
توفيق المديني
بدأت الأزمة الاقتصادية و المالية التونسية تثيرقلق المؤسسات الدولية المانحة والبلدان الأوروبية، بسبب لجوء تونس إلى الاقتراض من الاتحاد الأوروبي بقيمة 500 مليون يورو ،حوالي 1400مليون دينار كدعم مباشر لميزانية الدولة حتى تتمكن من دفع رواتب الموظفين للأشهر المقبلة.
فقد بلغت كتلة الأجور حتى الآن 15 مليار دينار ، وهي مرشحة للتطور, بعد أن كانت في حدود 6.7 مليار دينارفي عام 2011. وفضلاً عن ذلك أصبحت تونس عاجزة على التصدي للديون المتخلدة بذمتها ، بعد أن تجاوزت المديونية إلى غاية الآن نسبة 75% من إجمالى الناتج المحلى لتصل إلى 65 مليار دينار (28.7 مليار دولار) في 2016.وكان حجم الدين الخارجي لتونس في 2010 عند مستوى 13.4 مليار دولار، لكنه سرعان ما ارتفع إلى 21.3 مليار دولار في 2014 مع نسق تصاعدي في 2015 و2016.
إضافة إلى كل ذلك فقد فقد الدينارالتونسي نسبة 30 بالمائة من سعر الصرف أمام اليورو خلال الفترة الممتدة من يوليو/تموز 2015 إلى يوليو/تموز2017..فقد أصبح معدل سعر اليورو مقابل الدينار التونسي في السوق النقدية 2.87 دينارا ،خلال شهر أغسطس/آب 2017 معدل 2.87 دينارا، بينما أصبح معدل سعر الدولار، 2.43 دينارا .
وكان صندوق صندوق النقد الدولي اشترط على الحكومة التونسية المضي قدمًافي تطبيق سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وبرامج و سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي، حتى تحصل على قرض بنحو 2.8 مليار دولار، فى مايو/آيار 2016. ففى يونيو /حزيران 2016حصلت تونس على الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد بقيمة 320 مليون دولار، وكان من المفترض الإفراج عن الشريحة الثانية فى ديسمبر/كانون الأول 2016، لكن عدم تقدم الإصلاحات وتحديدًا فى الأجور والوظائف العامة والقطاع البنكى حال دون ذلك.ولم تحصل تونس على هذه الشريحة الثانية من هذا القرض ، إلا بعد أن أبرمت الحكومة التونسية بقيادة يوسف الشاهد وصندوق النقد الدولي اتفاقيات عديدة، تخص ميزانية الدولة وسياستها الجبائية وكذلك اجراءات تخص السياسة النقديّة.
هذه الاتفاقيات التي تكتمت حولها رئاسة الحكومة التونسية نشرها صندوق النقد الدولي بتاريخ 10 يوليو/تموز2017.و أبرز ما جاء في هذه الاتفاقيات، التزام تونس بتسريح ما بين 20 و25 ألف موظف عمومي في إطار سياسة التقاعد المبكر إلى حدود شهر يناير/كانون الثاني 2018، وكذلك التزام الحكومة بتجميد الزيادات في الأجور في القطاع العام إلى حدود سنتي 2019 و2020 ،وتخفيض كتلة الأجور من 14.1 ٪ حاليا إلى 12 ٪ من الناتج الداخلي الخام في حدود سنة 2019.كما تلتزم الدولة بتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية خاصة في التربية والصحة والإدارة وتقوم بتعويض واحد على كل أربعة مغادرين الوظيفة العمومية. وتعي الحكومة التونسية العبء الكبير الذي تشكله كتلة الأجور على ميزانية الدولة، بسبب العدد الكبير للموظفين بالقطاع العام البالغ 650 ألفاً، حيث أنّها ستحضّ الموظفين على المغادرة الطوعية من خلال عرض حوافز، من بينها التمتع برواتبهم لمدة سنتين ، ومساعدتهم في الحصول على قروض لإنشاء مشاريع خاصة.
وهاهي تونس الآن بعد ست سنوات من سقوط النظام السابق ، تجد نفسها واقعة في فخ القروض الخارجية، فضلاً عن أن الشروط المفروضة على الدولة التونسيّة تعتبر نوعًا من الألغام التي ستزيد من تفجير الوضع الاجتماعي وإقالة الدولة من دورها الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر هشاشة، إضافة إلى تسخير الموارد الاقتصاديّة لفائدة القطاع الخاص. وهاهي أيضًا حكومة يوسف الشاهد الحالية العاجزة عن بلورة منوال تنمية جديد، تعيد إعادة إنتاج فشل التنمية وتراكم الديون عليها، بسبب الضعف المزمن في البنية الاقتصادية، والفساد السياسي الذي تمارسه النخب الحاكمة و رجال الأعمال ،وهروب رأس المال الوطني إلى الخارج ، وفشل النموذج الليبرالي المفروض للتنمية وعلى البضائع والتوصيات المقدمة من الدول الصناعية والمؤسسات الدولية المانحة، أي نموذج التنمية الليبرالي المفروض وجوهره (توافق واشنطن). ولا بد من الإقرار بأن تونس اليوم تستهلك أكثر مما تنتج وتنفق أكثر مما تستخلص من موارد، وأنّ الشعب التونسي أنهكه التواكل ولا يولي لقيمة العمل أي اعتبار ولا يجد القدوة في طبقة سياسية حاكمة مهترئة وغارقة في الشعارات الخاوية والمزايدات والمهاترات.
إن الخيار الأنجع لتأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في تونس من نوع آخر ،مكان النظام الاقتصادي المهترء و الفاقد لكل صلاحية وشرعية ، يجب أن ينطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، ومن إعادة النظر في المنوال التنموي القديم برمته الذي أثبت محدوديته وعدم قدرته على مجابهة التحديات القائمة والمنتظرة باعتماده على قطاعات تقليدية ذات إنتاجية منخفضة وقيمة مضافة ضعيفة وعلى تراكم كمي لعوامل الإنتاج دون تطور ملحوظ في إنتاجية هذه العوامل.فلا مناص من منوال تنمية بديل يجمع بين النجاعة والعدالة ويعتمد على القطاعات المجددة ذات القيمة المضافة العالية والمحتوى المعرفي والتكنولوجي المرتفع.
وبهذا المعنى على الدولة التونسية أن تتدخل لبناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، القادر وحده على تصحيح التوازنات المفقودة لمنوال تنمية تونسي في أزمة. ومن بين هذه التوازنات المفقودة في تونس:
أولاً: هيمنة نمط (رأسمالي )وحيد على المؤسسة، والموجه نحو خلق قيمة لفائدة الطبقة الرأسمالية الطفيلية و رجال الأعمال الفاسدين ،و التوسع الهائل لنطاق السوق والمنافسة لمصلحة أقلية وخصوصًا على حساب الخدمات ذات المصلحة العامة، وتقلص التضامن الجماعي و الديمقراطي مقابل التضامن الإنساني و الخيري(غالبا ما تحكمه شبكات محسوبية ذات طابع ديني ) و لا سيما في تونس خلال فترة حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي .
ثانيًا: تفاقم ظواهر الإقصاء الاقتصادي و الاجتماعي و التهميش الثقافي في الولايات التونسية الداخلية و الواقعة على الحدود مع الجارتين الجزائر و ليبيا، و تفاقم اللامساواة داخل المؤسسة،وبين المواطنين، و بين الجهات ، وبين الولايات الداخلية و الولايات الساحلية المطلة على البحر،والمقاربة الضيقة لمعنى الثروة و الرفاه التي انحصرت في البعد الاقتصادي فحسب، وتجاهلت البعد الاجتماعي و البيئي، إلى جانب رؤية للدولة الاجتماعية مقتصرة على دور الترميم وتخفيف الصدمات متجاهلة دورها في الوقاية و الاستثمار الاجتماعي.
ثالثًا: حرمان المواطنين من المشاركة النشطة في اتخاذ القرارت الاقتصادية المؤثرة في حياتهم وحياة أجيالهم المقبلة، والحفاظ على التنمية المستدامة و احترام توازناتها، وتطوير قاعدة الموارد الطبيعية، وخدمة الصالح العام، وحصر المواطنين في دور المستهلكين أو المنتجين لمجتمع السوق