الجزائررأي

عيد النصر المؤزر في الجزائر… بأي حال عدت يا عيد؟

 

إن الاحتفاء بعيد النصر، هو بالنسبة إلينا جميعا لحظة تمعن وطني للقيام بواجب تفعيل الذاكرة بالدرجة الأولى، وهو لحظة تمعن وطني لتقييم مسار بالدرجة الثانية؛ وهو لحظة تمعن وطني للمحافظة على الرابط الجامع بين ماضينا وحاضرنا لضمان بناء متين لمستقبلنا بالدرجة الثالثة. وإن واجب تفعيل الذاكرة، في مثل هذه الحالات، هو واجب وطني جماعي تجاه شهدائنا الأبرار ورفقائهم من المجاهدين البواسل والأوفياء.

لقد كان شهداؤنا هم عمالقة جيل نوفمبر العظيم. هذا الجيل الذي ستحتفظ له الجزائريات والجزائريون، عبر الأجيال المتعاقبة وإلى أبد الدهر، وبصورة نقية وشريفة  وطاهرة عن تضحياته وبطولاته، وسيتذكرون المعنى الراقي الذي أعطاه  لحب الوطن و فداه.

لقد جعل شهداؤنا الأبرار ومجاهدونا البواسل من المستحيل ممكنا، ومن أسطورة الاحتلال الذي لا يقهر خرافة، ومن سراب الجزائر الفرنسية حقيقة الجزائر الجزائرية.. الجزائر الأمازيغية، والجزائر المسلمة، والجزائر العربية أمام الله وأمام العباد.

إننا نحتفل بعيد النصر في مدينة جيجل التي تعرف كل الجزائريات وكل الجزائريين، الثمن الغالي الذي دفعته هذه المنطقة من دون تردد في سبيل انتصار قضية التحرير الوطني.

من يستطيع أن ينسى بأن جيجل، وأولاد عسكر بالتحديد، كانت مقر الولاية التاريخية الثانية التي توالى على قيادتها رجال من طينة العظماء، ومسؤولون من رعيل الأبطال، وقادة من عجينة الصناديد؟. فأولئك العظماء، كانوا من أخير ما أنجبت أرضنا. ومجرد ذكر أسمائهم يملأ دائما نفوس الجزائريات والجزائريين عزة وفخرا اليوم وغدا. وهم يحملون أسماء ناصعة ومزهوة: ديدوش مراد، زيغود يوسف، عبد الله بن طوبال، علي كافي وصالح بوبنيدر…

من يستطيع نسيان المعارك الكبرى بواد الرّحى، وغدير الكبش، ودار صدام، وستارة. وهي المعارك التي تنافست فيها النساء والرجال لمنح أقصى ما يمكن منحه للوطن، وللتضحية بأغلى ما يملكونه من أجل عزته. وبذلك استحقوا كل آيات التمجيد والتجلة من طرف الأمة التي أحبوها وهم أحياء، وصانوا عهدها في أعماق قلوبهم وهم يغادرون هذه الدنيا شهداء عند ربهم يرزقون وعند شعبهم يمجدون.

من يستطيع نسيان أن سن العشرين في جيجل، كان سن الشهادة؟، ففي سن الأزهار الشباني استشهد كثير من أبناء هذه المنطقة، وكان في طليعتهم خليفة ولمان ويوسف بوشاقور ومولود زيكارة، وغيرهم من الشباب…

ومن يجرؤ على نسيان أن جيجل قدمت للثورة التحريرية المباركة أفضل وأكبر القادة العسكريين المعترف بقدرتهم وحنكتهم من طرف رفاقهم المجاهدين، وكذا من طرف العدو الغاشم نفسه؟. ومنهم القائد الصدّيق بوريداح المسمى “بشير لكحل” وعمار قرفي المسمى “موسطاش”؟.

