الجزائررأي

العلاقات الجزائرية – الإسرائيلية… بين الحقيقة و التضليل

 

رغم حساسية الموضوع وتجنبي مرارا الخوض فيه لعدم إثارة حساسية الإخوة في الجزائر، إلا أن تداول موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني وتركيز الإعلام الجزائري في المدة الأخيرة على علاقة المغرب بـ”إسرائيل” وسعيهما للنيل من استقرار البلد الجار، يستشف منه محاولة نظام العسكر في البلد الشقيق تعليق أزماته البنيوية على الشماعة المغربية من باب التصعيد في خطاب استعداء الخارج لشد عصب الداخل أملا في تعطيل الانفجار وتمرير مرحلة الموت السريري للرئيس بوتفليقة بسلام.

هذا علما، وللأمانة والموضوعية، أن الجار المغربي لم يسبق له أن تدخل في الشأن الجزائري، لا من خلال دعم الإسلاميين خلال العشرية السوداء، ولا من خلال دعم الإرهابيين حين كانت الجزائر تجند المرتزقة من إفريقيا للدفاع عن نظام القذافي خوفا من سقوطه الذي كانت تعتبره مقدمة لسقوط النظام في الجزائر وفق المخطط الفرنسي، برغم مصلحة المغرب في ذلك بسبب ما عاناه خلال العقود الأربعة الأخيرة من مؤامرات جزائرية للمس بوحدته الترابية التي هي قضية حياة أو موت بالنسبة للشعب المغربي قبل أن تكون قضية نظام، ومع ذلك يصر النظام في الجزائر على القول بوقاحة، أنه “لا يتدخل في شؤون الدول الأخرى”.

نقول هذا، لأن من يسعى إلى تقسيم الدول العربية من خلال كيانات وهمية مصطنعة لإضعافها لا يمكن أن يكون قوميا عروبيا ولا وحدويا إسلاميا، لذلك نقف بكل قوة ضد تقسيم سورية والعراق وليبيا واليمن وأي قطر عربي، لإيماننا أن التقسيم يخدم أهداف الصهاينة بالأساس، لا الأقليات التي يتاجر بها البعض اليوم في سوق النخاسة السياسية وينفقون عليها عشرات مليارات الدولارات في ما لا يقدمون للمقاومة الفلسطينية رصاصة أو بندقية.

من هنا وجب التمييز بين النظام والشعب لما بينهما من تباعد واختلاف، وعدم إقحام المغرب نظاما وشعبا في مسألة التطبيع، لما قدمه الشعب المغربي قديما وحديثا من أجل القضية الفلسطينية، وحي المغاربة وبابهم في القدس الشريف شاهدين على ذلك، وشواهد قبور شهدائهم في مدينة القنيطرة السورية ودمائهم الطاهرة التي سالت على هضبة الجولان المحتل عام 1973 تنطق ببطولاتهم الأسطورية التي سارت بذكرها الركبان حين تركهم الطيران العربي لقدرهم يواجهون الجيش الصهيوني المجرم باللحم الحي، هذا في ما شاركت كتيبة جزائرية في الحرب بمعية الجيش المصري في سيناء، وكانت خسائرها في السلاح والعتاد فقط لا غير.

وقد سجل بعض المؤرخين في حرب الستة أيام سنة 1967 (لوران توشَار مثالا بالإضافة إلى مذكرات الجنرال المصري بطل العبور سعد الدين الشادلي)، أن الجزائر لم تحرك فيها ساكنا برغم الطلب الرسمي الذي تقدم به الرئيس جمال عبد الناصر لحليفه الرئيس الجزائري الهواري بومدين إلا بعد إعلان وقف إطلاق النار، الأمر الذي أدى إلى النكسة التي أصابت الأمة، كما وأن النظام الثوري في الجزائر وبرغم رفعه شعار دعم الشعب الفلسطيني، إلا أنه صمت صمت القبور في مذبحة أيلول الأسود بالأردن.

