
هل أعطى الجنرال الفرنسي ديغول الاستقلال للجزائر أم انتزعه شعبها بتضحيات جسام وقف عليها العالم بأجمعه، وظل يتحدث عنها لعقود، ومازال؟ هذا السؤال ظل دائما موجودا في سياق الخطابات السياسية الجزائرية و العربية و الأوروبية وخصوصا في فرنسا. و في ظني أن مثل هذا الجدال حول قضية الثورة والاستقلال وحرب التحرير سيبقى مستمرا ما دام هناك طرفان يتداولان ويطرحان وجهات نظر متناقضة تعلو وتسفل بمستواها وفق ظروف النقاش العام الذي يضيق أحيانا فيبقى داخليا، ويتسع أخرى حسب مستوى تبادل المعارف بين الشعوب والحضارات، خصوصا بين الشرق والغرب.
الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة وأحد أركان الحكم في دولة الإمارات العربية وأحد الحكام المثقفين والمتدينين أصبح بين ليلة وأخرى طرفا في هذا النقاش الجزائري/الجزائري من جهة، والجزائري/الفرنسي من جهة ثانية، بما بدا أنه استطراد انزاح إليه بسبب ذلك الفيديو الذي تم تداوله على نطاق واسع ضمن الشبكات الاجتماعية، و نقلته مواقع الصحف الجزائرية، وأحدث هزة عنيفة جعلت أقلاما معروفة وقامات محترمة تدلي بدلوها دفاعا عن رمزية الشهداء وعن القيمة المعنوية الأخلاقية والسياسية التي مثلتها الثورة الجزائرية في الوجدانين الجزائري والعربي وفي وجدان العالم المعاصر و العصر.
و لأن الشبكات الاجتماعية ليست لها حدود ثابتة، فهي مازالت أشبه بالمنظومة الإعلامية الشعبية العالمية التي ليس من السهل أن تحدد لها الأعراف أو أن تقعّد لنظمها القواعد والأسس ذلك أنها نظم لم تكتمل نشأتها ولم تتضح طبيعتها بعد، ولعل ذلك أحد الأسباب التي تجعل المادة الإعلامية في مجالها لا تعالج ولا تصبح رسمية، وإنما هي تنتشر انتشار النار في الهشيم، ولا تخضع محتوياتها إذن لقيم المعرفة التقليدية التي تعلم في مدارس الإعلام، كما لا يخضع كتبتها إلا لمعاييرهم وضوابطهم الشخصية، وهذا ما يزيد من خطورة تأثيرها في الاتجاهين الإيجابي والسلبي.
في الجزائر لا نفهم أن يتحدث أحد عن الشهداء الحديث الذي يوحي بأنهم غير أحياء بيننا، بل إن المخيلة الجزائرية لا تتقاسم تصوراتها عن الحياة إلا مع من بنيت مخيلته على رمزية الشهيد والشهادة والتضحية، ولعل هذا الواقع هو ما يفسر ولو بطريقة جزئية نفسية الجزائريين الذين يندمجون شعوريا ولا شعوريا مع فلسطين و الفلسطينيين بطريقة لا تشبه ما ينسحب على غيرهم من الشعوب في العالم العربي وخارجه.
لهذا الاعتبار لا يتقبل الجزائريون في عمومهم الحديث عن الجزائر إلا بربط بنية هذا الحديث ربطا عضويا مع هذا المحدد الجوهري. وقد يكون رد الفعل أقوى و درجته أشد كلما كان الخطاب من قريب أو جار أو من أحد أهل المروءة الذي يؤمل منه ما هو أكثر من مجرد الإنصاف والحيدة والتجرد، فكيف إذا صدر الكلام ممن يرجى منهم الصلاح للأمة بأسرها من أهل الفكر والدين ومن أهل العلم و رموز الثقافة.