ومن يقوى على نسيان ان أكبر مقبرة للشهداء في الجزائر توجد بالميلية، وهي من المناطق المحرمة، وأن جيجل وضواحيها بأكملها كانت في طليعة المقاومة مع الرائد حسين رويبح وعبد النور خلاف ومختار دخلي ورشيد بونار ويوسف فارح وبلقاسم بوشافة ومحي الدين بوجمعة وأحمد بوشريط وعبد القادر بوشريط،  وغيرهم من الشهداء الذين سقطوا لتقف الجزائر، وماتوا ليحيا الوطن؟.

من يستطيع التنكر بأن حب الوطن والتضحية من أجله، في جيجل، لم تكن قضية رجال فقط، أو حكرا عليهم أو أمرا حصريا ساريا بين أوساطهم؟. ففي جيجل تقاسمت جزائريات حب الوطن والتضحية من أجله مع إخوانهن الرجال. لقد رُفع لواء الجهاد عاليا من طرف جميلة بوحيرد، خضراء بلامي، عائشة قنيفي وجميلة بن مهيدي وغيرهن من الشهيدات والجميلات اللاّئي صممن على نيل المساواة مع الشهداء والمجاهدين من أجل أن تستعيد الجزائر الأبدية حريتها وعزتها ورفعتها.

من يستطيع تجاهل محمد الصديق بن يحي، وهو رجل الدولة الراقي الذي وضع دوما خدمة وطنه فوق كل الاعتبارات الأخرى. وهو المثقف الملتزم بكل قضايا شعبه، وصاحب المبادئ الصلبة والقناعات القوية الذي عاش من أجل تحرير بلده، ومات في مخاطرة وهو يبحث عن السلم في العالم؟.

كيف نحتفل في مدينة جيجل بعيد النصر من دون أن نسدي تحايا الاعتراف والامتنان للطاهير التي أنجبت للجزائر قامة من قاماتها، وهو المرحوم فرحات عباس الذي جسد الصفاء الأخلاقي ومثل الاستقامة السياسية. و كان مساره درسا في هبة الذات. و مثلنا جميعا، كان فرحات عباس يدرك بأنه لا يملك سوى حياة واحدة أختار أن يوهبها كاملة للجزائر حبا ووفاءً وفداءً. ومع أن القدر لم يكن رحيما وعطوفا مع فرحات عباس حتى بعد الاستقلال، ومع ذلك فلم تثنه أية ضائقة أو مضايقة أو مظلمة عن إكمال أشواط المسار الشاق الذي اختاره لنفسه. وكم كان فرحات عباس صبورا، فقد دفع من حريته ثمن حريات الآخرين،؛ وتسامح في حقوقه أمام حقوق الآخرين، وقبل التعرض للظلم والتهميش من أجل أن يرفع الغبن والظلم عن أبناء وطنه.

كان حلم فرحات عباس وأمثال فرحات عباس كبيرا. فقد حلم بجزائر تسود فيها الديمقراطية بالديمقراطية وبدولة الحق والقانون وبالحريات وبالحقوق. كما حلم بالمواطنة المتساوية بين كل الجزائريات وكل الجزائريين. وإن جذوة هذا الحلم لم تنطفئ بانطفائه، وهي ماتزال متقدة… وكم هو جميل هذا الحلم، لأنه هو حلم يصلح لجزائر اليوم ويناسبها.

قبل خمس وخمسين سنة، استعادت الجزائر سيادتها واستقلالها، وانتزعت الجزائريات والجزائريون حقوقهم وحرياتهم، وأصبح الشعب الجزائري سيدا على أرض أجداده من جديد. ولكن بعد خمس وخمسين سنة، فإن العقلية الاستعمارية ماتزال حاضرة في بعض الأوساط التي يراودها الفكر الاستعماري، ويساورها التعنت الجبروتي. فالنظام الاستعماري، ونظرا لبلادته، لا يزال يرفض الاعتراف بهزيمته، وينكر الاعتراف بأن التاريخ حكم عليه وأدانه إدانة قطعية لا تقبل الطعون.