فلا تزايدوا على المغاربة من فضلكم في قضية يشهد لهم التاريخ بالبطولات الأسطورية والمواقف المشرفة، ولا تحاضروا في العفة والشرف من باب التعمية وذر الرماد في العيون، ولا تخلطوا بين الشعب والنظام عند الحديث عن العلاقة مع “إسرائيل”، لأن من كان بيته من زجاج فعليه أن لا يقذف بيت الجيران بالحجر.

لأن حقيقة الخلاف وأساسه بين المغرب والجزائر ليس مرده القضية الفلسطينية التي يتاجر بها النظام الجزائري اليوم من باب الدعاية السياسوية الزائفة، بل يعود أساسا للصراع الوجودي على البقاء الدائر بين الأنظمة الملكية والأنظمة الجمهورية في المنطقة، والذي بدأ منذ عصر الراحل جمال عبد الناصر أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، الأمر الذي قسّم الدول العربية إلى معسكرين متناحرين، ولم يكن للشعوب العربية من ناقة ولا جمل في ذلك، خصوصا في ظل أنظمة ملكية رجعية وأنظمة عسكرية ثورجية وقمعية تفتقد إلى الشرعية الشعبية كما هو حال النظام في الجزائر.

وبرغم انتهاء الحرب الباردة بانهيار المعسكر الاشتراكي ظلت حرب النفوذ مستعرة من تحت الرماد ولا تزال بين النظامين الجارين (المغرب والجزائر)، هذا في ما تدفع الشعوب ثمن هذه السياسات البليدة من قوت يومها ومستقبل أجيالها، خصوصا بعد أن حوّل نظام العسكر في الجزائر قضية الصحراء المزعومة إلى بقرة مقدسة يعلقون عليها فشلهم وعجزهم بعد أن نهبوا خيرات الشعب الجزائري واستنزفوا مذخرات أجياله.

لماذا نجح التطبيع مع الأنظمة وفشل مع الشعوب؟

وبمناسبة الحديث عن التطبيع مع “إسرائيل”، فإنه من باب الموضوعية التفريق بين النظام الرسمي وموقف الشعوب من القضية الفلسطينية، لسبب رئيس، وهو أن النظام الرسمي العربي عموما له إكراهاته السياسية ومنطقه البراغماتي، والنظام الجزائري ليس استثناءا في هذا الباب، في ما الشعوب العربية عموما تنطلق من رفضها للتطبيع مع “إسرائيل” من موقف مبدئي عقائدي بالأساس.

لأنه إذا كانت أمريكا والغرب الأطلسي و”إسرائيل” قد فشلوا خلال عقود من الزمن في تغيير الموقف الشعبي العربي من الكيان الصهيوني المجرم (مصر والأردن نموذجا)، فالسر يكمن في معادلة راسخة رسوخ الجبال ويستحيل تغييرها، ومفادها، أنك تستطيع تغيير الأفكار المكتسبة لدى الناس لأنها تشبه الماء السائل الذي بإمكانك تغيير لونه واتجاهه بل واستبداله بماء جديد إن اقتضى الأمر، لكنك لا تستطيع تغيير العقيدة الراسخة التي تشبه مربع الثلج الصلب العصي على الذوبان إلا إذا كسرته أو عرّضته للهيب النار.

كما وأن هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن عامل العقيدة، ذلك أنه وبخلاف الثقافة الغربية العلمانية القائمة على تقديس “الأنا” الفرد، تقوم الثقافة العربية والإسلامية على تقديس الـ”نحن” من منطلق القومية العروبية والشرع الجماعي الإسلامي، وما تعنيه ذلك في القاموس النفسي الاجتماعي المعاصر من استعداد الـ”نحن” للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الجماعة أو الأمة.

وهذا هو ما يحدث بالضبط في منطقتها العربية اليوم، حيث وصل الغرب إلى قناعة حاسمة ونهائية تقول، أن التطبيع يمكن أن ينجح مع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة الفاقدة للشرعية الشعبية من خلال الضغط والتهديد، وتحويلها إلى مجرد أدوات وضيعة ومطيعة في خدمة الإستراتيجية الصهيو-أمريكية، وهذا ما أصبح اليوم جليّا واضحا بعد أن سقطت الأقنعة وكشف المستور وخرجت العلاقات “العربية – الإسرائيلية” من السرية إلى العلن ضدا في رغبة وطموحات وتطلعات الشعوب التي لا زالت وستظل ترفض التطبيع ما دام في القلب ذرة من إيمان بالحق في انتظار أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

لقد أثبتت التجارب ومسار التاريخ أنه يستحيل تغيير عقيدة الناس الدينية التي تعتبر فلسطين عربية والقدس الشريف من المقدسات الإسلامية التي ورد وعد تحريرها في القرآن الكريم، وهنا تكمن الخطورة، وبالتالي، لا حل لهذه المعضلة سوى بشن الحروب المباشرة والناعمة ومحاولة تمزيق لحمة الأمة من مدخل الطائفية والمذهبية ليظل الصراع محتدما لعقود قادمة بين أبنائها، ما يشغلها عن التفكير في اقتلاع “إسرائيل” لتحرير فلسطين.

وحيث أن إيران وسورية هما الدولتان الوحيدتان الرافضتان للإحتلال بالخطاب والداعيتان لتحرير فلسطين بالفعل الملموس المتمثل في تسليح وتمويل وتدريب المقاومات الشعبية في المنطقة استعدادا ليوم الله الأكبر، فمن الطبيعي أن يتم التركيز على تدمير سورية وتحويل إيران إلى عدو للعرب واتهامها بنشر الإرهاب والطائفية وزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، ولا نتحدث عن حزب الله لأن الموضوع له علاقة بالدول والشعوب لا بالجماعات والأحزاب، ولأن حزب الله يمثل اليوم شعلة النور الوهاج الباقية في ليل الأمة الحالك الظلام الدامس القتامة.

أما القول أن الجزائر تدعم القضية الفلسطينية أكثر من بقية الدول العربية، فالأمر لا يعدو كونه كلام عام من باب التسويق للوهم، لأن النظام الرسمي الجزائري لا يقدم للمقاومة الفلسطينية سلاحا ولا مالا ولا من يحزنون، ومن يدعي عكس هذا الكلام فليثبته لنا بالدليل الملموس لنشكره على المعلومة ونقدم له اعتذارا رسميا على ما نزعم.

وما نزعمه ليس محض افتراء، بل هو مؤسس على شهادات مدونة لبعض مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية لا يسع المجال لسردها في هذا المقام، ومفادها أن “الجزائر أشبعتنا شعارات و عناوين فارغة، ولم تتدخل إلا في الحقل الدبلوماسي لمناصرة الفلسطينيين”.

ولعله آن الأوان لكسر هذا الطابو وكشف المستور في العلاقة “الجزائرية – الإسرائيلية” حتى يستفيق المغفلون من الوهم فينظرون بعين اليقين إلى ما جرى ويجري في الكواليس حول هذا الموضوع عبر مختلف المحطات التاريخية التي مرت منها الدولة الجزائرية الحديثة.

الجزائر قبل الإستقلال:

يقول أستاذ العلاقات الدولية وخبير الشؤون العسكرية والاستراتيجية الدكتور عبد الرحمن مكاوي في بحث حول الموضوع مستندا لمراجع أكاديمية وشهادات تاريخية موثقة، أن الماسونية المرتبطة بالصهيونية العالمية لعبت دورا رائدا في بلورة وصنع النخب العربية في المنطقة المغاربية وتحضيرهم للقبول بالتعامل مع “دولة إسرائيل” بعد الاستقلال، خصوصا في الجزائر حيث لم تكن خافية حينها العلاقة العضوية القائمة بين الصهيونية العالمية والأحزاب الشيوعية والأممية الاشتراكية و النقابات و والجيوش، وتاريخ الجزائر ليس استثناءا عن هذه القاعدة.

