
عاجزون عن خلاص «شهريات» أوت وسبتمبر، وسنقترض من الاتحاد الأوروبي لخلاص الأجور. تصريح صادم ومفزع جاء على لسان وزير المالية بالنيابة، فلماذا وصلت تونس إلى هذه الحالة؟ وما هي تأثيرات ذلك على معيشة التونسي؟
شهدت جلسة أول أمس بمجلس نواب الشعب مناقشات حادة وصلت إلى حد الشتم والتجريح بين وزير المالية بالنيابة وبعض أعضاء مجلس نواب الشعب بسبب القرض المزمع اقتراضه من الاتحاد الاوروبي وقيمته 500 مليون يورو(حوالي 1400 مليون دينار كدعم مباشر لميزانية الدولة حتى تتمكن من خلاص أجور شهري أوت وسبتمبر المقبلين).
هذا القرض كشف عن الوضعية المتأزمة للاقتصاد التونسي. حيث بين السيد رضا عبد الكافي أن كتلة الأجور التي بلغت حتى الآن 15 مليار دينار مرشحة للتطور, بعد أن كانت في حدود 6.7 مليار دينار. وأشار إلى أن تونس عاجزة على التصدي للديون المتخلدة بذمتها وان المديونية تجاوزت إلى غاية الآن نسبة 75 % .
الدولة والمواطنون مرهونون:
هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة جعلت التونسي يقترض من البنوك ليأكل والدولة تقترض من الخارج لخلاص الأجور وعن هذا المأزق يقول الأستاذ عبد الحميد الزيدي الخبير الاقتصادي والمالي وصاحب أكبر موسوعة عالمية في التمويل البنكي: إن ما وصلت إليه تونس الآن هو نتاج لعدم الاعتماد على الكفاءات العلمية وتسليم السلطة لمجموعة من الهواة الذين أغرقوا البلاد في القروض والديون. وأضاف ناشدنا أكثر من مرة رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية لمراجعة سياساتها المالية والاقتصادية وتغيير ادارة البنك المركزي والاعتماد على الكفاءات والخبراء لكن لا حياة لمن تنادي…
وتابع: مع تستر الإدارة العمومية على المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتعلقة بالسداسي الأول لسنة 2017 وإثر تصريحات السيد وزير المالية بالنيابة نفهم الرسالة الموجهة للشعب والوضعية الصعبة جدا التي تمر بها حكومة «الشاهد» قبل نهاية السنة الحالية، حيث أن لجوء وزارة المالية لرقاع الخزينة المحررة بالعملة الصعبة لأول مرة في تاريخ تونس قصد مجابهة الدفوعات الخارجية بالرجوع للنظام البنكي التونسي الذي سوف تؤثر مثل هذه العمليات المتكررة على مردوديته وعلى الدورة الاقتصادية لأنّ الدولة سوف تستأثر بما كان موجها بالأساس للمؤسسات والزيادة في احتياطاتنا من العملة الصعبة… علما وأن خسائر الصرف الناتجة عن الاقتراض الأجنبي المشط والتي تتحملها المجموعة الوطنية تقدر بآلاف المليارات وهي لا تختلف عن إهدار المال العام وسوء تصرف في الميزانية العمومية.
ونظرا للضغوط المتزايدة التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي اللذان يطالبان الحكومة بتقليص عدد الموظفين وتخفيض النفقات العمومية وإعادة هيكلة المؤسسات الكبرى وتحريك عجلة التنمية لمجابهة البطالة المتفشية في البلاد ومقاومة ظاهرة التجارة الموازية وانتشار السلع المستوردة بطرق عشوائية والتى تنخر الاقتصاد الوطني وتضعف الموارد الجبائية وتعرّض المؤسسة الوطنية لمنافسة شرسة وبالتالي تؤثر على مردوديتها وعلى الناتج الداخلي الخام في وقت يعرف فيه الدينار تقهقرا لم يسبق له مثيل وزيادة في الأسعار تزيد في نسبة التضخم المالي يتفاقم على إثرها العجز في ميزانيتي التصرف والاستثمار العمومي يعوق الحكومة للاضطلاع بدورها على أكمل وجه، حيث أن الاستثمار الأجنبي المباشر شبه مفقود والأزمة المالية مستفحلة.
هذا الوضع الكارثي الذي يبعث على القلق عن مستقبل الحكومة الحالية وهو محبط لآمال الشباب العاطل عن العمل ومثقل لكاهل الأجيال القادمة. كما أن له انعكاسات سلبية وسيئة على الظروف اليومية لعيش المواطن التونسي وعلى قدرته الشرائية المتدهورة حيث أمسى غير قادر على خلاص فواتير الهاتف والماء والكهرباء والغاز…
وللخروج من هذه الأزمة الحادة والخانقة المطلوب تشريك أهل الاختصاص في كل المجالات وتمكين خبراء المال من تشخيص النقائص الحقيقية للاقتصاد التونسي وتحديد الأولويات ثم ضبط استراتيجية تنمية مستديمة ومخططات عمل مدروسة وبرامج انجاز عاجلة لإخراج البلاد من ضائقتها المالية وتخفيض الضغوط الجبائية على المواطن والمؤسسة ومساعدة المؤسسات التي تشكو صعوبات ودفع الاستثمار الخاص وتنمية الإنتاج الفلاحي والصناعي وقطاع الخدمات بجميع أصنافه ودعم التصدير والمطالبة بإعادة جدولة الديون العمومية حتى تسلم تونس من الهزات الاجتماعية التي لا تحمد عقباها !
تداعيات ومخاطر جسيمة:
من جهته كتب السيد الطيب اليوسفي مدير ديوان سابق برئاسة الحكومة تدوينة على الفايسبوك جاء فيها: ركزت عديد التعاليق على المناكفة بين وزير الاستثمار والتنمية والمالية بالنيابة وبعض أعضاء مجلس نواب الشعب وأهملت أو تغافلت عن لب الموضوع وجوهر القضية الأصلية المتعلق بجسامة المخاطر القائمة والتداعيات الجسيمة المحتملة.
وبقطع النظر عن الجانب الذاتي في ردود الوزير ورد الفعل على مداخلات النواب ومؤاخذاتهم فإنه يحسب له توخي لغة الوضوح في تسمية الأشياء بمسمياتها في ما يتعلق بالأزمة المالية الخانقة والوضع الاقتصادي الحرج.
فقد لامس الجرح الغائر النازف الذي يتهدد كيان المالية العمومية والتوازنات الكبرى والوضع الاقتصادي بصفة عامة والتداعيات الخطيرة المحتملة.
ويستنتج من مداخلة الوزير ومن خلال المعطيات المتوفرة أن بلادنا تقبل على فترة دقيقة وحرجة على المستوين المالي والاقتصادي وان سنة 2018 ستكون من أصعب السنوات.
وتؤكد المؤشرات بصفة جلية أن الفتق اتسع على الراتق وأن الإجراءات الظرفية والحلول الترقيعية وأن تخفف إلى حين من حمى المرض العضال فإنها لا يمكن أن توفر الوصفة الشافية وان تستأصل الداء. والحال على ما هو عليه ما العمل ؟
يظل الحل الجذري إعادة النظر في المنوال التنموي برمته الذي أثبت محدوديته وعدم قدرته على مجابهة التحديات القائمة والمنتظرة باعتماده على قطاعات تقليدية ذات إنتاجية منخفضة وقيمة مضافة ضعيفة وعلى تراكم كمي لعوامل الإنتاج دون تطور ملحوظ في إنتاجية هذه العوامل.
ولا مناص من منوال تنمية بديل يجمع بين النجاعة والعدالة ويعتمد على القطاعات المجددة ذات القيمة المضافة العالية والمحتوى المعرفي والتكنولوجي المرتفع.
لكن في انتظار ذلك لا مفر من تدارك الأوضاع وهو ما يقتضي اعتماد برنامج مرحلي للإنقاذ لإيقاف النزيف وتفادي الأسوء وذلك على أساس حد أدنى جامع تنخرط فيه كل الأطراف والقوى الوطنية. برنامج يرتقي فوق المصالح الحزبية والحسابات السياسوية والانتخابية.
ولا بد من الإقرار بأن بلادنا اليوم تستهلك أكثر مما تنتج وتنفق أكثر مما تستخلص من موارد وبأننا شعب انهكه التواكل ولا يولي لقيمة العمل أي اعتبار ولا يجد القدوة في طبقة سياسية مهترئة غارقة في الشعارات الخاوية والمزايدات والمهاترات، فهل من مجيب قبل فوات الأوان وسقوط السقف على الجميع ؟
أرقام ودلالات:
– 500 مليون يورو حوالي 1400 مليون دينار كـــ دعم مباشر لميزانية الدولة حتى تتمكن من خلاص أجور شهري أوت وسبتمبر المقبلين.
– 15 مليار دينار هي كتلة الأجور الحالية
– 6.7 مليار دينار هي كتلة الأجور سابقا
– 75 بالمائة هي نسبة المديونية الحالية
الأستاذ عبد الحميد الزيدي الخبير المالي والاقتصادي وصاحب أكبر موسوعة عالمية في التمويل البنكي.