لم يطلب الشهيد ديدوش مراد مقابلا لاستشهاده؛ ولم تكن له سوى أمنية واحدة مؤداها: (إذا استشهدنا، فدافعوا عن ذكرانا). فكم كان طلب هذا القائد الكبير بسيطا، وكم هي متواضعة رغبته، وإلى أي حدّ هي خجولة أمنيته؟؟.  وإن طلب ديدوش مراد بالنسبة إلينا هو أمر يقبل ولا يرد، ويسمع وينفذ. وستبقى رغبة الشهيد ديدوش مراد دين شرف علينا. وإن أمنية هي يمين مقطوعة على أنفسنا جميعا. نم هنيئا يا شهيدنا ديدوش مراد، فسنظل ندافع عن ذاكرتك كما ندافع عن ذاكرات كل أبطال هذه الأمة العظيمة.

لم يحمل الاستعمار المفترس والشرس كما يزعم أي خير إلينا، وإنما جاءنا  بالوجه الكئيب وبالشر المطلق. ولم يكن شمعة تطلق ضياءً، وإنما كان ظلاما حالكا ومفزعا. ولم نبصر في زمنه الحزين الرقي والتمدن بعد أن فرض علينا التقهقر والنكوص. ولم يؤد أية مهمة حضارية نستفيد منها وهو المثقل بمشاريع الهمجية والاحتقار والتدمير والإذلال شكلا ومضمونا. لقد أخذ وجه الاستعمار المتورم، في الجزائر، كل أشكال جرائم العدوان والإبادة المضادة للإنسانية.

سنحنث باليمين المغلظة التي قطعناها للشهيد القائد ديدوش مراد ولشهداء الأمة إذا سمحنا أن يقال أو يكتب، يوما، بأن شعبنا صعد مدارج الرقي الذي يزعم الاستعمار الفظ عبثا أن رجالا صالحين قد منوا به علينا في وقت حارب فيه أبطالنا احتلالا، وتصدوا لقمع، وثاورا ضد العبودية.

سنحنث باليمين المغلظة التي قطعناها للشهيد القائد ديدوش مراد ولشهداء الأمة إذا سمحنا أن يقال أو يكتب، يوما، بأن أبطالنا لم يحاربوا تطلعا خسيسا لتفوق عرقي موهومهوت أراد النزول بالشعب الجزائري كاملا إلى دركات سفلى هوت به إلى رتب حقيرة من خلال قانون الأهالي الكريه والشنيع والسيء الذكر.

سنحنث باليمين المغلظة التي قطعناها للشهيد القائد ديدوش مراد ولشهداء الأمة إذا سمحنا أن يقال أو يكتب، يوما، بأن الاحتلال كان مورد ثراء لوطننا، ولم يكن اغتصابا له ونهبا لخيراته.

سنحنث باليمين المغلظة التي قطعناها للشهيد القائد ديدوش مراد ولشهداء الأمة إذا سمحنا أن يقال أو يكتب، يوما، بأن الاحتلال كان عهد نور، بينما لم يكن، بالنسبة لشعبنا، سوى حقبة ديجور وفقر مدقع وتخلف ضار.

لا يوجد في الاستعمار نتف إيجابية، ولو قليلة، يمكن تمجيدها أو الإشادة بها. إذ لا يصادف في ثوب الاستعمار الذي يرتديه قناعا إلا العيوب التي يصعب جبرها، والإساءات التي لا يجوز تأخير تقديم الاعتذار عنها. و ليس في مخلفات الاستعمار الذي يشبه داء الجُدرى سوى الطفوح والجروح العميقة والقيح العفن والآلام المبرّحة التي لا تحتمل. وهي المكاره التي سلطت على شعبنا ظلما على مدار زمني تجاوز قرنا وربع قرن من السنوات.

