
علي عبد اللطيف اللافي:
أظهرت حركة النهضة الإسلامية بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 براغماتية كبيرة في متابعة موضوع علاقاتها مع الدساترة والتجمعيين وإحاطة مواقفها بهذا الشأن بمسحة من الغموض انتبه له خصومها وأنصارها، بل وتمت إدارة الموضوع بشيء من التعتيم إعلاميا وسياسيا حتى داخل هياكلها القيادية لتعدّد تفاصيله وجزئياته وطبيعة الجذور التاريخية للعلاقة بين العائلة الدستورية بمختلف مكوناتها والتيار الديني بمختلف تشكّلاته عبر العقود الماضية؟
وللإجابة على ذلك كتبنا هذه الدراسة المطولة، وقد تعرضنا:
- في حلقة أولى إلى طبيعة العلاقة بين التيّارين في الفترة المُمتدة بين 1920 و1955
- في حلقة ثانية، بيّنا موقع التيار الديني من الصراع اليوسفي البورقيبي (1955 -1962 )
- وفي الحلقة الثالثة استعرضنا سياسة بورقيبة في المجال الديني وظهور الحركة الإسلامية (1972 -1962) المعاصرة.
- في الحلقة الرابعة
بينما سنحاول في هذه الحلقة الخامسة تبيان مرحلة المواجهة بين حركة الاتجاه الإسلامي والنظام البورقيبي وتبيان موقع الوزير الأول الأسبق والمرحوم محمد مزالي…
الحلقة الخامسة
الإسلاميون وبورقيبة: المواجهة وموقع مزالي بين طرفيها (1981 -1986)
دخلت تونس مع بداية الثمانينات مرحلة جديدة اتسمت ملامحها الأساسية توخي النظام البورقيبي للانفتاح السياسي والتعددية الشكلية (إجراء انتخابات تشريعية تعددية – أطلاق سراح قيادات اليسار الماركسي واستقبالهم من طرف بورقيبة – رفع الحضر عن الحزب الشيوعي ….)، وتمّ تغيير الوزير الأول الهادي نويرة إثر حادثة قفصة (27 جانفي 1980) وتم تعيين محمد مزالي على رأس الحكومة …
ومع ذلك تواصلت هيمنة بورقيبة وشخصه8كل مظاهر الحياة السياسية وسط حدة الصراع بين رجال الحزب والدولة على خلافته وتجدد علاقة المد والجزر في العلاقة مع المنظمة الشغيلة واتجاه الاقتصاد التونسي إلى أزمة حادة وهيكلية…
1- الإعلان عن التأسيس العلني:
في أوت 1979 أقيم بشكل سري المؤتمر المؤسس للجماعة الإسلامية تمت فيه المصادقة على قانونها الأساسي الذي إنبنت على أساسه هيكلة التنظيم وأصبحت تسمى” حركة الاتجاه الإسلامي“(وهي التسمية التي كانت تطلق على التيار الطلابي للحركة بداية من ديسمبر 1977 تاريخ أو تجمع طلابي للإسلاميين)، وتم أيضا إصدار مجلتي” الحبيب“و ”المجتمع“ إلى جانب تواصل إصدار مجلة المعرفة ، ومع تطور الأحداث (خاصة حادثة ديسمبر 1980 المعروفة والتي اكتشف النظام خلالها تنظيم الحركة بعد حجز حقيبة لدى القياديين صالح كركر وبن عيسى الدمني) وتغير المعطيات السياسية عقدت الحركة مؤتمرا استثنائيا في 1981 عقد في مدينة سوسة في شهر أفريل تحديدا تزامنا مع مؤتمر الحزب الحاكم، وهو المؤتمر الذي قرر عدم الدخول في المواجهة مع النظام وأكد على التحالف استراتيجيا مع الحركات الإسلامية والتحالف السياسي والتكتيكي مع حركات المعارضة في تونس وتم أيضا إقرار الإعلان عن تكوين حزب سياسي تحت مسمى” حركة الاتجاه الإسلامي “والتقدم بطلب تأشيرة مصحوبة ببرنامج عمل وهي حسب رأي المؤتمرين قرارات تنقل الحركة من الاعتراف الواقعي إلى الاعتراف القانوني (باعتبار أن الحركة كانت تصدر مواقف وبيانات تنشر في بعض الصحف مثل” الرأي“و” المستقبل“….) وبناء على ذلك تم عقد ندوة صحفية أعلنتفيه على برنامجها السياسي وكثفت من الحضوري السياسي لقياداتها وتدعيم نشاطها في الساحة الطلابية وعدد من الولايات.
2 –ردّ فعل النظام البورقيبي:
أقدمت السلطات التونسية على اعتقالات واسعة ردا على خطوة الحركة وبدأت الحملة الأمنية عليهم إثر محاولة أنصار الحركة في سوسة تنظيم تجمع شعبي في الساحل خلال شهر جويلية1981(كان المزمع حضور الغنوشي لذلك النشاط بالبقالطة)، وتم عمليا إحالة المتهمين بناء على تكوينهم لجمعية غير مرخص فيها ونشرهم أخبار زائفة والنيل من كرامة رئيس الدولة والقيام بأنشطة غير مرخصة (رغم أن الديمقراطيين الاشتراكيين عقدوا مؤتمرا غير مرخص وهو ما تعودت قوى سياسية فعله يومها بعد فترة الانفتاح)،في المقابل رد تنظيم الحركة يوم 4 سبتمبر 1981 بمسيرات احتجاجية في العاصمة وبعض الجهات، وقد ردت السلطة بحملة اعتقالات على تقديم المطلب القانوني قبل انقضاء المدة القانونية للرد وجاءت الأحكام لتعبر عن موقف السلطة من التيار الإسلامي فقد تراوحت بين 6 أشهر سجنا وعشر سنوات ، وبالتالي عادت الحركة الإسلامية إلى النشاط السري وتم تشكيل قيادة جديدة أصرت فيها على ضرورة عدم الانجرار إلى العنف وتوخي أشكال احتجاجية سلمية وهو ما مكنها من مزيد الانتشار في الأوساط التلمذية والطلابية حيث خاضت غمار التحركات التلمذية في المعاهد وتجذرت طلابيا عبر إصدار الميثاق الطلابي وجملة من المبادرات التي لاقت تجاوبا طلابيا أو أحدثت جدلا بين التيارات الطلابية على غرار التمسك بقراءة التأسيسي ( قراءة لتاريخ الحركة الطلابية التونسية ).
3-العلاقة بين الإسلاميين والدستوريين وسط الثمانينات:
تأثر” الحزب الاشتراكي الدستوري “بتطور الأحداث وبخروج التيار الليبرالي وبتقدم بورقيبة في السن وبالصراع على خلافته وعقد مؤتمر للحزب في أفريل 1981 وأعلن بورقيبة كما أسلفنا تبيانه، أنه لا يرى مانعا من وجود أحزاب سياسية أخرى في البلاد.
ووقع الاعتراف بأحزاب ثلاث وهو ما يعني أن الحزب دخل مرحلة جديدة سياسيا وتنظيميا إلا أن قياداته دفعت إلى تزييف أول انتخابات تعددية وبالتالي لم يسمح للمعارضة بدخول البرلمان وقد أثر عامل السن على الرئيس بورقيبة وتراجع دوره إقليميا ودوليا (رغم استقبال تونس للفلسطينيين) و قد عاد رجال وسيلة بقوة إلى الحكومة (السبسي مثالا لا حصرا حيث اصبح وزيرا للخارجية، إضافة إلى أن مزال في حد ذاته جاءت به وسيلة) وأصبح يشق الحزب صراعات عديدة وتم اختراقه من طرف اليساريين و البعثيين وأيضا من أنصار التيار الإسلامي مما أضعف الحزب وحول هياكله إلى أدوات للصراع بين بعض الوزراء وبين قوى سياسية متصارعة إيديولوجيا وأصبح التشكل داخله مبني على الجهوية و المصلحية والاصطفاف وراء هذا الطرف أو ذلك ، كل هذه العوامل سهلت على الإسلاميين القدرة على خلق مساحات عمل رغم تشكيل لجان الرعاية ومليشيا الوزير محمد الصياح والتي كانت مهمتها إرهاب النقابيين والمعارضين وتتبع أنشطتهم وتحركاتهم… وخلال هذه المدة اختفى مسمى ”الاتجاه الإسلامي الشوري“ بقيادة حسن الغضباني ، كما تكثفت أنشطة تيار الإسلاميين التقدميين وخاصة الفكرية والإعلامية ( مجلة 15-21 وبعض الأدبيات المنشورة لليسار الإسلامي وانتشار كتابات حسن حنفي) كما تمت محاكمة القيادتين السياسية والعسكرية لتنظيم حزب التحرير ، وبالتالي أصبحت العلاقة بين الدستوريين والإسلاميين عموما والاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص جد متوترة…
4- العلاقة بين محمد مزالي والإسلاميين :
لم يقع الإفراج عن قيادات الإسلاميين إلا في أوت 1984 إثر وساطة من الوزير الأول محمد مزالي وبناء على عوامل عدة من بينها قدرة الحركة على تشكيل قيادات متعددة وبديلة وتطوير نشاطها وحضورها الشعبي في الجهات والقطاعات والحضور القوي لتيارها الطلابي…
وقد شهدت سنة 1985 تحسنا في علاقة الحركة بالحكومة بل استقبل محمد مزالي الغنوشي ومورو بعد القصف الإسرائيلي لحمّام الشط في شهر أكتوبر، كما تطورت علاقة قيادة الحركة بالحبيب عاشور الأمين العام لاتحاد الشغل الذي رفض خيارات بعض القيادات النقابية تجاه الإسلاميين، ومع إقالة مزالي في جويلية 1986 بدت بوادر الصدام مع السلطات فلجأ مورو إلى السعودية، وفي مارس 1987 القي القبض على الغنوشي في حين اتهمت الحكومة التونسية إيران بتمويل الحركة، و شهدت الصدامات أوجها سنة 1987 مع الحكم على الغنوشي بالأشغال الشاقة مدى الحياة وإتهام الحكومة للحركة بالتورط في التفجيرات التي استهدفت نزل في جهة الساحل، كما تعددت مسيرات الإسلاميين في الصائفة التي سبقت النظام وحدوث انقلاب من داخل نفس المنظومة…
الخلاصة:
تميزت هذه المرحلة (1980-1987) بأنها كانت مرحلة مواجهة بين الطرفين حتى أن الحركة أصدرت يومها كتابا سريا نشر سنة 1988 عنونته” الاتجاه الإسلامي وبورقيبة محاكمة من لمن؟ “، وبالتالي كانت العلاقة مبنية على النفي وعدم الاعتراف بين الطرفين، ورغم العلاقة الجيدة مع الوزير محمد مزالي فان العلاقة مع الدساترة سادها التوتر والاحتقان والصراع الحاد بين الطرفين في كل المدن والقرى والأحياء وفي الساحة الجامعية أيضا، وهو الصراع الذي انتهى بمساهمة شباب التيار الإسلامي في إسقاط النظام البورقيبي ونهاية نسخة” الحزب الاشتراكي الدستوري“بالنسبة للحزب الحكام باعتبار حدوث التغيير من داخل نفس المنظومة…
المصدر: ميديا بلوس