كما وأن قانون كريميو (Cremieux) الذي منح الجنسية الفرنسية إلى كل اليهود الجزائريين مكن هؤلاء من أن يلعبوا دورا محوريا في الصراع الداخلي الذي انفجر بعد الاستقلال، حيث نجحوا أيما نجاح في تقسيم الجزائريين إلى تيارين: تيار فرانكفوني لغة و تفكيرا ومنظورا وسلوكا ولباسا وعادات، وتيار عروبي إسلامي منبوذ ومضطهد من قبل العسكر.

ومن هذا الانقسام الإيديولوجي و اللغوي تحديدا تسربت “إسرائيل” إلى الجزائر و عملت و لا زالت على زرع الشقاق والألغام داخل القطر الجزائري الشقيق، و هذا التسرب الإسرائيلي تجلى مباشرة بعد فاتح نوفمبر 1954 عندما انقسمت جبهة التحرير الوطني إلى جناح يساري لا ديني (لائكي) مدعوم من طرف الشيوعية العالمية والماسونية، وهو التيار الذي وجد صدى و دعما كبيرين عند الرفاق في موسكو و باريس و إسبانيا و إيطاليا و “إسرائيل”، لأن هدفه كان فتح قنوات تعامل مع “إسرائيل” و الابتعاد عن التعويل على العرب و خاصة الابتعاد عن ثورة يوليو الناصرية.

ومن أهم قادة التيار اليساري الماركسي السيد عبد الرزاق عبد القادر حفيد الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري، العضو البارز في الشعبة الماسونية المالطية (Chevalier de l’ordre de Malte). وكان من الشخصيات النافذة و القوية في جبهة التحرير الوطني الجزائرية خلال الثورة إلى جانب عباس رمضان الأمازيغي و ديدوش مراد و بن بلوعيد و آخرين، وكان ينصح رفاقه بضرورة التقارب والاعتراف بـ”دولة إسرائيل”.

فكراهية حفيد الأمير عبد القادر للعرب واللغة العربية وصلت إلى درجة مطالبته للثوار الجزائريين بعدم الاتكال على العرب في حرب التحرير ضد فرنسا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك في إحدى المناسبات في ألمانيا حين قال، بأن “الثوار سوف يردون جميل الشيوعية العالمية و الماسونية عند استقلال الجزائر بسبب مساندتهم للثورة الجزائرية ضد فرنسا”.

و قد ذكر المؤرخ ميخائيل لسكيار(Michael laskier) في مؤلفه (فلسطين من المغرب إلى أوسلو)هذا الانقسام الذي كان سببه الأساسي هو الموقف من “إسرائيل” والفرانكوفونية و العلمانية و الماسونية. ومن نتائج هذا التجاذب السياسي كان إقصاء المناضل فرحات عباس عن القيادة، كما سجن حفيد الأمير عبد القادر سنة 1963 بسجن “سركاجي” بتهمة الخيانة العظمى و التخابر مع “إسرائيل”، وهو من مؤسسي جبهة التحرير الوطني، تم نفي بعد ذلك خارج البلاد حيث انتهى به المطاف في “إسرائيل” حيث دفن في إحدى المستوطنات بالضفة الغربية، بسبب أنه كان متزوجا من إسرائيلية من أصل بولوني عاش معها في إحدى الكبوتزات (المستوطنات) الإسرائيلية التي بناها الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الضفة الغربية.

وفي هذا الإطار يقول المؤرخ الإسرائيلي من جامعة القدس “جوزيف أبتبول”، أن “حفيد الأمير عبد القادر والمناضل الكبير في الثورة الجزائرية اعتنق الديانة اليهودية و مات ودفن في مستوطنة بالضفة الغربية وهو يحمل اسما و هوية إسرائيلية”.

أما التيار الثاني، فكانت تقوده جمعية العلماء المسلمين بزعامة ابن باديس و الشيخ الإبراهيمي، اللذان كانا يناهضان هذا التوجه الذي نعتاه بالإلحاد و العلمانية.