لقد فهمت دول استعمارية أخرى هذه الضرورة الحتمية، وسلمت بهذا المقتضى بعد أن اسيقظت ضمائرها وأحست بالجرم المرتكب وبالذنب المقترف. وفي لحظة وعي باشرت عملية مراجعة الذات واعترفت بتجاوزاتها الشنيعة ومظالمها التي اشتد قبحها. ففي سنة 1947م قدمت هولندا اعتذاراتها لأندونسيا، وفي سنة 2004م، قدمت ألمانيا اعتذاراتها لناميبيا، وفي سنة 2008م، قدمت إيطاليا اعتذاراتها لليبيا، وفي سنة 2008م، أيضا، قدمت أستراليا اعتذاراتها للسكان الأصليين بهذا الإقليم، وفي سنة 2013م، قدمت بريطانيا اعتذاراتها لكينيا. وبعد هذا السيل من الاعترافات، لمَ تخالف المنظومة الاستعمارية الفرنسية هذا التوجه العالمي العارم؟. ولمَ تتهرب المنظومة الاستعمارية الفرنسية من الاعتراف وهو فضيلة نبيلة، وتحاول جهدها أن تبرئ نفسها من سيئاتها وإثمها وجرائمها؟. ولمَ لا تبالي بمشاعر ضحاياها وبإحساس كل من نزلت عليهم نكبة ونقمة؟. ولمَ يبقى النظام الاستعماري الفرنسي الوحيد الذي يواصل الازدهاء والافتخار بمحاولة التدمير الشامل لشعب أبي وأمة مجيدة؟.

إن واجب صون الذاكرة تجاه شهدائنا الأبرار ومجاهدينا الميامين يسكن أنفسنا ولن يغادرها. ولن نتقاعس في القيام بهذا الواجب، ولن نقصر أو نتهاون في أدائه، ولن نتوقف عن فعله. وسنناضل في استمرار، بدورنا، للحصول على الاعتراف بنزاهة القضية التي جعل منها شهداؤنا ومجاهدونا قضية حرية وحياة أو قضية استشهاد حتى اقتلاع جذور العبودية. وسنناضل، بدورنا، لمنع المنظومة الاستعمارية من الانتقام بأثر رجعي خبيث بعد هزيمتها. وسنناضل، بدورنا، للحصول على الاعتراف بأضرار المعاناة المؤلمة التي تعرضت لها أمتنا، وكل الجرائم الاستعمارية الصلفة التي راح شعبنا ضحية بريئة لها.

إن الاحتفال بعيد النصر هي فرصة سانحة لوقفة وطنية مجدية ومفيدة؛ لأنها تمكننا من توجيه أنظارنا جميعا نحو ماضينا القريب لأخذ العبرة والتحصن بالمثل السامية. ولأنها تمكننا من قياس خطوات المسار المقطوع، وما يبقى علينا قطعه سيرا. ولأنها تمكننا من استنباط الدروس التي نواجه بها تحديات المستقبل، وتحديد الأخطاء لتصحيحها، ومعرفة مصدر الإخفاقات حتى لا نكرر الانزلاق فيها.

