التونسيين، ولم يبدلوا نضالهم إلى آخر المعارك في رمادة وبنزرت سنة 1961، وكان بن يوسف يعي جيدا أنه سيلتحق بآلاف الشهداء الذين سقطوا في المعارك في القيروان وصفاقس وقابس، وفي انتفاضتي الفراشيش سنة 1906، والودارنة سنة 1915، وثورة المرازيق سنة 1944، والثورة المسلحة سنة 1952 التحق برفاق دربه من الرجال الأشاوس الذين حملوا اسمه فنسبوا إليه ولم يبدلوا تبديلا، والدليل أنه يعي ذلك ما أكده للمرحوم الشهيد حسن شندول بعد أن أوصله للحدود الليبية على فرسه الخاصة، عندما قال له وفقا لما هو متواتر “قد تستشهدون أنتم هنا في أرض الوطن، وقد ألحقكم من خارجه”، كان بن يوسف يعي أن رفاقه من الوطنيين يعدون بعشرات الآلاف، وأنه تم قصفهم من طرف الآلة العسكرية الاستعمارية بالقنابل الحارقة، وأنه تم دفنهم بقمم الجبال التي تحصنوا بها في بني خداش ومطماطة والحامة وقفصة، وكان يعي جيدا أن لجان اليقظة البورقيبية قد تعمدت قطع الأرزاق وبالاغتيالات والتصفيات في صباط الظلام بالعاصمة وفي منزل تميم بالوطن القبلي وفي سوق الأربعاء ( جندوبة حاليا) بالشمال الغربي وبالقيروان وبقرى الساحل والجنوب، فقد كانت البلاد يوسفية عن بكرة أبيها باعتراف المؤرخين والمختصين….[6] وهو ما أكده اجتماع الشاذلي زويتن المشهور، كما تؤكده حادثة جامع القيروان عندما نظم الزعيمان اجتماعا هناك فتابع بن يوسف الآلاف وحضر عشرات اجتماع بورقيبة…
وما يُغيبه البعض وما أرادت الدولة تغييبه أن البلاد قد خسرت الكثير بتصفية بن يوسف ورفاقه، فقد “خسرت مشروعا وطنيا واستقلالا حقيقيا ناضلت أجيال عديدة من أجله، وقدمت التضحيات بالنفس والمال، ولكنه جاء مشوها وصوريا كما وصفه بن يوسف نفسه…”[7]
ولقد أثبتت الأحداث والتطورات لاحقا كل ذلك، بل صدقت أقواله كزعيم وطني صادق بعد أكثر من نصف قرن؛ إذ أعادت ثورة الحرية والكرامة سؤال العلاقة بالأجنبي إلى الواجهة “بعد أن فشل النموذج التنموي المرتبط بالأمة الحامية القديمة وبنخبها السياسية التي أنتجتها ونصبتها قبل خروجها، وانتهت خياراتها إلى اختلال جهوي رهيب صاحبه توزيع غير عادل في الثروة والسلطة تجسد فقرا وتهميشا وبطالة وولاءات جهوية ومحلية وقبلية وعائلية على حساب الولاء الوطني، وفسادا بجميع أشكاله السياسية والمالية والعقارية…”[8]،
بل إن تونس خسرت باغتيال بن يوسف تجربة ديمقراطية تداولية مرفوقة بحياة حزبية تعددية ما كان لبورقيبة وحزبه أن ينجح في إجهاضها لو بقي بن يوسف حيا، وبغيابه تم تكريس الاستبداد؛ فقد كان رفاقه ضحايا للقمع والتدمير والتجويع باعتبارهم مخالفين، وتم تكريس السيادة السياسية التي نتج عنها الاستبداد السياسي المجسّد عمليا في حكم الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة والانتقام من جميع الخصوم السياسيين؛ فقد تم سجن ومحاكمة اليساريين بمختلف تفرعاتهم وانشقاقاتهم، كما تم التدمير الكلي للتجارب التنظيمية للقوميين العرب، ثم تمت محاكمة الإسلاميين في الثمانينات عبر منطق التشفي والحصار والتجويع، بل إن الآلة البوليسية للنظام لم ترحم حتى رفاقهم في الحزب، فتم تصفية الشيخ العيادي، وتم سجن بن صالح، ومحاكمة راضية الحداد والحبيب عاشور وغيرهم كثير…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] شهادة يذكرها أكثر من طرف، وتمت الإشارة إليها تلميحا في عدد من الصحف والمجلات في بداية الثمانينات…
[2] الدكتور سالم لبيض مقال له “في الذكرى الخمسين لاغتيال بن يوسف”
[3] الدكتور سالم لبيض نفس المصدر
[4] المنصف الشابي ، كتاب “صالح بن يوسف حياته وكفتحه”
[5] نشر نص الخطاب لأول مرة كاملا في نشرية “الخبر الاسلامي” (وزارة الشؤون الدينية)،في عددها الثاني – أكتوبر 2012
[6] الدكتور سالم لبيض المصدر السابق بتصرف
[7] تفس المصدر
[8] نفس المصدر