الجزائر بعد الإستقلال…

يقول الدكتور عبد الرحمن مكاوي عن مرحلة ما بعد استقلال الجزائر، أنه وبعد الاستقلال سنة 1962، صعد نجم التيار العروبي الإسلامي بقيادة المناضل الراحل بن بلة الذي أعاد بوصلة الجزائر نحو التموضع إلى جانب القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي زمن الراحل جمال عبد الناصر، ونجح تدريجيا في تقزيم الحزب الشيوعي الجزائري ونفى بعض قاداته نظرا لوقوفهم مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي في إطار الشيوعية العالمية.

ولم يستمر حكم بن بلة إلا فترة قصيرة، بحيث أنه لم ينته من إخماد ثورة القبائل المسلحة، وإجهاض مشروع “ترقستان” في الجنوب، واستكمال تصفية رموز اليسار الماركسي على حساب التقارب مع التيارين الناصري و البعثي، حتى قرر التوجه غربا بتحريض من جمال عبد الناصر لخلق نزاع إديولوجي مع المغرب على أساس قاعدة أقرها جمال عبد الناصر في حينه تقول بضرورة تحويل الملكيات العربية الرجعية إلى جمهوريات اشتراكية لإقامة الوحدة العربية، فكانت حرب الرمال الشهيرة سنة 1963 تحت شعارات إديولوجية وعناوين ثورية زائفة لشد عصب الداخل الجزائري، مفوضا بذلك أمر القضية الفلسطينية إلى جمال عبد الناصر، مكتفيا بدعم القضية المركزية للأمة بالشعارات الجوفاء والبيانات الحماسية فقط لا غير..

فكانت الهزيمة التي خلفت في الوعي الجزائري ندوبا عميقة لم تندمل إلى اليوم، ولا زال النظام الجزائري يبحث عن الانتقام فلم يجد غير البوليساريو صنيعة القذافي لمعاكسة المغرب ومحاولة تعطيل مسيرته، وهو لعب بالنار لا يخدم مصلحة الشعبين الجارين، وتحول إلى عائق في وجه تفعيل اتحاد المغرب العربي كما هو معلوم للجميع اليوم.

وللإشارة، فبسبب هذه الأزمة المفتعلة، لجأ النظام المغربي إلى “إسرائيل” لمساعدته على بناء الحاجز الرملي على الحدود الشرقية والجنوبية في الصحراء زمن شارون بنصيحة من فرنسا، فوضع بذلك حدا لتسلل المرتزقة إلى الداخل المغربي.

وشاءت الظروف أن ينتصر التيار العلماني الذي كان يمثله محمد حربي وحسين زهوان، فتبنى المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني ما سمي بـ”ميثاق الجزائر” سنة 1964، حيث بدأ التعامل مع مختلف التيارات الدينية بالمنع والإقصاء، سواء كانوا طرقا، صلحاء، طلبة مساجد، علماء، أو سلفيين، وفق ما يقوله المؤرخ ‘ف. بيرغات’ حول العلمنة في الجزائر، وكانت الأوساط السياسية الحزبية والنقابية حينها تنعث العلماء بـ”علماء الشر” وتدبج المقالات ضدهم وتحرض الإعلام المأجور (المكتوب والمسموع والمرئي) على معاداة رجال الدين والتحذير من خطرهم، بل ذهب بعض مرتزقة العسكر حد تشبيه المؤذنين في الجوامع بـ”كلاب الدوار”.. فاستبعد النظام تدريس الفكر الإسلامي من المناهج الدراسية واكتفى بمواضيع إنشائية حول الحضارة الإسلامية من باب ذر الرماد في العيون، في محاولة بئيسة لعلمنة الشعب الجزائري الذي فشلت فرنسا في علمنته خلال 120 سنة من الاحتلال.

وبذلك، نجح النظام في إقامة ما عرف في حينه بـ”إسلام لينين” الذي يجمع بين الإسلام والعلمنة تحت مسمى “العلمنة الإسلامية”، الأمر الذي دفع بعض العلماء مثل عبد اللطيف سلطاني وأحمد سحنون إلى القول أن في الجزائر دين يشبه “المزدكية الاشتراكية”، في مقارنة بين ماركسية النظام ومذهب مزداك الذي اشتهر باشتراكيته الماسونية وإباحيته المطلقة.

لكن مثل هذه التصرفات والممارسات الإقصائية أدت إلى بروز وتنامي ظاهرة الإسلام السياسي المعارض بين أوساط الشباب، فظهر ما اصبح يعرف بالتيار الأصولي الذي كان يناضل من أجل إحياء القيم الإسلامية التي كانت ضحية تكالب الاستعمار والتيار العلماني الاشتراكي بعد الاستقلال، فبدأت تنتشر كالنار في الهشيم أفكار السيد الهاشمي التيجاني والأفغاني، ومحمد عبده، وحسن البنا، وسيد قطب، والغزالي، بالإضافة لأفكار شكيب أرسلان، وبعض النظريات “الجهادية” الدخيلة الواردة من باكستان.

ثم جاء ما سمي بـ”التصحيح الثوري” الذي أتى بحكم العسكر برئاسة الراحل هواري بومدين سنة 1965، رافعا شعار “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” برغم أن الجزائر ليست من دول الطوق، مطالبا برفع الوصاية العربية عن القضية الفلسطينية، محرضا على العمل المسلح لتحرير الأرض من منطلق مقولة جمال عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يمكن استرداده إلا بالقوة”.. ومعلوم وفق شهادات مسؤولين فلسطينيين من منظمة التحرير حينها، أن هذه الشعارات ظلت مجرد صرخة في الخلاء.

حقبة ما بعد هواري بومدين:

أما حقبة الرئيس الشاذلي بن جديد، فقد عرفت أول لقاءات سرية جزائرية إسرائيلية بوساطة فرنسية وأمريكية في أوروبا و أمريكا اللاتينية، لقاءات خصصت لميدان التعاون الاقتصادي، فـ “إسرائيل” باتت تبيع للجزائر الطماطم والبطاطس والقمح والدواء والبذور عبر شركات إسرائيلية مقراتها في أوروبا. وذلك استنادا إلى مذكرات احمد بوطالب الإبراهيمي لمن أراد التأكد من هذه المعطيات.

وبعد الإطاحة بالشاذلي بن جديد من طرف المؤسسة العسكرية، و ما تبعها من حصار غربي للجنرالات، ورفض أغلبية الدول بما في ذلك دول المعسكر الشرقي بيعهم أسلحة متطورة لمجابهة الإرهاب ( إرهاب الجماعة المسلحة الجزائرية و جماعة الدعوة والقتال)، تحول جنرالات الجزائر إلى شراء الأسلحة من “إسرائيل” عن طريق البوابات التركية والجنوب الإفريقية، ومن خلال السوق السوداء التي يسيطر عليها العملاء الإسرائيليون التابعون للموساد “تجار الموت” أو (Les Marchands de la mort).

وفي هذا الصدد يوضح الدكتور مكاوي، أن التطبيع الجزائري الإسرائيلي هو أمر قديم حديث، و التحفظات المتعددة التي عبرت عنها الجزائر فيما يخص مشروع الاتحاد من أجل المتوسط و الذي أعلن عنه في في باريس كان موقفا غير صحيح و غير واقعي، فالجزائر كانت ترى في هذه المنظومة المتوسطية فرصة للتطبيع مع “إسرائيل” بشكل مرحلي و سري كما كتب الزميل الجزائري سليمان بوصوفة يقول، “كانت مواقف غير جادة ولا تعكس حقيقة العلاقات الإسرائيلية الجزائرية التي كانت تجري تحت الطاولة وفي سرية تامة و في أكثر من عاصمة غربية”.

هذا في ما يؤكد مؤرخون لمرحلة ما بعد استقلال الجزائر، أن ما سجل للتيار العروبي البعثي الذي حكم في الجزائر من 1965 إلى 1980 هو أنه ميّز بين المواقف السياسية و المصالح الاقتصادية في علاقاته الخارجية، فالعلاقات الغير المباشرة مع “إسرائيل” استمرت تحت نار هادئة عبر شركات إسرائيلية في كندا و أمريكا و أوروبا و قبرص و اليونان وتركيا، وخلال هذه الفترة، كان “الإسرائيليون” يدخلون إلى الجزائر و يقيمون فيها بجوازات أوروبية و أمريكية، حتى أن الشركة الكندية التي بنت مقام الشهيد في العاصمة هي في ملك إسرائيليين وكنديين، وكان الوزير الأول في مقاطعة كيبيك الكندية في السبعينات والصحافي أثناء الثورة روني ليفسك (René Lévesque) يقومان بدور الوسيط بين اليهود الكنديين و الإسرائيليين من جهة و النظام الجزائري من جهة ثانية.

وقد لاحظ العالم كله كيف قام الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة بمصافحة وزير الدفاع “الإسرائيلي” أيهود براك بحرارة خلال مشاركته في جنازة الملك الراحل الحسن الثاني في الرباط بتاريخ 25 يوليوز 1999، وهو اللقاء الذي تقول مصادر فرنسية عليمة أنه دشن سلسلة من اللقاءات المباشرة بين الجزائر و”إسرائيل” في العهد الجديد، فاللقاءات الإسرائيلية الجزائرية أصبحت تمر في هدوء وفي ظلام الكواليس، بعضها من خلال زيارة وفد إعلامي جزائري إلى “إسرائيل” دون أن تحرك السلطات الجزائرية و الشعبية ساكنا، ولا نتحدث عن زيارة الوفد الإعلامي الجزائري والمغربي والتونسي الأخيرة. كما أن العلاقات التجارية تواصلت دون انقطاع بين البلدين عبر شركات أروبية يملكها “إسرائيليون” إلى درجة أصبحت الجزائر تستهلك أكتر من 5 مليار دولار سنويا من المنتوجات الصناعية و الفلاحية و الطبية “الإسرائيلية”.

وتمثل مشاركة الجزائر في مؤتمر أنابوليس للسلام الذي جرى في نوفمبر 2007 وذلك بوفد رسمي يرأسه مندوبها في الجامعة العربية عبد القادر حجار أهم محطة في هذا المسلسل التطبيعي. فالجزائر دولة غير معنية مباشرة بالصراع ولا تعتبر من دول الطوق، وبالتالي، كيف يمكن تفسير هذا اللقاء الرسمي “الإسرائيلي” الجزائري؟ و ماذا كان الهدف منه؟.

ويشير خبراء معارضون في المهجر إلى أن شركة “إسرائيلية” هي من تدير إحدى أكبر مناجم الفوسفات في البلاد تحت غطاء شركة فرنسية للتعمية من ضمن مشاريع أخرى يتكتّم عليها النظام الجزائري، وبالتالي، ما حاجة النظام المغربي لمساعدة “إسرائيل” على التجسس على الجزائر إذا كانت “إسرائيل” متغلغلة حتى النخاع في الجزائر؟.. واضح أن الهدف هو دغدغة مشاعر الأغبياء والسدج من الناس.