لا ينبغي أن تكون هذه الوقفة الوطنية وقفة عادية وعابرة. وإنما وجب علينا أن أن نطرح في ساعات إحيائها الأسئلة المهمة والهادفة. فهل نحن، يا ترى، فعلا بصدد بناء الجزائر التي حلم بها شهداؤنا ومجاهدونا وحلمنا بها نحن من بعدهم؟. وهل الدولة الوطنية التي استعدناها بثمن غال تتقوى ويتصلب عودها باستمرار؟،  أم هي على عكس  ذلك، تنحدر نحو الضعف وتزداد وهنا وانتكاسة؟. هل تحتل الجزائر، بكل فخر واعتزاز، المكانة التي تستحقها بين أمم المعمورة؟، أم هي، على خلاف ذلك، في موضع السخرية من طرف بعضهم وفي موقع تشفٍ بالنسبة لبعضهم الآخر؟. وهل الأمة الجزائرية، التي خرجت من ليل الاستعمار الطويل أكثر تلاحما وأكثر توحدا، ماتزال محافظة على قوة تلاحمها وتماسكها؟. أم، أصبحت أمة يمزقها غياب مشروع وطني طموح، مدمج وجامع؟. هل الأمة الجزائرية العائدة بعد الكسوف الاستعماري اللعين، هي ذلك المجتمع الحي والمثابر والمواظب والناهض؟، أم، أمست مجتمعا تائها وفاقدا للحيوية ومضيعا للمعالم التي تنير سبيله؟. وهل لا يزال شعبنا التوّاق الذي كبد النظام الاستعماري أكبر هزيمة سيدا وصانع مصيره بنفسه؟، أم، أن حق التعبير عن إرادته وعن خياراته وعن حكمه قد صودر وسلب منه؟. وكل هذه الأسئلة تصب في سؤال واحد جامع هو: ماذا فعلوا بنصرك المؤزر يا جزائر؟.

ماذا فعلوا بنصرك المؤزر يا جزائر؟. هل الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية هي في طور البناء؟. للأسف، لا. إن الحلم الذي سقط من أجله خيرة أبناء هذا البلد والطموح الذي وضعه جيل نوفمبر في عليين يطول انتظار تحقيقه. فليست الجزائر بعد دولة ديمقراطية، وما هي بدولة حق وقانون ولا يسود مجتمع الحقوق والحريات في راهنها.

ماذا فعلوا بنصرك المؤزر يا جزائر؟. هل أعيد نعيم المواطنة التامة والكاملة والمتساوية لكل الجزائريات والجزائريين؟. للأسف، لا. ففي جزائر الاستقلال، ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين، هناك مواطنة نسبية ومواطنة مطلقة، مواطنة عليا و مواطنة دنيا، و مواطنة محدودة إلى جانب مواطنة متحررة من القيود.

ماذا فعلوا بنصرك يا جزائر؟. هل استعادت الجزائريات والجزائريون كامل حقوقهم وكامل حرياتهم؟. للأسف، لا. فالتمتع بالحريات يُقمع ويُنغص ويُفرغ كل يوم من محتواه ومن معناه. وممارسة الحقوق الشرعية تُكبت وتوضع تحت عين الحراسة المشددة.

ماذا فعلوا بنصرك يا جزائر؟. هل الدولة الوطنية هي دولة ثابتة وقوية ومحترمة بين دول العالم؟. للأسف، لا. فالدولة الوطنية اليوم تعاني من الضعف والخوار والهشاشة والرخاوة، ومهددة من طرف نظام سياسي وضع نفسه بنفسه في أزمة عميقة وغير مسبوقة، و جر معه الدولة الوطنية نحو طريق مسدود، ورمى بها في آفاق المجاهيل المبهمة.

ماذا فعلوا بنصرك يا جزائر؟. هل ربطت علاقة مبنية على الشرعية والتمثيل والثقة بين الحكام والمحكومين؟. للأسف، لا. فالجزائريات والجزائريون لا يختارون حكامهم. وإنما الحكام هم من يفرضون أنفسهم بأنفسهم. وحرمت الجزائريات والجزائريون من مراقبة حكامهم الذين يعتقدون أن لا أحد يمتلك الحق في محاسبتهم أو حتى مساءلتهم. والجزائريات والجزائريون لا يستطيعون تقييم حكامتهم لأنها نصبت نفسها بنفسها فوق الدستور وأعلى من قوانين الجمهورية.

ماذا فعلوا بنصرك يا جزائر؟. هل شُيد الاقتصاد الوطني النشط، المنتج والمتطور؟. للأسف، لا. بل ساد في الجزائر اقتصاد ريعي ظرفي، أي اقتصاد خامل ومشوّش. إنه اقتصاد وضع البلد كله في حالة تبعية شبه كاملة للخارج لسد احتياجاته، ولم ينتج سوى الزبنيات التي ضمن ثراءها أكثر من اهتمامه بخلق الثروة ودخول مجال المنافسة مع اقتصاديات العالم بحزم وثبات و ثقة.