منذ وقت قريب تحدث الشاعر والمفكر العربي أدونيس عن الجزائريين فوصفهم بأنهم الوحيدون الذين كان لهم نضال حقيقي، واعتبر هذا الرأي من عامة الجزائريين منصفا لتضحيات الشهداء، و المجاهدين، والمدنيين الذين تحملوا القدر الأكبر من المعاناة في وجه القوة المستعمرة وضغط وانتقام أجهزتها الإدارية والعسكرية. أظن أن أدونيس استحضر في كلامه عن الواقع العربي الراهن التجربة الثورية الجزائرية، وحكم على مجملها بأنها كانت تجربة شعبية متجذرة مصدرها المجتمع لا إحدى نخبه وحسب، وليس العامل الخارجي فيها إلا هامشا بسيطا على عكس ما يراه اليوم في سورية وفي ليبيا أو غيرهما. ولأن فهم ودراسة التجربة الثورية يقودنا إلى منهجيات سوسيولوجية، وسيكولوجية في المقام الأول فكان من المفيد أن نعي الجوانب الموضوعية للتجربة البشرية باعتبارها تجربة تكبر وتصغر، وتزيد وتنقص وأن شدتها وإشعاعها يقوى ويضعف، وفي ذلك ما يزيد من صعوبة قياسها نتائجها واستقرار دلالات ذلك بالمعايير والمقاييس التي تستخدمها مناهج العلوم الاجتماعية الكمية والنوعية.
وعندما يتحدث مثقف متدين مثل الدكتور سلطان القاسمي إلى رجال الإعلام في معرض للكتاب بعاصمة غربية كبيرة، ويتجه جزء من حديثه نحو الجزائر يكون علينا أن ننظر إلى الموضوع من جميع جوانبه لنفهم كيف نشأ هذا السياق الذي وقع فيه هذا الجزء من الحديث. الفيديو الذي بدا كما شاهدت مقاطعه من موقع جريدة الخبر الجزائرية بدا مركبا، والمتحدث تناول التجربة الاجتماعية عند المسلمين جميعا و عرض ما اعتقد أنه جوانبها السلوكية والأخلاقية الرئيسة المسؤولة عما تعيشه المجتمعات العربية المعاصرة اليوم من مشكلات تحتاج في ما فهمت من رأيه إلى مراجعات تعيد بناء منظومة التنشئة الاجتماعية والتربية في كل بلاد الإسلام.
الواضح من طبيعة اللقاء أن المتحدث لم يكن متوجها بذهنه نحو موضوع التجربة الثورية الجزائرية باعتبارها جزءا مؤثرا في مصير العالم الإسلامي، ومع ذلك أدرج هذه الإشارة العرضية العابرة إلى العلاقة بين الجنرال ديغول ووزير ثقافته المثقف، وعلى هذا النحو غابت عن سياق كلامه التجربة الثورية الجزائرية التي كانت جزءا من تجربة تاريخية وحضارية طويلة هي تجربة إيالة الجزائر. وحتى لو تناول المتحدث الثورة في الجزائر من 1954 إلى 1962 أو بعض جوانبها لما ساعد ذلك في تقديري على فهم الصورة الكبرى التي من شأنها أن تكشف عن أوضاع الصراع العسكري والسياسي في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط طيلة القرون التي عاصرت وتلت سقوط الأندلس وهي حقبة زمنية طويلة واجهت فيها الجزائر “العثمانية” الغرب منفردة تقريبا، ودفعت بوضوح من الجانب العملي الثمن الباهض لسقوط الأندلس. وليست حرب التحرير الجزائرية بين الحلف الأطلسي والقوات الفرنسية، وبين جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير سوى الحلقة الأخيرة في هذا الصراع المستمر الذي اعتبرت الجزائر تدخل الناتو في ليبيا بعد ذلك جزءا منه.
الذي يتمناه الجزائريون من الدكتور سلطان ومن الشخصيات العامة العالمة أو المفكرة في قضايا الإسلام والشرق والتاريخ والحضارة هو عدم الاكتفاء بالتلميح أو بفتح القوس، لأن الحديث عن إنسانية القادة الغربيين أو أحدهم في هذا الوقت بالذات الذي تصلنا فيه إشارات عن عودة الخطاب الاستعماري، والأطماع التي تحرك أصحابه في ثروات ومقدرات الشعوب التي عقدت آمالها على التحالف والتعاون مع شعوب الغرب ودوله. هذا الحديث لن يكون كافيا إلا عندما نستحضر إلى جانب صورة ديغول صور الكثير من هؤلاء القادة الذين لم نشهد من أكثرهم سوى صورة الغازي الماكر الذي لا يرحم.
هل نستطيع في الجزائر أن ننسى ولو أردنا صورة “شارلكان” الذي غزا الجزائر بقصد احتلالها، أو أن التاريخ سينسى هزيمته على أسوار الجزائر، تلك الهزيمة المادية والمعنوية التي ترددت أصداؤها في كل أنحاء أوروبا، بعد أن خرج إليه أبطالها وهزموا جيشه، وبعد أن حطمت طبيعتها أسطوله وكأنها أبت إلا أن تتفاعل مع الحدث بقوة وعنف. لا يعنينا أن ننفي الإنسانية عن شخص ديغول ولكن: هل ستمحو إنسانيته هذه سلوك من سبقوه من حكام فرنسا الذين عاهدوا الأمير عبد القادر الجزائري، لكنهم غدروا به وسجنوه مع أنهم يعرفون قيمته العلمية والأخلاقية بدليل أنهم منحوه بسببها عضوية الأكاديمية الفرنسية. ألم يكن الأمير عبد القادر أرقى شعورا وأعمق سلوكا من خصومه حين دافع عن مسيحيي الشرق بعد تلك الخيانة. ثم بالحديث عن السياق وشرطه المعرفي هل علينا أن نبحث عن مصادر الإلهام خارج تاريخنا وتاريخ حضارتنا؟
لا شك أن القاسم المشترك بيننا كشرقيين وبين الغربيين هو ما يقدمه كل منا أو يقصر عنه في مجال الأخلاق الذي يبقى كونيا، يعطي الإنسانية معناها. و ليس علينا أن نغفل عن كون القادة الغربيين الذين ينتمي إليهم الجنرال ديغول هم من قدم أكبر هديتين للعالم وللبشرية خلال قرن واحد ممثلتين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حربان أحصتا ضحايا بالملايين من زهرة شباب أوروبا، ولكن أيضا من الشباب الجزائري والإفريقي الذي ساهم في تحرير أوروبا من النازية، وساعد على بناء شهرة ديغول وأمثاله بدماء بريئة. وهل علينا أن نغفل عن كونهم مسؤولين أخلاقيا عن الانتشار والسباق النووي بشهادة النزهاء من علمائهم ومفكريهم؟
لكن الذي يفيدنا نحن الجزائريين والعرب هو الاحتكام في سلوكنا المعرفي إلى هذه الممارسة الواعية للنقد والنقد الذاتي بطرق ومنهجيات موضوعية، ووضع الانفعال جانبا، وقد أعجبت في حديث الشيخ سلطان بترفعه عن الذهنيات الطائفية، وبدعوته إلى العقلانية التي يعد افتقارنا إليها في السلوك واحدا من الإشكالات الكبيرة التي تعيق تنمية بلداننا وتحول بيننا وبين التعرف الصحيح على شخصيتنا الثقافية وعلى مقومات حضارتنا الصحيحة وهي العلم والعمل وإرادة الوجود والرغبة في الحياة التي لا يجسد مظهرها أكثر من الإبداع والابتكار.
لذلك بحثت في ذلك الحديث عن جديد رؤية الشيخ سلطان فيما يخص الميزة التي تميز شعب الإمارات الذي لا تعيبه قلة العدد أو المشكلة الكمية في مجتمع تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير العرب وغير المسلمين بصورة تجعل من الحديث عن استشراف مستقبل الأخلاق الإسلامية موضوعا محفوفا بالصعوبات من جانبه المنهجي العلمي، كما بحثت عن تفسير لهذا النزوع العارم وغير المسبوق لدى سكان دول الخليج العربي إلى الانفتاح غير المحدود على العالم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وهو نزوع يناقض وضع المجتمعات العربية الأخرى الكثيرة العدد كما نرى في مصر والجزائر والمغرب حيث هاجس الهوية الوطنية والخوف عليها من التأثير الأجنبي يسيطران بشكل قوي على السلوك الثقافي والسياسي للنخبة السائدة. في هذا السياق لا ينبغي أن نغفل النزعة الحمائية في ما يخص تنظيم كل ما يخص تطور التركيبة السكانية لدى سكان الخليج مثل ضبط شروط الإقامة وسياسة تجنيس العرب أو انتقاء العمالة الأجنبية، وأن هذه النزعة أقل حدة في البلدان العربية الأخرى ذات الحجم السكاني الكبير التي أشرنا إلى بعضها.
إن السؤال الذي لا يجرؤ على تناوله البعض هو سؤال القدرة والمشروعية الاجتماعية والأخلاقية لمعالجة قضايا ومسائل مجتمعاتنا العربية، ففي الجزائر ظل كثير من الناس يشكون من لا مبالاة العرب في البلدان الأخرى خصوصا في المشرق بكل ما يتعلق بالشعب الجزائري وبالدولة الجزائرية، وقد عبر العديد من السياسيين عن عتاب صريح للأشقاء العرب حول تناسيهم مآسي الشعب الجزائري أثناء العقد التاسع من القرن الماضي، وضعف تضامنهم معه في الحد الأدنى، لكن ما يقابل ذلك هو الحساسية المفرطة عندنا من كل قول أو سلوك يفسر بصورة آلية على أنه تدخل سافر في ما نعتبر أن شؤوننا التي لا تعنيهم.
في هذه الملاحظات على كلام الشيخ سلطان الذي أعرف أن كثيرا من الجزائريين يحتفظون له بصورة قوامها الاحترام والتقدير لتدينه المعلن، ولما أنجزه في الإمارة التي يحكمها من أمور طيبة، لكن الغضب الجزائري الشعبي خصوصا لدى الشبان هو غضب مبرر للمكانة الخاصة التي يحظى بها الشهداء، وقد لا يقدر حجمها إلا من عاش تجربة ثورية مشابهة لما عرفه الشعب الجزائري، وأنا هنا أتحدث عن تجربة شعبية حقيقية عميقة ومتجذرة استهلك التحضير لها عقودا من المعاناة والاحتكاك الحضاري بالأجنبي والصراع مع دينه وثقافته وعسكره وطغيان إدارته.
وقد وقفت على مطالبات هذا الشباب بالاعتذار، وتجاوزت المطالبات الشباب إلى الشخصيات الوطنية والكتاب و الشعراء. لكن الاعتذار الدبلوماسي أو الإعلامي أو الشخصي يبقى محدودا في المكان والزمان والتأثير، وفي رأيي أن ما هو أهم من الاعتذار هو بذل الوسع في الفهم المتبادل بين الشعوب وبين النخب وبين الحكومات والدول، و من أهم الدروس ذات الطبيعة المتناقضة في هذا المجال الانتباه إلى أن التبادل بين دولة الإمارات وبعض دول الخليج الأخرى وبين الجزائر هو أهم كما ونوعا من التبادل بين الجزائر والمغرب البلد الأقرب إلينا والذي لا يكاد يملك حدودا برية مع غيرنا، ومن أقرب الدلائل على قوة هذه العلاقة التي تتحدى الأبعاد الجغرافية الرقم الدال على عدد المشاركين الجزائريين من الشباب في مسابقة تحدي القراءة التي تنظمها إمارة دبي، وفوز الطفل الجزائري في الطبعة السالفة منها .
وعودا على بدء أقول: في مجتمعنا الجزائري نقول ما لا يقوله عنا غيرنا، وفينا نزعات ونوازع لا ترضي مجتمعنا، وفينا من يقول عن ديغول ما لم يقله غيرنا، وفينا من يذهب إلى العدو الصهيوني، ولكنهم قلة، والقلة شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، إن معاينة بسيطة لواقع وشروط التعامل مع الثقافة التاريخية عندنا تكشف أننا نقصر أفرادا ومؤسسات في تقديم صورتنا بطريقة موضوعية وجادة إلى الآخرين ومنهم أقرب الناس إلينا وأصدقاؤنا والعقلاء من صفوة الشعوب الأخرى، وإن التوضيح الذي لم يتأخر عنه الشيخ سلطان للجزائريين والاعتذار الذي رافقه يبين نبل مودته بوضوح، ولكن الذي علينا جميعا في العالم العربي الكبير هو أن نلتفت إلى بعضنا البعض بقدر أكبر، وأن نمد الأيدي بحبال الود بيننا بقوة، ففي الأخير حتى لو فكرنا بطريقة متناقضة، ومهما غضبنا أو رضينا واسترضينا سيبقى مصيرنا مرتبطا بصدق مشاعرنا وقوة أخلاقنا، وبمتانة تضامننا وبعمق التزامنا بهويتنا الحضارية على مستوى الأفراد والطاقات، وعلى مستوى الدول.
د. محمد الطيب قويدري
المصدر: رأي اليوم ، 2017/03/24