فصل آخر من تاريخ الجزائر مع “إسرائيل” تمثل في قرار الرئيس بوتفليقة فتح قنوات مباشرة مع الجالية اليهودية في أوروبا و السماح لها بزيارة الجزائر تحت غطاء زيارة المقابر والأضرحة المقدسة اليهودية، وهنا لعب الحاخام ‘هنري هادنبريغ’ رئيس منظمة اليهود الفرنسيين (CRIF) دورا محوريا في ترتيب و تدبير جميع العلاقات “الجزائرية – الإسرائيلية” في باريس والعالم. وقد أشارت مواقع وزارة الخارجية الصهيونية إلى اللقاء الذي تم في العاصمة الفرنسية بين المناضل الكبير رئيس البرلمان الجزائري السابق ‘البشير بومعزة’ والحاخام الفرنسي المذكور، والتي كانت مناسبة لبحث سبل ترقية العلاقات بين البلدين الصديقين، ولكن في إطار سري وغير معلن عنه وتحت الطاولة في انتظار الوقت الذي تكسر فيه العقدة النفسية عند المواطن الجزائري العادي الذي يرفض كل تطبيع مع الكيان الصهيوني شأنه شأن كل الشرفاء في الوطن العربي من الماء إلى الماء.

ويضيف الباحث الدكتور المكاوي في هذا السياق، أن انضمام الجزائر إلى ميثاق برشلونة ثم إلى مشروع الاتحاد من أجل المتوسط هو إعلان غير مباشر عن التطبيع مع “إسرائيل” رغم التحفظات الأولية و ما تبعها من فلكلور إعلامي..

ناهيك عن التقارير الأوروبية التي كشفت ما كان يجري خلال اللقاءات التي كانت تتم بين الضباط الجزائريين والصهاينة بمناسبة اجتماعات حلف الناتو للحديث عن مكافحة الإرهاب جنوب الصحراء، حيث كان يتم مد المخابرات الجزائرية من قبل الموساد بالمعلومات الاستخباراتية الحساسة لمساعدة الجيش الجزائري في حربه على الإرهاب.

خـاتـمـــة:

وبعد هذا الذي سلف، وهو للإشارة غيض من فيض لضيق المقام، نقول لنظام العسكر في الجزائر، كفى كذبا ونفاقا وخداعا للشعب الجزائري الأبي، التطبيع يجري في عروقكم مجرى الدم، والشرفاء المتنورون في الجزائر واعون ومدركون لهذه الحقائق ويعرفون حق المعرفة أن النظام يحاول من خلال الشعارات الرنانة والخطب الجوفاء ذر الرماد في العيون لهدفين على الأقل:

  •  الأول، تحويل النقاش من نقاش داخلي حول أوضاع البلاد وأزماتها المركبة التي توشي بانفجار قريب لتعطيله.
  • الثاني، جس نبض الشارع من خلال إلقاء بالونات اختبار لمعرفة مدى جاهزية الشعب للقبول بالتطبيع مع “إسرائيل” وذلك من خلال إرسال الوفود الإعلامية إلى الكيان الصهيوني المجرم لقياس رد فعل الشارع على ذلك، وهذه سياسة خبيثة معروفة تتقنها الأنظمة العربية العميلة كلها.

فكفانا شعارات وخطبات شعبوية تضليلية لذر الرماد في العيون، فالتطبيع حقيقة قائمة بين النظام الجزائري والصهاينة قبل التحرير وبعد الاستقلال وإلى يوم الناس هذا، بل زاد حجمه ونوعه برغم اختلاف أساليبه.

ولا حل لهذه المعضلة إلا إذا أدركت الشعوب العربية خطورة اللعبة، وبدل معاداة بعضها بعضا كما ترغب في ذلك “إسرائيل” والأنظمة العربية العميلة، مطلوب منها أن تتكتل وتفضح هذه السياسات الانبطاحية، ومواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة لمواقع الإنترنت المقاومة تمثل اليوم الإعلام البديل لإخراج مثل هذه المواضيع الحساسة من تحت الطاولة وفضحها والتنديد بها وتنظيم حملات جماهيرية شجاعة في الشوارع للوقوف في وجه حملة التطبيع على المستوى المغاربي والعربي، لكن تحت قيادات شبابية جديدة بعد أن باعت النخب السياسية والثقافية والإعلامية في الوطن العربي ضميرها للحكام الخونة.

أحمد الشرقاوي

المصدر: بانوراما الشرق الأوسط، 15 مارس 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق