
رواية «الحيّ الخطير» الصادرة عن دار النشر السّاقي في بيروت 2017، لبنان للكاتب المغربي محمّد بنميلود هي جرعة مكثفة لقول فكرة وجودية تريد تصفية حساب مع العالم بلا هدنة، وكشفه مخفيّا وراء جبنه وادّعائه.
إنها لحظة السرد الحقيقية التي تعبّر وتشخّص واقعنا بعمق فلسفي حادّ وناقم. تقف في اللحظة التاريخية التي تريد أن تقول بكيفية أخرى ومن زاوية حادّة، وبعمق لا ينقصه التأمل. وبمعنى لا تتخطّفه الجهات والنوايا والخلفيات والأدبيات. هنا الواقع عار تماما، يجري في مكانٍ خاص «الحيّ الخطير» أو لعلّه الفضاء مطلقا. تتحرّك فيه الشخصيات وتتموضع وفق فلسفة الكاتب الوجودية، وحال الطبقة السّفلى التي تمّ تقريبها بـ»زووم» روائيّ، دافعا إيّاها للسخرية منّا جميعا. من إعاقاتنا الفكرية للتصور والفهم ومن عالمنا الذي ينقصه الكثير من العدالة. العالم المحكوم بقانون العصابات.
يبدأ الفصل الأوّل بعنوان يحمل دلالة رمزية «ما العمل؟» بسرد الشخصية الرئيسية «مراد» لوضعها داخل زنزانة انفرادية عقب شجار مع أحد السجناء، هي فسحة للسرد ولتركيب حيوات عبر باقي الفصول حتى النهاية، أي قبل اللحظة المنتظرة، المجازفة بالهرب والخروج إلى العالم كما هو، دون نيّة في هدنة معه حتى الرمق الأخير. تتحدث الشخصية بعد أن سكتت كل الطروحات الفلسفية والتوجهات الإيديولوجية، وبعد أن تراجعت إلى الوراء كل القيم والأحلام الرومانسية والبطولية والغنائية. تتحدّث برؤية حادّة وبقناعة هي الفصل الممكن والوحيد الذي لا يقبل تردّدا ولا مهادنة، في مواجهة هذا الواقع الذي أضحى بداهة لا يمكن تجنّبها. لقد جعلت المصالح الذاتية والسلطة التي ارتكزت عليها من هذا الواقع قدرا دميما ساحقا، لا يترك خيارا ثالثا: فإما مواجهته بنذالته وحقارته وإمّا الانحناء له، والخنوع لنُعامل كحثالة نكرة. نعيش، نكدح، ونموت كما وُلدنا على الهامش. لا مجال لخيار آخر بالنسبة لمراد، بعد أن تهاوت كل الخيارات أمام وضع بائس، وأمام الدهشة الصادمة المبكّرة حيال قبّعة السّاحر، أي العلبة الكارتونية المركونة في جهة ما من البيت. تلك التي تحتفظ بحلم مجهض: فشل الثورة على الفقر وعلى السلطة. علبة كارتون هي ما بقي من شبح قريبه (خاله)، فيها كُتب ماركسية ومنشورات سرية وأدب جبراني رقيق – نسبة إلى جبران خليل جبران- كما رسائل حبّ رومانطيقية كتبها الثائر إلى حبيبته ثُرية الرفيقة التي كانت جزءا من أحلامه الثورية. في هذه اللحظة، لحظة العلبة الكارتونية، نشعر كقراء بحقنة قلق وجودي حيال العالم تسري في العروق، وبأننا كقطعة ممغنطة ننجذب إلى فكر حاد نقدي متجرّد إلاّ من بداهته، تنطلق منه الشخصية وهي تروي، وإليه تعود. ممثّلا بذلك جوهر العمل الروائي الذي ستنبعث منه الخطوط وتثبّت الشخصيات والأوضاع كلعبة «البازل» في مكانها من الواقع الذي أنشأها بشكل طبيعيّ. وهذا ما سيحدّد مسار حكاية الشخصية الساردة.
يُخطف ويسجن ثم يقتل أو يُعدم الخال، ذاك الرومانطيقي الحالم الذي يمثّل مرحلة من تاريخ بلد الكاتب، بل وتاريخ العالم، في محكمة بلا قضاة. فقط لأنّه فرح بغبطة العدالة في كتب ماركسية. يتساءل السّارد عن المعنى من بتر وجوده من على هذه الأرض؟ باحثا في انغماسه في علبة الكارتون عن هذا المعنى. لكن عوض أن تقدّم له الأجوبة مُنحت له أسئلة أكثر وقلقا أكبر. ليصل إلى هذه النتيجة: «لقد قتلوا خالي لأنه فهم ما فهمته» أو ليوافق مزاجه هذا التصوّر الذي بلوره وعيه: أن العالم «ليس مقسّما كما كنت أتصوّر إلى قارات ودول وأجناس كثيرة وبيض وسود وديانات غير ديانة أمي وأبي، ولغات كثيرة وجغرافيات متنوعة وبحار ومحيطات وغابات وبراكين وشلاّلات إلخ (…)، بل مقسّم في حقيقة الأمر فقط إلى أغنياء وفقراء، أسياد وأقنان، أذكياء ومغفلين، نبلاء وحثالة». ثمّ يستطرد: «إنّ القوانين والأعراف والأخلاق هي السور المنيع الذي يفصل بين هؤلاء وأولئك، فليس كلها هدفها حفظ الأمن وإشاعة العدالة والفضيلة كما يدّعون بقدر ما هدفها الوحيد هو حماية الأغنياء الأسياد من الفقراء المعدمين».
تنطلق الشخصية الساردة من هذا الفهم، لتنظر إلى العالم باعتباره مسرح جريمة كبيرا، وأن جرائمها هي، الصّغيرة! ليست إلا تحصيل حاصل من الفقر والحرمان والتشرّد بعد الطرد من المدرسة – الذي لا بدّ أنّه كان تعسّفيا وحرمانا يضاف إلى حرمانات أخرى- وأنها لا تعدو أن تكون مقاومة لإثبات الذات وخرق ذاك السور الكبير المنيع. وبالتالي فلا ثورة أنجع من سلاح السطو وتجارة الحشيش صحبة رفاق آخرين «رشيد وعبد الرحمن» دون شعارات أو منشورات، بل بما حملوه في جيناتهم من مركّب نقص وما عاشوه كحثالة. لذلك يفترق مراد عن الطريق التي سلكها خاله باعتبارها تلغي المنطق الذي يقوم عليه وجودنا وتفشل في تفسيره وفهمه على النحو الأفضل. وأن الغاية الماركسية الحالمة تطرح من ذهنها أو لا تأخذ في اعتبارها المسلك الأناني للفرد، وهو وقود العالم.
«الطريق إلى عكراش» هو الفصل الثاني من الرواية، يعقبُ الإدانة الصريحة للعالم بكل قوانينه وعدالته ونظامه كاشفاً واقعا لاإنسانيا تراجيديّا لمحيطه «دوّار الدوم/حي أبي رقراق» جازّا بهذا العالم في زنزانة أضيق من زنزانة حبسه. مستنطقا الذاكرة لتعيد تركيب حياة كاملة، حياته هو وحياة صديقيه اللذين قتلا في سعيهما معه إلى المال. يستعرض السارد في هذا الفصل المشاهد والتفاصيل والحوار.. مستعيدا كل حركة وكل إيماءة قبل حادث القنص الذي راح ضحيّته عبد الرحمن، أمام عينيه، حين كانا يشقان طريقهما بالدرّاجة على أرض ميساوة المسكونة برعب الموت والأشباح. فيما يأتي الفصل الثالث «أعشاش داخل أشجار الشوك» ليضيء خلفية الدوافع التي أخذت بشخصياتها – عبد الرحمن ورشيد والسارد مراد- إلى أن تسلك هذا المسلك، أو أن تكون ما هي عليه. نشأتها ومحيطها الذي جعل منه الروائيُّ أفظع من الجريمة، أو أعشاشا وجدت داخل أشجار الشوك عرضة للألم والوخز و استحالة وجود مخرج لمعانقة الحياة الحرّة بعيدا عن وطأة الواقع المارد وسلطته.
لكن حين نتتبع مسار الشخصيات، ولادتها، ونشأتها نكون بصدد فتح علبة سرد كبيرة تأخذنا إلى علب محكيات بشخصيات كثيرة تأخذ بأنفاس القارئ، حيث يعمد الكاتب إلى تقريبها وصياغتها في الواقع ذاته الذي أنشأ الجميع كحقل من الفطر. نتسلّى بوجودها، نستمتع، نتعجّب، نندهش، نضحك، ونتقزّز… فضاء حكي يستمر ويمسك في طريقه ما يعمّق دهشتنا ومتعتنا، واستغرابنا. يمسك بـ بّا عبد المجيد الصيّاد وبّا موحا الصحراوي، والعروسي المقدّم، والبقّال المهيدي، والكلبة لايكة، والفاطمي بائع جافيل، وسليمان، وشخصية العربي الفرناطشي أو العربي الأعور تلك الشخصية التي تشبه «قطرة ماء لا تنتمي لأيّ ساقية، ولا تخضع لقانون أيّ جريان، ولا تدخل في نسيج مجتمع. لقد كان ساقيّة سرية لوحده، يفكّر بطريقة مختلفة عن الجميع». لا يمكن بالفعل نسيان هذه الشخصية، إنّها كالبقعة التي لا تُمحى، سنظلّ نذكرها كلما تذكّرنا هذا العمل الأدبي. تنبعث من قلب الرواية في عمق غرائبي عجائبي، يمتلك سلطة إقناع كبيرة وجمالية وثّابة.
تتعدّد وتتوالد الشخصيات، وتمتدّ إلى شخصيات ووضعيات ومحكيات أخرى كثيرة، كما لو كنّا أمام عدوى الجرب أو بصدد سرد نسلٍ ملعون أو نظرة بانورامية لأنماط ونماذج وسلوكات، إلى أن نصل إلى الفصل الأخير المعنون بـ»الهروب» حيث يعود السارد «مراد» من حيث بدأ. إلى داخل السجن، إلى الحاضر، إلى داخل زنزانة انفرادية أخرى، وقد قضى خمس سنوات وثلاثة أشهر دون أن يتمكّن من الهرب، ليأتي الوقت الحاسم للتنفيذ. وحيدا الآن، وقد ترك خلفه عالما يظلّ في ذاكرة يشغلها الأموات أكثر من الأحياء. فقد قُتل الصديقان: قتلت الشرطة عبد الرحمن ورشيد قتلته عصابة الشعبة، ماتت الأمّ.. مات كثيرون في مضمار السّرد اللاهث، لم يبق إلاّ هو في زنزانة خارج العالم، حيث تجري الأحداث وتصل أخبارها دون أن تحدث فرقا: « لقد كنت دائما منشغلا بحياتي، بمشاكلي الخاصّة، بضرس يؤلمني حين يتحدّثون عن زلزال، بثمن سيجارة حين يحدّثونني عن انقلاب في بلد من البلدان، وبالهرب من الحثالة إلى جنّة الأقوياء حين يحدثونني عن أن الحرب بدأت في مكان ما. الزلزال لم يكن ليهدئ أبدا ألم أضراسي، والانقلابات لم تمنحني أبدا ثمن سيجارة حين أضطرّ إلى تسوّلها أو سلبها، والحروب لم تساعدني أبدا على الهروب». يقرّرُ مراد الهرب، ويخطّط أوّل الأمر مع عدوّه « عبد الرزاق»- الذي لم ينته الثأر بينه وبين مراد بعد، ذلك الثأر الثقيل- بإضرام النّار في السّجن وتعبئة باقي السجناء وتحريضهم. لكن تفشل الخطة قبل تنفيذها بإبعاد عبد الرزاق إلى سجن آخر، وقد حكم عليه بالمؤبد. ليتم التفكير بعدها بمهاجمة الحرّاس في الوقت المناسب. إلاّ أن الكاتب يضعنا في الأخير أمام أفق مفتوح، فلا نعرف بأيّ طريقة تمّ الهرب، هل بمهاجمة الحرّاس أم بحفر نفق تحت الأرض أم بتسلّق الأسوار؟ هل تمّت الخطة كما شاء لها السجين أم لم تتمّ أصلا، هل قبض عليه وتمّ الحكم مرّة أخرى؟ لا نعرف. تنفتح الرواية على احتمالات عديدة وهي تبلغ هدفها كرواية ممتعة ودافئة بسرد لذيذ.
إنّ عمق هذا النّص الروائي «الحيّ الخطير» لا يقوم على جوهره العدميّ وحده، الذي يُعتبرُ أساس الرؤية وهدف الرّسالة، بل على أبعاد فنيّة يسمح بها أسلوب سردي لعبي لافت، لا يمكن أن تُحكى هذه الحكاية إلا به ومن خلاله. وبذلك يملك خصوصيته في فضاء المحكيات. أسلوب سرديٌّ يرسمُ عالما مُفارقا هو عالم روائيّ يقول الحقيقة مادامت كل رواية رديئة تكذب.
تلعب الرواية في المسافة بينها وبين موضوع الحكي: الحيّ/ في بعده الواقعي. قد تطول غالبا وأحيانا تقصر، قد تتحوّل فجأة إلى فانتازيا، إلى نرفانا بسبب قطعة حشيش يدسّها الكاتب في غليون القراءة، كي نذهب معه في متخيّله أبعد من الحدود التي يمكن رسمها عادة للواقع، لكن قد تمّ رسمها بفنيّة للرواية. حتى لو احتفظت الذاكرة مثلما هي ذاكرتي تماما بالمكان الذي يمكن التحقق منه بنزهة قصيرة: جبل الرايسي، حي أبي رقراق، الولجة، عكراش أو استعادة الزمن، الذي يمكن الالتفات إليه بدون عناء إلى واقع سبعينيات أو ثمانينيات حي أبي رقراق من القرن الماضي، فإن النص الروائي هذا يستحوذ تماما ويضع نفسه في مكانه من الأدب المغربي والعربي والإنساني، بين الجذور الواقعية والفضاء التخييلي المبدع. إنّه نصٌّ يعرض ويُلغي ويتركُ ويؤثث ما يمكن اعتباره إقامة في المعنى.
يتدفّق الأسلوب سلسا بعذوبة، وتغدو النقاط والفواصل شحم جنزير القراءة، وليست للوقوف وأخذ النفس ثمّ المتابعة لاحقا، بل ما يستوقفُ فعلا هو العودة إلى استنطاق الدهشة التي مررنا بها للتو. العلامة التصويرية الشعرية، الاستعارة، أو الفكرة اللامعة المجرّدة، أو الوضع الذي انزاح قبل قليل عن سكّة المعتاد، ليسير على سكّة الشّعر أو الفكر أو ينحو قليلا في اتجاه الأسطرة. أسطرة الشخوص أو أسطرة المكان وقد احتفظ بنفسه كاملا كما كان قبل لحظة انزياحه الخاطفة، دون أن ينقص فيه شيء من الصدق الروائي الذي يجعلنا نصدّق. نتوقّف أيضا، بالانفعال ذاته، حين نريد فهم ذاك البعد الشفيف في الرواية الذي يمنحنا الظاهر بخلفية الخفيّ.
وقد مكّنت سلاسة الأسلوب من خلق متتاليات سردية تمّ حبكها جيّدا، متتاليات منسابة واحدة تلو الأخرى كالموجة التي تمحي الموجة في بحر روائي لا يهدأ، يخدمُ هدف الرواية ككل. يتجلّى ذلك في التداعي الحرّ، كما يتجلّى في الحكي فوق حكي آخر، وآخر. فالسّارد بين يديه مسرح كامل يمثّله الحيّ. حيّ الجريمة والعهر والقذارة والغضب والانتقام والنصب والاحتيال والكذب والخداع والفقر والخيانة والجوع والعنف والخرافة.. تأتي هذه المعاني وتتوالد متلبّسة الشخصيات والأحداث والوضعيات والسلوكات. إنّه مسرح مفتوح معرّض للشائعات والنميمة التي يمسك السارد بخيوطها ويشبكها صانعا منها هذا الارتياب وضياع اليقين كما الحقيقة. فالرواية لا تصنع إيمانا ولا يقينا ولا حقيقة. لا تحفل سوى باليقظة والحذر في عالم يمكن أن تكون فيه الكلبة مخلوقا دميما حارساً وخادما للموت، والشجرة متواطئة مع القاتل المتسلسل والأمُّ عاهرة. إنّه مسرحٌ للحثالة، موبوء. مع ذلك لا يُجرّمه الكاتب ولا يبرّؤه، بل يصنع منه إدانة صريحة ضدّ الجميع. شفرة حادّة تترك جرحا في يد من أمسكها، وتأملا في هذا الجرح. إنّه جرح مفتوح متعفّن بلا ضمادات. ملتهبٌ ولا ينفع معه شيء.
المصدر: القدس العربي