ماذا فعلوا بنصرك يا جزائر؟. هل المجتمع الجزائري مجتمع متوازن، متجانس ومتآزر ومتضامن ومتآخ؟. للأسف، لا. فالمجتمع الجزائري اليوم مجتمع مشتت ومقسم؛ وفاقد للثقة في نفسه؛ ومتحلل من قيمه المرجعية ومعالمه الأخلاقية. وإن الأمراض التي نخرت نسيجه معروفة ومعاينة ومرئية بالعين المجردة، ولا تقابل إلا بالحسرة والاستياء. ولهذه الأمراض الخطيرة أسماء: سيطرة المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وانتشار الأنانيات، والانكفاء على الذات، وتقديم المصائر الفردية التي تسبق على مصير المجموعة الوطنية، وطغيان الجهوية، واستفحال العصبية، واستشراء التهميش، وتعاظم الإقصاء، والسباق نحو الربح السهل، وضياع قيمة العمل، وتقلص الجهد التنافسي، واستحكام الفساد بكل أشكاله وأنواعه.

لا أحد يعتقد أن وضعا كالوضع الموصوف يريح العقول ويثلج الصدور. ولقد توفرت للجزائر كل الفرص الذهبية من الوقت والإمكانيات، ولكنها ضاعت من بين أيديها. وانطلقت بداية الضياع من افتقاد ما هو أهم وأولى والمتمثل في المشروع الوطني والحكامة السياسية القادرة على حمله وحمايته.

يئن البلد تحت وطأ انسداد سياسي عاتم رهانه اليوم بقاء الدولة الوطنية على حالها وديمومتها. وإن الوضعية الاقتصادية تتدهور يوما بعد يوم من دون أن تلوح أي رؤى مبهجة، أو تسطع شمس إستراتيجية منقذة، أو ينكشف مخطط لمواجهتها. واستتب أمرها الخانق وكأنها حلت لتدوم. وزادت التوترات الاجتماعية الحادة ذات الحجم غير المسبوق الوضع إشكالا وتعقيدا. ولم تنقطع عن تهديد البلد من كل جانب، ولا تبصر تباشير مستقبلية تفاؤلية أو مطمئنة. وتفرض مثل هذه الوضعية الخطيرة على من يواجهونها واجبا يفوق كل الواجبات، وهو واجب التبصر والحكمة والشجاعة.

يكمن واجب التبصر في الاعتراف بخطورة الوضعية الحالية بسبب تلاقي الأزمات الثلاث في وقت واحد وفي مفترق طرق مشترك، وهي الأزمة السياسية والأزمة الاقتصادية والأزمة الاجتماعية، مع الملاحظة أن الجمود والركود لا يمكن أن يكونا خيارا مطلقا لانتشال البلد من غرقه.

ويقتضي واجب الحكمة الإقرار بأن الوضعية الحالية أصبحت غير محتملة. وان كل يوم يمر إلا وتزداد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اشتدادا واحتدادا وتعفنا.

ويقر واجب الشجاعة، أخيرا، الإقدام على مواجهة الحقيقة والشعور بأن وقت المشروع الوطني المدمج و المعبئ والجامع والمحفز قد حان، ولا يمكن أن يخلف أو يؤجل موعده.

لا يمكن أن يكون المشروع الوطني سوى مشروع تغييري وناهض وواعد. والتغيير الحقيقي المنتظر والمأمول ترسم لوحته الخلابة بالعصرنة السياسية والتجديد الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي.

علي بن فليس

المصدر: رأي اليوم ، 23-03-2017

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت

(*) ـ رئيس حكومة أسبق، رئيس حزب “طلائع الحريات” ـ الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق