دراساتليبيا

ليبيا: بين رياح الداخل وعواصف الإقليم

 

 

ملخص:
القى الاعصار الاخير في الخليج بظلاله على الساحة الليبية التي تحولت الى ساحة صراعات دولية. وتجلى ذلك في مجمل التطورات التي حدثت في ظرف وجيز من مثل محاولات حفتر في التمدد وكذلك في الاجراءات التي اتخذتها حكومة الوفاق لفرملته. و في مستوى  اخر تعيش العاصمة طرابلس على هواجس اندلاع حرب بين قوات حكومة الوفاق وقوات الثوار الرافضة لحكومة السراج ولكل محاولات التقارب مع حفتر الذي يجد دعما لا محدودا من دولتي مصر والامارات العربية المتحدة اللتان تقودان مشروعا غايته ضرب الديمقراطية الصاعدة في المنطقة. وامام فشل المشروع الاممي في اخراج البلاد من محنتها يمكن الحديث عن مجموعة من السيناريوهات الواردة في مشهد يطغى عليه التعقيد وتتنازعه الاجندات المتناقضة بالجملة.

مقدمة:
لا شك أن ما يجري في ليبيا هو مرتبط عضويا بمجمل الأوضاع في الإقليم وفي العالم. وبالتالي فإن الحديث عن الداخل الليبي دون ربطه بمجمل ما يدور في المنطقة والعالم يكون حديثا تعوزه الدقة والعمق. والتطورات الأخيرة التي حدثت في البلاد تعكس كثيرا تأثر المشهد الداخلي بما يجري بين معسكرات مختلفة في التوجهات والرؤى سواء للأزمة الليبية أو لمجمل الترتيبات في المنطقة.  والإعصار الأخير الذي جرى في منطقة الخليج تأثرت به الساحة الليبية مباشرة .فما طبيعة ما جرى في ليبيا؟ وما علاقة ذلك بما يجري في الإقليم؟ وما هي آفاق المشهد الليبي في ظل التطورات الحاصلة؟ أسئلة عديدة يطرحها الواقع المعقد في ليبيا بما يوحي وأن الملف لازال بعيدا عن الحل رغم بعض الرغبات الصادقة في ذلك. وتبقى الأطراف الليبية المتصارعة مسؤولة بشكل مباشر قبل غيرها من القوى الإقليمية والدولية عن مأساوية المشهد وعن ضرورة إنقاذ البلاد مما آلت إليه.
الأطراف الخارجية المتدخلة في المشهد:
حصلت في المدة الأخيرة تطورات مهمة في ليبيا في المستويين السياسي والعسكري، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشروع إقليمي وجد ضوءا أخضر أمريكيا بعد القمة الأخيرة في السعودية. هذا المشروع الإقليمي عنوانه الأساسي التصدي بكل السبل والطرائق لتيار الإسلام السياسي الذي يعتبر العمود الفقري للربيع العربي وللديمقراطية الصاعدة .إن هذا المشروع الإقليمي تقوده بالأساس دولتان هما مصر والإمارات العربية المتحدة. وهاتان الدولتان تعملان بقوة على تكريس هذا المشروع في ليبيا وتشتغلان عليه سياسيا وعسكريا. طبعا، المتدخلون في المشهد ليس فقط هاتان الدولتان، بل هناك الأمم المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبدرجة أقل الجزائر وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا. جميع هذه الدول لها بصماتها وتأثيرها بدرجات متفاوتة. وتبقى الأمم المتحدة اللاعب الأساسي إذ هي من كانت وراء صياغة اتفاق “الصّخيرات” ووراء تنصيب حكومة الوفاق التي يقودها فايز السراج. لقد ثبت أن اتفاق “الصخيرات” لم تراع فيه موازين القوى الحقيقية في ليبيا ولم يقع التعامل مع الحقائق على الأرض بشكل يجعله قادرا على ان يكون الحل الأمثل للبلاد، ذلك أن مصالح القوى الكبرى حضرت بقوة في الصياغة بما لا يسمح  بحضور قوى الثورة بقوة في المشهد النهائي .أضف إلى ذلك الدور الكبير الذي منح للبرلمان المنتهية ولايته في تعطيل تطبيق بنود الاتفاق. وقد سعت الأمم المتحدة مؤخرا إلى محاولة فرض تطبيق الاتفاق بالقوة في العاصمة طرابلس من خلال الدعم الكبير الذي قدم إلى ما اصطلح عليه بكتائب طرابلس وهي كتائب أمنية لا علاقة لها بثورة فبراير، أذ أن أغلب عناصرها وقادتها لم يعرف أن لهم سابقية في الثورة كما أنها تعمل بتنسيق مع المجلس الرئاسي على تشكيل الحرس الرئاسي الذي يراد له أن يكون النواة الأولى للجيش والشرطة بدلا من كتائب الثوار التي قاتلت في “سرت” في عملية البنيان المرصوص والتي وعدها السراج بأن تكون القوة الاولى للجيش النظامي الليبي قبل أن يخلف وعده معها بضغوط قوية من الداخل والخارج.
يمكن الحديث اليوم عن مشروعين يتنازعان الساحة في ليبيا، هما مشروع الأمم المتحدة الذي يمثله خط الوفاق عبر حكومة السراج المعترف بها دوليا ومشروع عملية الكرامة الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر ويجد دعما كبيرا جدا من دولتي مصر والإمارات وبدرجة أقل من فرنسا التي غايتها ضمان مصالح في الجنوب الليبي بعد قيام الدولة. إن فرنسا ترى في حفتر الرجل الذي قد يمنحها  امتيازات كبرى في ليبيا في صورة إن تمكن في المشهد بشكل أو بآخر. وهذه الامتيازات لها بعدان سياسي واقتصادي. فسياسيا، ترى فيه الرجل العدو لتيار الاسلام السياسي الذي تختلف معه فرنسا ايديولوجيا انطلاقا من مبدإ العلمانية اليعقوبية الرافض لأي سلطة سياسية بمرجعية دينية. واقتصاديا ترى فيه الرجل القادر على ضمان مصالح كبرى لفرنسا في الجنوب الليبي البكر والغني بالثروات والذي يربطها جغرافيا بمستعمراتها السابقة جنوب الصحراء وهي دول تشاد والنيجر ومالي. إن فرنسا وإن كانت تزعم أنها مساندة للمشروع الأممي في ليبيا من خلال مواقفها الداعمة لحكومة الوفاق إلا أنها تعمل وبقوة ضد أي حضور فاعل لتيار الثورة ذي التوجه الإسلامي كما تعمل على أن تكون لها مصالح مضمونة مع أي حكومة مستقرة في ليبيا. وبالتالي فإن علاقتها بحفتر هي علاقة مرحلة تحكمها المصالح لأنها في الأخير ترى فيه جنرالا يسعى بكل قوة إلى فرض نمط عسكري ديكتاتوري على الطريقة المصرية وهو مالا ترغب فيه في ليبيا. كما أنها مدركة تماما أن سيطرة حفتر على البلاد هو أمر في حكم المستحيل بالنظر لموازين القوى الحقيقية على الأرض  وبالنظر إلى التوجه الدولي الرافض لأجندة خليفة حفتر والقوى التي تدعمه.
وبالعودة إلى مشروع عملية الكرامة، فإن غايته السيطرة العسكرية على ليبيا وإرساء نظام على الشاكلة المصرية. هذا المشروع هو بالكامل تحت إشراف دولتي مصر والإمارات. وقد ارتبط “حفتر” مع “الجنرال السيسي” في مصر بعلاقة مصير ومسار وبتوافق كامل مع حكام الإمارات الذين يرون في الإسلام السياسي الصاعد وفي الربيع العربي الغول الذي يهدد العروش والقوة الاقتصادية الناشئة التي ستسعى إلى إرساء موانئ  عملاقة تهدد ميناء دُبي، الذي يعتبر شريانا أساسيا من شرايين الاقتصاد في دولة الامارات. لقد سعت هاتان الدولتان مؤخرا إلى جعل حفتر يتحرك بالسرعة القصوى في محاولة لحسم معركتي بنغازي ودرنة في الشرق وإلى السيطرة على مناطق مهمة في الجنوب الليبي لجعل  السراج يقبل بحفتر كوزير دفاع في حكومة الوفاق، إلا أن هذا المشروع قد فشل . فهذا العسكري لازال يتخبط في الشرق الليبي وتمدده الأخير في الجنوب لم يكن بأبعاد استراتيجية بل إنه أصبح رهينة لدى قوى أخرى من “التَّبو” ومن أنصار القذافي الذين يقاسمونه النفوذ في هذه المناطق. كما أن الجزائر بدأت تتحرك بقوة عبر الجنرال “علي كنه” التَّارقي صاحب النفوذ الكبير في الجنوب الليبي والرافض لعملية الكرامة والمعروف بعلاقته القويّة بالجزائر.
