
علي عبداللطيف اللافي[1]
عرفت تونس سنة 2011، رغم الثورة على المخلوع وحزبه “التجمع الدستوري الديمقراطي” المنحل في مارس 2011 بطلب شعبي، تأسيس عددا كبيرا من الأحزاب الدستورية والتجمعية بلغت عددها عمليا 47 حزبا من أصل 216 حزبا مقننا، إلَا أن نتائج انتخابات أكتوبر 2014 جعلت الأحزاب الدستورية تتقلص الى أقل من 10 أحزاب بل أن بعضها انصهر في أحزاب أخرى يسارية أو ليبرالية أو وسطية، فما هي تلك الأحزاب وما هي آفاقها المستقبلية وعلاقتها بحزب نداء تونس وبقية مكونات المشهد السياسي؟
1- المسار التاريخي للدساترة وأحزابهم :
بدأت قصة الأحزاب الدستورية مع “الحزب الحر الدستوري التونسي” الذي أسسه الشيخ الثعالبي سنة 1920، من أجل المطالبة بإقرار دستور وبرلمان تونسيين و بالتحرر الوطني، إلَا ان الخلافات داخله ومحاولات اختراقه تعددت يومذاك عبر بعث تنظيمات سياسية لإختراقه على غرار “الحزب الإصلاحي” كمثال للذكر لا الحصر، ومع بداية سنة 1934 حدثت خلافات داخله أدت في الأخير الى ظهور حزبين عُرفا عمليا باسمي “الدستوري الجديد” و “الحزب القديم”، أما عشية الاستقلال فقد انحرف الحزب عن أهم رسائله بعد عمليات تصفية متبادلة بين تيَاري “الديوان السياسي” (بقيادة الحبيب بورقيبة) و”الأمانة العامة” (بقيادة صالح بن يوسف) حول مُلابسات مفاوضات الاستقلال وانتهت الصراعات بسحق التيار “اليوسفي” واعدام وتهجير قياداته ومُناضليه، بل أن الحزب دخل في متاهات الفردانية والتمجيد للزعيم الواحد مُنذ مؤتمر 1959 وازداد تغولا على حساب المجتمع اثر مؤتمر المصير ببنزرت ليعرف ظهور تيارات داخله في بداية السبعينات وخاصة بعد انتخاب بورقيبة رئيسا مدى الحياة في سنة 1974 فظهرت تنظيمات معارضة كانت قياداتها ركنا من أركان “الحزب الاشتراكي الدستوري”، وليتطور الصراع حول خلافة بورقيبة الى أزمات سياسية واجتماعية حادة ( الصدام مع الشغالين في 1978 – أحداث قفصة سنة 1980 – أحداث الخبز 1984 – الاحداث الطلابية 1986 ) مما أدى في الأخير الى سقوط بورقيبة ونظامه وقيام الجنرال بن علي بانقلابه الأبيض أي عمليا محاولة انقاذ النظام من داخله، وتم تسليم الحزب في ربيع سنة 1988 الى الجنرال الذي ناور عبر التلويح بتأسيس “حزب التغيير”، ليستولي على ما تبقى من الحزب الدستوري الحاكم ويعقد له مؤتمرا، سُمي بمؤتمر “الإنقاذ”، ثم تم تحويل الحزب الى قطعة قماش بالية ليمسح فيها النظام بل الجنرال وعائلته وحاشيته ومستشاريه كُل جرائمهم وعمليات نهبهم المُتواصلة لمُقدَرات الدولة ومُحاصرة أنفاس المجتمع….
وهو ما أدى الى سقوطه ثم مرحلة ترهله الذي بدت ملامحها واضحة اثر تحرك 18 أكتوبر 2005 للمعرضة الراديكالية (النهضة – البوكت – ناصريين – ديمقراطيين تقدميين – مستقلين)، وتحركات الحوض المنجمي قبل ان يطلق الشهيد محمد البوعزيزي شرارة ثورة الحرية والكرامة، ولم يصمد النظام حتى شهر واحد ليفر رمزه بجلده ليترك وراءه الشُعب والجامعات و أركان نظامه والذين سارعوا اثر حل حزبه بعد مطالب شعبية أمام مقره المركزي، بتأسيس أحزاب تحت مُسمَيات عديدة بلغت عناوينها 47 عنوانا وقد تأسست أغلبها في فيلا قريبة من حي المنار 03، وهي أحزاب أقامت في ما بينها تآلفا دستوريا في أكتوبر 2011 ولكنها لم تحصد أي مقعد في المجلس الوطني التأسيسي …
2- فُسيفساء الأحزاب الدستورية والتجمعية:
أ-الأحزاب والتحالفات الدستورية ذات المرجعية البورقيبية
وهي الاحلاف والأحزاب التي تغلب صفة الدستورية على سمتها “التجمعي” سوى من حيث مرجعياتها التاريخية او مقولاتها وقراءتها للأحداث والتطورات السياسية أو من حيث أن قياداتها لم تتورط بشكل كُلي في سياسات نظام الرئيس المخلوع، أو هُم في حدَ أدنى تخلَصوا من تجربته بشكل كُلي وبمقولاته الكلاسيكية في الاقصاء وتبرير سياساته الكارثية…
+ حزب “المبادرة الوطنية الدستورية”:
أسس “كمال مرجان” بداية سنة 2011 حزب “المبادرة”، مستفيدا من كونه نجل والي ووزير الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة أي “القنطاوي مرجان”، وفي سنة 2012 قام الحزب باندماج تنظيمي مع حزب “الوطن” ليكون المسمى الجديد “حزب المبادرة الوطنية”، وقبل انتخابات ،قام الحزب بإجراء مشاورات سياسية مع عدد من الأحزاب الدستورية الصغيرة والأحزاب الوسطية على غرار حزب رجل الاعمال “العياشي العجرودي”، وهي مشاورات أفضت في النهاية الى تسمية “حزب المبادرة الوطنية الدستورية”، الا أنه ونتاجا للتطورات السياسية وانسحاب مجموعة العجرودي، خاض الحزب عددا من المشاورات مع أحزاب “نداء تونس” و”حزب المشروع” و”مجموعة الزنايدي” وبعض قيادات “الحزب الدستوري الحر”، ثم تطورت الخلافات السياسية بين قياداته مما حدا بمجموعة الوطن بقيادة “محمد جغام” بمغادرة الحزب بداية سنة 2017…
+ حزب “الوطن” الدستوري:
قام الوزيران السابقان أحمد فريعة ومحمد جغام في مارس 2011، باعتبارهما قد أخذا مسافة من نظام الرئيس المخلوع منذ منتصف العقد الماضي أي سنوات قبل الثورة[2]، بتأسيس حزب الوطن مع عددا من الوجوه التي انسحب من الحزب عشية تسليمه للمخلوع في ربيع 1988 الا ان الانشقاق حدثا مبكرا في الحزب الوليد وخروج عددا من قيادييه بعد انسحاب أحمد فريعة ، فخاضت “مجموعة جغام”، نقاشات أدت كما اسلفنا الذكر إلى تأسيس “حزب المبادرة الوطنية”، ثم “حزب المبادرة الوطنية الدستورية”، الا أن التطورات والعلاقة بمختلف التنظيمات والجبهات السياسية جعل مجموعة “جغام” يعُود الى مربع 2011 أي تسمية حزب الوطن ولتدخل مجددا في متاهات البحث عن موقع في المشهد السياسي المتقلب…
ب- أحزاب السلفية الدستورية والتجمعية:
+ حزب الاستقلال: وهو حزب صغير أسسته مجموعة صغيرة بقيادة “ريم المورالي، وهذه الأخيرة قيادية سابقة بحزب “المبادرة”، وكانت قبل الثورة أحد اهم الفاعلين في مكتب الأمين العام للتجمع المنحل…
+ الحزب الدستوري الحر: وهو تسمية جديدة للحزب الذي أسسه حامد القروي سنة 2013 إلا أنه وبانسحابه توخَى الحزب عقلية أكثر اقصائية تجاه الآخر السياسي (مرزوق – الإسلاميين – القوميين)، بل ومارس الاقصاء السياسي حتى تجاه بعض قيادييه (طرد حاتم لعماري ونزيهة زروق وآخرين إثر مؤتمر أوت 2016 التأسيسي)، وهو ما يجعل صفة السلفية الدستورية ميزة موضوعية لحزب “موسي” ومن بقي فيه معها.
ت- أحزاب تتبنَى -أو هي تدعي تبنَي-المرجعية الدستورية:
عمليا تأسست أحزاب عدة تتبنى المرجعية الدستورية والبورقيبية ولكنها لم تصمد في المشهد السياسي أكثر من سنة واحدة على غرار أحزاب البورقيبية الجديدة (صلاح مصباح) وحزب الحداثة (الأستاذ البعزاوي) وأحزاب “عبد المجيد شاكر” و”فيصل التريكي” و “بن خود” وآخرين من قيادات الحزب الاشتراكي الدستوري في السبعينات، أما الأحزاب التي بقيت فاعلة في الساحة السياسية من حيث حضورها الإعلامي فهي:
+ حركة مشروع تونس: هو عمليا انشقاق عن “حركة نداء تونس”[3] اثر خلافات أثناء فترة حكومة الحبيب الصيد الأولى، مع ما عُرف يومها بشق جربة (مجموعتي المدير التنفيذي ومدير الديوان الرئاسي آنذاك “رضا بلحاج”)، إلا أن مرزوق سارع عمليا الى ممارسة سياسة فردية أبعدت عنه مبكرا عددا ممن غادر معه النداء، على غرار “الطاهر بلحسين” و الاستاذين “عبدالستار المسعودي” و”لزهر العكرمي” وآخرين، ثم انشق عنهم أيضا نواب وقياديين آخرين على غرار “وليد جلاد” و”بشرى بلحاج حميدة”، كما شهد الحزب استقالات في عدد من الجامعات والفروع، ويتبنى مرزوق وحزبه مقُولات دعائية على غرار “البورقيبية الجديدة” و”المشروع الوطني العصري”….
+ حزب بديل تونس: وهو حزب كفاءات إدارية كما يؤكد رئيسه المهدي جمعة، وهو حزب يضم تكنوقراط وبعض وزرائه سنة 2014 وهو حزب يتبنى الإرث البورقيبي سياسيا وفكريا كما يضم عددا من مُنتسبي التجمع المنحل وخاصة الفاعلين الاقتصاديين الذين كانوا يستفيدون من النظام وحزبه الواحد …
+ مشروعي “الزنايدي” و”سعيد العايدي”: وان يختلف التقييم بأداء الشخصين وعناصر المجموعة المحيطة بكل منهما والمجموعتين تضمان عددا من الدستوريين والتجمعيين والليبيراليين واليساريين، ولن يستطيع الاثنان تحقيق آفاق سياسية كبيرة لطابعهما الفردي وسينحصر نشاطهما على مبتغى الترشح للرئاسيات القادمة أو الالتحاق بالنداء أو أحد المشاريع السياسية الأخرى….
+ حزب تونس المستقبل: وهو حزب يقوده القيادي بتيار اليسار الماركسي في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، وهو أيضا قيادي سابق في النداء…
ث- حزب حركة نداء تونس وتيَاراته المُتصارعة
لا يختلف اثنان ان نداء تونس التحقت به نُخب من مختلف المشارب الفكرية رغم انه وظَف عمليا الماكينة التجمعية وسط تعتيم اعلامي، وقد استطاع الحزب التطور نحو حزب ليبيرالي براغماتي، فخاض تجربة التوافق رغم وضعه الداخلي، كما سعى في المدة الأخيرة لاستقطاب شخصيات بارزة ووزراء سابقين…
ويضمُ الحزب حاليا 03 تيارات متصارعة داخله مما قلص من فاعليته السياسية ومصداقيته لدى الرأي العام:
+ التيار الرئيسي: بقيادة المدير التنفيذي للحزب ونجل الرئيس أي حافظ قائد السبسي، وينتمي اليه أغلب النواب…
+ تيار الإنقاذ: بقيادة رضا بلحاج وهو ضمن جبهة الإنقاذ، وهو يضم عمليا أهم ما تبقى من المؤسسين من اليساريين ….
+ تيار الأمل: بقيادة فوزي اللومي، وهو تيار كان ينوي الالتحاق بحزب آفاق تونس أو تأسيس حزب جديد مع إمكانية البقاء في الحزب وذلك مرتبط بالمؤتمر الانتخابي القادم ….
3- نقاط الإلتقاء والإختلاف:
أ- نقاط الالتقاء:
- عقلية الاقصاء تجاه الآخر السياسي، وإن بتفاوت من حيث التصريح بذلك في الخطاب السياسي والإعلامي …
- توظيف المرجعية البورقيبية في الخطاب السياسي والفكري والثقافي والترويج ذلك في استقطاب قطاعات من المجتمع ….
- ضم أغلبها قيادات مركزية ووسطى من “التجمع الدستوري الديمقراطي” المُنحل وهياكله السابقة في الجهات وهي في صراع محموم لاستقطاب أعضاءه السابقين وخاصة ممن لم تسلط الأضواء على تاريخهم وممن لم تطلهم هياكل القضاء….
- الترذيل المتواصل للثورة ومحاولة المساواة بين ترتبات ست عقود من الاستبداد والفساد ومنطق الرأي الواحدة والتنمية غير المتكافئة بين الجهات، و06 سنوات فقط من اندلاع ثورة الحرية والكرامة…
ب- نقاط الاختلاف:
- الدفاع عن سياسيات الرئيس المخلوع من عدمه فأحزاب مشروع تونس وتونس المستقبل تدافع عن المخلوع باحتشام وتتحاشى نقد شخصه وحتى ما فعلته عائلته، بينما تدافع أحزاب السلفية الدستورية عن المخلوع بشكل منقطع النظير …
- في وصف ما حدث في 14 جانفي 2011 ففي ما تعتبر أحزاب الوطن والمبادرة والمشروع وبعض أجنحة النداء أن ما حدث يوم 14 جانفي هو ثورة شعبية أطاحت بالنظام، ترى بعض الأحزاب الأخرى أنه منعرج تاريخي او انتفاضة فقط لا غير….
4- آفاق الأحزاب الدستورية:
تختلف آفاق الأحزاب الدستورية عموما بــــ:
أ- طبيعة التطورات الإقليمية على غرار الوضع في مصر والأردن وما سيترتب عن تطور الاحداث في سويا وليبيا واليمن طبيعة تطورات المسار السياسي في الجزائر والمغرب وموريتانياـ فلا مستقبل لأحزاب على غرار “مشروع تونس” وكل مكونات جبهة الإنقاذ الجديدة بدون انتصار الثورات المضادة وعودة المنظومات القديمة …
ب- نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي وترسَخها ونجاح العدالة الانتقالية وعندئذ فلن يبقى في الساحة السياسية من بين الأحزاب الدستورية سوى حزب المبادرة ونسخة معدلة من نداء تونس ……
ت- قَدرة المجتمع المدني على تصحيح المسار الثوري والمساهمة في تحقيق أهداف الثورة واستكمال مهامها وعندئذ ستجد أحزاب على غرار أحزاب الاستقلال والحزب الدستوري الحر في طي النسيان والانحلال والتواري عن الساحة السياسية نهائيا …
ث- الحرب المستمرة بأشكال فكرية وسياسية وثقافية مختلفة بين أنصار الثورة التونسية وعقليات الثورة المضادة في الإدارة والمؤسسات وفي المجتمع وفي الخطاب الإعلامي والسياسي…
ج- لن يجدي توظيف البورقيبية واللعب على مقولات المشروع العصري أي شيء بل ستدفع تلك الأحزاب ثمن التوظيف ومنطق التشويه المعتمد في خطابها السياسي لان عقلها السياسي لم يستوعب معطيات التاريخ وابجديات حاضر الشعب وطبيعته المجتمعية والثقافية وفرادته في الرؤية السياسية الأقرب للفطرية، ولذلك من المنتظر أن يشهد حزب مشروع تونس وجبهته تصدعات كبرى وابتعاد نواب عن الكتلة وغرق تنظيمي وارتباك اثناء المحطات السياسية الكبرى…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – كاتب ومحلل سياسي مستقل
[2] – رغم أن أحمد فريعة تحمل عمليا حقيبة الداخلية في الأيام الأخيرة للرئيس المخلوع أي منذ 11 جانفي 2011 حتى تشكيل محمد الغنوشي الثانية ….
[3] – أنظر مقالنا “يساريو النداء والخيارات المؤلمة”، موقع شمال إفريقيا للدراسات والتحاليل سبتمبر 2015 ….