إن مشروع الكرامة مرتبط ارتباطا وثيقا بالمشروع الإقليمي الذي تقوده بعض الدول الخليجية ومعها مصر . والأزمة الأخيرة انعكست على الداخل الليبي آليا إذ أعلنت حكومة الأزمة التي يقودها “عبد الله الثني” في الشرق والخاضعة لمشروع الكرامة مقاطعتها لدولة قطر تأسيا بمصر والإمارات والسعودية والبحرين وأعلن الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية “عبدالرزاق الناظوري” عن إجراءات حازمة ضد كل من يتابع باقة قنوات الجزيرة. كما وضع خليفة حفتر “قواته” تحت إمرة الإمارات العربية المتحدة في التصدي للمشروع القطري المتوهم والذي يرونه داعما للثورات العربية وللديمقراطية في المنطقة و”مصدرا للارهاب”.
إن دولة الامارات بالتحديد تشتغل بقوة في ليبيا وعلى عدة واجهات وفي أماكن مختلفة. فهي ليس فقط داعمة لمشروع الكرامة وإنما تدعم العديد من السياسيين المعارضين للتيار الإسلامي وللخط الثوري في الشرق والغرب والجنوب وتتحرك عبر آلية شراء الذمم وعبر الدعم المادي للكيانات السياسية والعسكرية. بل إن بعثة الأمم المتحدة لم تسلم من الإغراءات الإماراتية وهناك حديث عن أن ” برنادينو ليون” كان يتقاضى ألف دولار يوميا من دولة الإمارات طيلة فترة إشرافه على البعثة الأممية في ليبيا. والحديث عن التدخل الإماراتي في ليبيا طويل ومتشعب و يكفي التقرير السنوي الأخير الذي أصدرته الامم المتحدة  حول ليبيا لنعرف شكل هذا التدخل وحجمه. فقد كشف تقرير الامم المتحدة وبالوثائق الغير قابلة للدحض عن حجم الأموال وهي بملايين الدولارات التي دفعت لحفتر وأبنائه وكذلك لجهات أخرى معلومة ومذكورة بالإسم. كما كشف التقرير عن حجم الأسلحة القادمة من الامارات إلى ميناء طبرق وهي آليات عسكرية ومدرعات ودبابات. كما كشف التقرير عن القواعد العسكرية التي تحتضن الطائرات الإماراتية التي تقصف منطقتي” الصابري وسوق الحوت” في بنغازي كدعم لقوات حفتر على الأرض ضد مجلس شورى ثوار بنغازي. كما كشف التقرير عن عديد القنوات التلفزية المدعومة من الامارات والتي تشتغل بقوة ضد ثوار فبراير. والجميع يعلم الدور الذي يلعبه الإعلام في ليبيا في توجيه الرأي العام وفي خلق الفتن وتأجيج الاوضاع. كما أن ثبات علاقة حفتر بتنظيم داعش في ليبيا يضع عديد نقاط الإستفهام حول علاقة هذا التنظيم بالقوى الداعمة لحفتر. ذلك أن هذا الجنرال لا يستطيع أن يتعامل مع هذا التنظيم الإرهابي دون أن يكون تحت إشراف غرفة العمليات الاماراتية المصرية  في الشرق الليبي.كما توجد اتهامات للامارات أنها خلف محاولة إعادة زرع هذا التنظيم من جديد في الغرب الليبي بعد الضربة العنيفة التي تلقاها مؤخرا في سبراطة علما وأنه تم اكتشاف تحرك لهذا التنظيم هذه الأيام في منطقة جنوب مدينة سبراطة. والمجلس العسكري للمدينة الذي يقوده العميد “الطاهر الغرابلي” يعد العدة للقضاء عليه في المهد. إن العميد الطاهر الغرابلي الذي كان له الفضل الكبير في القضاء على الدواعش في صبراته، وُضع على قائمة الإرهاب التي أعدتها غرفة الكرامة في الشرق والتي تضمنت إلى جانب السياسيين مجموعة من الضباط الليبيين المعروفين بولائهم للثورة. وتأتي هذه القائمة في سياق التماهي مع القائمة التي أعدتها الامارات وحلفائها مؤخرا والتي أسالت حبرا كثيرا علما وأن رئيس البرلمان “عقيلة صالح” كانت له تحفظات على القائمة التي أعدتها غرفة عملية الكرامة لأنها في تقديره تتنافى ومبدإ المصالحة الوطنية الشاملة والتي يتبناها تيار في البرلمان في طبرق . واللافت للأمر في هذا التقرير الشامل عدم إتيانه على اسمي قطر وتركيا في دعم أي طرف من أطراف النزاع بالمال أو السلاح. وهذا يثبت حقيقة في الساحة الليبية هو أنه لو أن هاتين الدولتين تدعمان خط الثورة بقدر الدعم الذي تتلقاه ميليشيات حفتر من مصر والامارات لتم من زمان القضاء على عملية الكرامة ولما كان واقع ليبيا على هذه الشاكلة. إن ما يعيبه ثوار ليبيا على هاتين الدولتين هو اكتفاؤهما بالدعم السياسي. وهذا يحسب لهاتين الدولتين اللتين ترغبان في الحل السياسي بدل الحل العسكري في هذا البلد المنكوب.  إن المشروع اللإماراتي المصري وجد في مواقف الرئيس الامريكي “دونالد ترامب” دعما للتحرك وبقوة على كل الواجهات تحت يافطة ” مواجهة الإرهاب”. ولكن المثير في الأمر أن الرئيس الامريكي غير متناغم مع طاقم إدارته في هذا الملف وخصوصا مع وزيري الدفاع والخارجية . وقد تجلى ذلك في التعاطي مع دولة قطر وهو ما جعل الأطراف المتورطة في الحصار على حيرة من الموقف الأمريكي الحقيقي تجاه الأزمة في الخليج. أضف إلى ذلك المواقف الأوربية المتعاطفة مع قطر وهو ما ينبئ بفشل مشروع الحصار وخروج قطر قوية من الأزمة.  وبالعودة إلى المشروع الأممي في ليبيا فإنه يتعرض إلى صعوبات جمة في جزء منها نتيجة طبيعة الإتفاق ذاته والتي أشرنا إليها فيما سبق. وفي جزء آخر نتيجة تعقد المشهد وطغيان الأجندات المتصارعة . وإنهاء مهمة السيد ” مارتن كوبلر” رئيس البعثة الأممية في ليبيا دليل على فشله في إدارة الملف بما يستوجب تعويضه. ولكن رغم كل هذه الصعوبات لازال هذا المشروع يتقدم ولو ببطء. إن المشروع الأممي الذي تمثله حكومة السراج يطرح نفسه كمشروع توافقي لا يستثني إلا القوى الداعمة للإرهاب أو المصنفة على أنها إرهابية، وهو ما جعله عاجزا بعد مرور حوالي سنتين عن إيجاد صيغة توافقية تجمع كل الأطراف المتصارعة حول رؤية موحدة لمشروع الإنقاذ الوطني . فالمجلس الرئاسي، إلى جانب كونه غير متجانس في مواقفه، فانه يتسم بالضعف الشديد خصوصا في شخص رئيسه السيد فايز السراج. فقد وجد نفسه بين قوتين تتناقضان بالكلية في المنطلقات والأهداف. فهو يسعى منذ أكثر من عام إلى نيل ثقة البرلمان في طبرق لتكتمل شرعيته وفق نص اتفاق الصخيرات إلا أن البرلمان مكبل بموقف الجنرال حفتر الذي لا يعترف بالمجلس الرئاسي بل يعتبره مجلس وصاية أجنبي. وحتى اللقاء الأخير في الإمارات الذي جرى بين حفتر والسراج لم يخرج بنتائج حقيقية والدليل أن كلا الرجلين خرج ببيان خاص بعد اللقاء وهو ما يدل على أن الهوة متباعدة بين الرجلين. فحفتر لن يقبل بأقل من وزارة الدفاع أو القيادة العامة للجيش التي تمكنه في مرحلة لاحقة من الترشح للإنتخابات الرئاسية. وهذا أمر في حكم المستحيل بالنظر إلى التوازنات الداخلية التي تتجاذبها أطراف أخرى قوية على الأرض ترفض حفتر بالمطلق. وهذا الأمر يدركه فايز السراج. والتحركات الأخيرة للجنرال حفتر في الجنوب الليبي تتنزل في إطار الضغط على السراج ليقبل به في موقع متقدم في السلطة وكإشارة منه (اي حفتر) تجاه رئيس المجلس الرئاسي بأنه مدعوم بقوة من الجار الشرقي (مصر) الذي دخل مؤخرا ببعض الجنود والأليات إلى مناطق في الشرق الليبي بتعلة محاربة الإرهاب وفي الواقع هو لدعم حليفه حفتر حتى يتمكن أكثر. وبالتالي يقبل السراج به بفعل الأمر الواقع. وهذا الأمر تفطن له المجلس الرئاسي ورد على هذا التمدد بتسمية العميد “محمد الحداد” أحد قادة لواء الحلبوص (أقوى لواء عسكري في ليبيا وهو من مصراته ومحسوب على حكومة الوفاق)آمرا للمنطقة العسكرية الوسطى التي حاول حفتر أن يتمدد فيها مؤخرا. وهذا القرار يعني آليا أن لا شرعية في هذه المنطقة إلا لحكومة الوفاق وأي قوة أخرى هي غير شرعية وعبارة عن ميليشيا خارجة عن القانون. كما تمت تسمية “أسامة الجويلي” آمرا للمنطقة الغربية . وبالتالي تمت حماية مدينة طرابلس عاصمة البلاد من الجنوب والغرب من اي قوة تسعى لدخولها. والان، بحكم القانون وبحكم الامر الواقع يستحيل على خليفة حفتر أن يتحرك في هذه المناطق الإستراتيجية من البلاد. ومن ناحية الشرق، فإن مصراته كافية لوحدها لصد أي محاولة لهذا الجنرال للتقدم. وأما عن سكوت السراج والمجلس الرئاسي عن قصف مدينتي درنة وبنغازي بالطائرات الأجنبية وارتكاب جرائم حرب في هذه المناطق فسببه أن “مجلس شورى ثوار بنغازي” و”درنة” مصنفان لدى الدوائر الغربية كقوى إرهابية  رغم أن الحقيقة مخالفة لذلك. ويتحمل المجلسان جزء  من المسؤولية لأنهما لم يخاطبا لا الليبيين ولا العالم بالشكل المطلوب الذي ينزع عنهما صفة الإرهاب كما أنهما لم يعترفا بالمجلس الرئاسي . وهذه من الأخطاء الكبرى التي وقعا فيها .
أما عن علاقة المجلس الرئاسي بقوى الثورة فهذا فيه الكثير من التفصيل. إن المجلس الرئاسي يريد أن تكون كل القوى في البلاد تحت إمرته بمعنى أنه الوحيد المخول بامتلاك السلاح وإدارة الشأن العام في إطار الدولة المركزية الموحدة والقوية أي مصدر السلطة والتنفيذ. وهذا يمثل مصدر قلق وخشية لخط الثورة الذي يرى أن هذه الحكومة ستأتي على كل التضحيات وأن نصيبهم من السلطة سيكون ضعيفا لأنهم غير مطمئنين لأجندة الأمم المتحدة . كما أن هذا الأمر كان سببا في انقسام الثوار إلى فريقين، أحدهما موال لحكومة الوفاق على علاّتها والآخر رافض للتمشي الأممي الذي لم يراع موازين القوى الحقيقية ولم يعط الثوار حجمهم الحقيقي وموقعهم في ليبيا الجديدة. وهذا التيار الرافض للتمشي الأممي ولحكومة الوفاق هو تيار قوي وفاعل رئيسي في البلاد وله قوة عسكرية كبيرة. هذا التيار يمثله المؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ بقيادة خليفة الغويل وخط دار الإفتاء. إن حكومة الوفاق تسعى الآن إلى كسب مصادر القوة العسكرية وتحاول إضعاف هذا الخط الموجود في طرابلس والزاوية ومصراته وجبل نفوسه والزاوية وسبراطه وزوارة وعديد المدن الأخرى . إن هذا التيار لو اتحد في إطار خطة سياسية وعسكرية  واضحة فإنه قادر على قلب كامل المعادلة في البلاد ولكنه هو في ذاته تشقه الخلافات العميقة نتيجة اختلاف وجهات النظر ونتيجة محاولات اختراقه عبر شراء الذمم في محاولة لإضعافه. ويبقى المشكل الرئيسي بالنسبة لقوى الثورة سواء المساندة للوفاق أو الرافضة له هو غياب العقل السياسي الفاعل الذي يتعاطى بالواقعية والبراغماتية المطلوبتين في مثل الواقع الليبي المعقد وفي إطار استراتيجية تراعي موازين القوى الدولية المؤثرة بقوة في الملف.
مستقبل الصّراع في البلاد والسيناريوهات الممكنة:
المؤكد أن كل القوى في ليبيا تشقها الخلافات العميقة سواء قوى الثورة أو مشروع عملية الكرامة، وحتى حكومة الوفاق غير متجانسة في تركيبتها. وتبقى التدخلات الخارجية هي المحرك لمجمل مفردات الملف. ويبقى الثابت أن مشروع الكرامة لا مستقبل له في ليبيا خصوصا إذا ثبت أمر إطلاق سراح سيف الاسلام القذافي الذي سيكون منافسا آخر لحفتر. السيناريو الاول يعتبر فيه سيف الاسلام طرفا ، وخط الثورة يعتبره  أقرب له من حفتر بمعنى إمكانية الالتقاء بين الثوار وسيف القذافي في قادم الأيام أمر ممكن الحدوث. وهذا إن حصل، فسيغير عديد المعادلات و التحالفات. إن سيف الاسلام القذافي لا يُتوقع  له مستقبل في ليبيا، فالرجل مطلوب للعدالة في البلاد وفيه بطاقة جلب من النائب العام، كما أنه مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، وبالتالي إمكانية تصدره المشهد أمر مستبعد جدا. هذا على فرضية أنه أطلق سراحه لأن هذا الأمر غير مؤكد لحد الآن.
السيناريو الثاني الخطير، غير المستبعد، اندلاع حرب في طرابلس بين القوات المحسوبة على الوفاق وبين الخط الثوري الرديكالي إن صح التعبير والذي يقوده “خليفة الغويل” ودار الإفتاء لأن الأوضاع متوترة جدا بين الطرفين وإمكانية القتال واردة بقوة رغم الجهود الدؤوبة للتهدئة لتجنيب العاصمة ويلات الحرب. فهذه القوة (اي الخط الراديكالي) تريد اعترافا صريحا من الكتائب المسيطرة على العاصمة معززا بالأفعال أنها ضد المشروع الأجنبي الذي يقوده خليفة حفتر حتى لا تضطر إلى دخول العاصمة وتجنب ويلات الحرب.                                                                                                                 
  إن ما يقلق في الأمر أن  روح العداء بدأت تنمو بين الخط الثوري وبين كتائب طرابلس المدعومة من اللجنة الأمنية الأممية التي يقودها الجنرال الإيطالي ” باولو سيرا”. ولو اندلعت الحرب فلا نستبعد تدخل قوات ” الافريكوم”  الأمريكية لدعم حكومة السراج التي لا تمتلك قوة قادرة على صد الطرف الآخر من دخول طرابلس . ولو حصل هذا السيناريو فإنه لا يمكن التنبؤ بحجم نتائجه الكارثية على كامل البلاد.
السيناريو الثالث القابل للتنفيذ، والذي عليه اشتغال كبير هذه الأيام، هو حصول توافقات بين مختلف كتائب الثوار سواء المساندة للحكومة أو الرافضة لها لفرض أمر واقع في طرابلس والغرب الليبي وذلك “بإجبار” فايز السراج على تسمية قائد عام للجيش لقطع الطريق نهائيا أمام طموحات خليفة حفتر وإعلان تشكيل الجيش الليبي عبر خطة يقع الإشتغال عليها منذ مدة بين عدد كبير من الضباط الموالين للثورة. وهذا السيناريو إن حصل فانه سيكون البداية الحقيقية لإخراج البلاد من أزمتها. وبالنظر إلى تشعبات الواقع في البلاد فإن حظوظ هذا السيناريو ليست مستحيلة ولكنها صعبة. وتحقيقها يستوجب قدرا كبيرا من الحكمة السياسية والعمل الدؤوب القادر على تجاوز كل الصعوبات والمؤامرات لأن هذا السيناريو لا يحظى بدعم القوى الكبرى والقوى الإقليمية المؤثرة بقوة.                           
 
السيناريو الرابع هو تغيير هيكلي في خطة الأمم المتحدة بعد فشل مسارها الحالي وذلك بتغيير تركيبة المجلس الرئاسي وعناصره وبداية الإشتغال على مشروع توافقي حقيقي يراعي موازين القوى على الأرض يكون فيه خليفة حفتر عضوا في المجلس العسكري الأعلى أي أنه موجود ولكنه غير متمكن. وفي هذه الحالة، يمكن القبول به من طرف القوى الرئيسية في البلاد رغبة في الإستقرار وتجنبا للحلول العسكرية التي ثبت من المراحل السابقة أنها غير ممكنة التحقيق في بلد عدد قطع السلاح فيه أضعاف عدد سكانه. إن نجاح هذا السيناريو مقترن بأمرين : الأول هو أن يكون الرئيس الجديد لبعثة الأمم المتحدة صاحب شخصية قوية وملم جيدا بطبيعة الوضع في البلاد وبخصائص المجتمع الليبي حتى يتمكن من فك عديد الشفرات التي على بساطتها تبقى من المفاتيح الأساسية للحل. وقد يتوفر هذا الشرط في المبعوث الأممي الجديد لليبيا وزير الثقافة اللبناني الأسبق السيد “غسان سلامة”. فهو إلى جانب ثقافته الكبيرة وتجربته الأممية هو صديق للسيد طارق متري المبعوث الأممي الأسبق إلى ليبيا  والملم بشكل كبير بالملف. كما أن معايشة السيد غسان سلامة للحرب الأهلية في لبنان ستساعده كثيرا في التعامل مع متناقضات المشهد. وهذه الخبرة هي على غاية من الأهمية. والأمر الثاني المهم لنجاح هذا السيناريو هو فشل المشروع الإقليمي الذي تقوده مصر والإمارات ضد دولة قطر لأن ذلك سينعكس آليا على الساحة الليبية وسيقع الضغط على الدولتين لرفع ايديهما عن التدخل في ليبيا. وهذا مشروط بموقف تونسي وجزائري قوي داعم للتمشي الايطالي الراغب في فرملة طموحات حفتر والماسك بأوراق قوية جدا في ليبيا .
خاتمة:
إن ليبيا ليس بلدا معزولا في هذا العالم، بل هو بلد واعد يثير لعاب الجميع. وهذا ما لم يدركه أهل البلد جيدا وتركوا الساحة الداخلية لمن هب ودب من القوى الدولية والإقليمية لتمرر مشاريعها الخاصة على حساب الليبيين ومصالحهم في الأمن والإستقرار. وتبقى مسؤولية انقاذ البلاد على عاتق أهلها قبل غيرهم. لكن هذا لا يمنع من أن يكون لدول الجوار الغربي دورا رئيسيا في انقاذ البلاد لو صدقت النوايا عبر التنسيق مع الأمم المتحدة ومع إيطاليا لوضع حد لتدخل الجار الشرقي. وليعلم الجميع أن ليبيا كانت في طريقها إلى الإستقرار قبل سنة 2013. ولكن بمجرد وقوع الإنقلاب في مصر دخلت ليبيا في مرحلة من الفوضى السياسية والعسكرية لازالت قائمة إلى اليوم. إن جزء كبيرا من الحل مرتبط بإيقاف التدخل المصري والإماراتي الذي يقود مشروعا غايته وأد الديمقراطية والحرية في المنطقة.

المهدي ثابت 

المصدر: مركز الدّراسات الاستراتيجية و الديبلوماسية،2017/07/24. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق