تونسدراسات

الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لأحداث 26 جانفي (3/3)

 

 

 

الحلقة الأخيرة من مداخلة تحليلية في ندوة إحياء ذكرى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخ 18 جانفي 2010 ألقاها السيد محمد الناصر الذي كان يشغل منصب وزير الشؤون الاجتماعية واستقال من خطته قبيل أحداث 26 جانفي 1978.

التغيير في تركيبة الاتحاد:

إن التوتر الاجتماعي والسياسي المستمر الذي لم يتمكن الحزب والدولة من امتصاصه، استفادت منه قيادة الاتحاد التي سخرته لدعم مركزها التفاوضي والاحتجاجي خلال المفاوضات الجماعية مع الحكومة وبقية الشركاء الاجتماعيين. كما دعمت موقعها باستعادة النقابات القاضية أو غير المنضبطة إلى المركزية النقابية وذلك بمساندة مطالبها.

وبانفتاح الاتحاد العام التونسي للشغل على الجامعيين والمثقفين وتكوين نقابات جديدة من بينها نقابتي التعليم العالي والأطباء، انظم إلى صفوف الاتحاد مناضلون ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية المعارضة التي لم يكن لها آنذاك فضاءات أخرى للتعبير عن رأيها. هذا الانفتاح على مختلف تيارات المعارضة لم يفتأ أن غذى مناهضة قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل بعض المسؤولين في الحزب وبعض أعضاء الحكومة. وأصبح من الواضح شيئا فشيئا أن الاتحاد العام التونسي للشغل، يحتل فراغا سياسيا تركه الحزب الاشتراكي الدستوري الذي واصل التشبث بمبدإ الحزب الواحد ورفض التعددية والرأي المخالف. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ، فمن غرابة الأقدار أن العقد الاجتماعي الذي أعلن عنه في مؤتمر المنستير الرافض للتعددية الحزبية قد أدى إلى تطوير الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تجمع يضم كل الاتجاهات المعارضة.

وقد أثرت هذه التيارات المعارضة المنضوية تحت راية الاتحاد في مواقف الأمين العام وفي تصرفاته خاصة بعد إبرام الميثاق الاجتماعي والتنديد به من قبل 600 إطار نقابي في لائحة أعلن عنها في جريدة(Le Monde).

وهكذا تعززت قوى الاتحاد العام التونسي للشغل بين 1970 و1977 مستفيدة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتسب الاتحاد بذلك قدرة هائلة في المفاوضات الاجتماعية كما تزايد شعوره بسلبيات المشروع الليبرالي على حساب دوره كشريك اجتماعي في السياسة التعاقدية وهو ما جعله يبدو في نظر بعض المسؤولين في الحزب كمنافس سياسي. وبالإضافة إلى ذلك فان موقع الأمين العام للاتحاد الذي تكيف مع تعدد الآراء أصبح في تناقض مع ما يتطلبه الانضباط الحزبي الذي تفرضه عليه صفته كعضو في الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري.

وهكذا فان التطور في ميزان القوى بين الشركاء الاجتماعيين في تنفيذ السياسة التعاقدية كان من الأسباب التي أدّت إلى مواجهة 26 جانفي 1978.

مناورات ومبادرات استفزازية بين الأطراف:

وكما ذكرنا في بداية هذا العرض، أن ظروف عودة الحبيب عاشور على رأس اتحاد الشغل والمساندة التي منحها للهادي نويرة في مؤتمر المنستير الأول قد عززت العلاقات الشخصية بين الرجلين ورسخت تحالفهما، الأمر الذي شكل أساس السياسة التعاقدية الجديدة.

فميثاق الرقي الذي تنصهر فيه السياسة التعاقدية هو بمثابة عقد بين الدولة وشركائها الاجتماعيين الثلاثة، ولكن بما أن الاتحاد العام التونسي للشغل يمثل فيه مجموع الأجراء في القطاع الخاص وفي القطاع العام، في حين تحظى الدولة في نفس الوقت بدور الطرف الاجتماعي والحكم، فان اتحاد الشغل أصبح يتميز بدور اللاعب الرئيسي وتحولت المقابلة من مقابلة ذات أربعة أطراف إلى مقابلة بين طرفين: اتحاد الشغل من جهة والحكومة من جهة أخرى. وخلف هذين الهيكلين ترتسم شخصية وطموحات واستراتيجيات المحركين الأساسيين أي الحبيب عاشور والهادي نويرة.

ونستنتج مما سبق أن تنفيذ السياسة التعاقدية كان يتأثر لا فقط بتطور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما أيضا وبالخصوص بالعلاقات الشخصية وبمستوى الثقة المتبادلة بين المسؤولين الرئيسيين وهما أمين عام اتحاد الشغل والوزير الأول. وجاءت بعض الأحداث خاصة خلال سنة 1977 لتقلص من هذه الثقة بين الرجلين وتفسد علاقتهما بصفة ملموسة مما كان سببا في تصلب المواقف وجعل الحوار بينهما يتقلص وهو ما أفضى في الأخير إلى المواجهة.

ومن الأسباب التي ساهمت إلى حد بعيد في زعزعة الثقة بين القيادتين في سبتمبر 1977، سفر الأمين العام إلى طرابلس حيث التقى بقائد الثورة الليبية بحضور وزير الخارجية التونسية الأسبق وصانع اتفاقيات جربة. وقد وقع استغلال تصريحات الأمين العام إلى الصحافة الأجنبية لصالح الأطروحات الليبية بما اعتبر في تونس مضادا للموقف الحكومي الرسمي.

وقد اعتبر هذا التصرف من قبل الأمين العام لاتحاد الشغل غير ملائم لصفته كعضو في الديوان السياسي مما أدى إلى محاولة تجريده من صفته في الديوان السياسي وهي محاولة قد أحبطها رئيس الحزب في آخر لحظة.

ومن جهة أخرى فقد راجت الشائعات حول محاولات تكوين منظمات نقابية منافسة، يشجعها بعض المسؤولين الحزبيين، وقد رأى أمين عام اتحاد الشغل في تلك المحاولات مؤامرة ضد شخصه وضد اتحاد الشغل يقودها الحزب وهو ما ساهم في تصلب موقفه.

وقد تأزم الوضع في شهر نوفمبر فمن سنة 1977 حيث توعد شخص معروف بالعنف بقتل الأمين العام لاتحاد الشغل وكان ذلك في سهرة خمرية، وما إن بلغ النبأ إلى هذا الأخير حتى جمع الهيئة الإدارية التي اعتبرت هذا الوعيد مؤامرة ضد المنظمة وأعلنت عن إضراب بساعتين في جميع المؤسسات للاحتجاج على تلك التهديدات. وقد جرى الإضراب على مختلف المؤسسات بكامل البلاد.

الخاتمة:

إن أزمة 26 جانفي هي أزمة سياسية قبل أن تكون اجتماعية. صحيح أن الإضراب العام الذي وقع ذلك اليوم، كان بقرار من الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل وان الأسباب التي ذكرها بلاغ الاتحاد كانت مرتبطة بتعليق المفاوضات في ديسمبر1977، بخصوص بعض المطالب النقابية في بعض المؤسسات العمومية وبالمناورات للإطاحة بالأمين العام للاتحاد والنيل من سمعة الاتحاد لدى الرأي العام، غير أن البعد السياسي لهذا الإضراب واضح بسبب انه يتضمن ليس فقط التنديد بسياسة الحكومة وإنما إنهاء الحلف السياسي الذي ابرمه اتحاد الشغل مع الحزب الاشتراكي الدستوري، منذ عودة الحبيب عاشور على رأس المنظمة سنة 1970، وما استقالة الحبيب عاشور من الديوان السياسي للحزب واستقالة بعض النقابيين من اللجنة المركزية بضعة أيام قبل الإضراب، إلا تأكيدا للقطيعة بين القيادات النقابية والحزب الحاكم.

وبقطع النظر عن شخصية أهم الفاعلين في هذه الأزمة وأمزجتهم وغاياتهم السياسية وطموحاتهم الشخصية وتأثير هذه المعطيات على تصرفاتهم وعلى القرارات التي اتخذوها والتي آلت إلى المجابهة، فان الأسباب العميقة لازمة 26 جانفي 1978 يجب البحث عنها في الأهداف السياسية للسياسة التعاقدية.

وفي الواقع، لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل في التصور الأساسي للعقد الاجتماعي مجرد شريك اجتماعي مثل الأطراف الأخرى، وإنما كان أيضا شريكا سياسيا وحليفا للسلطة التي راهنت على سياسة جديدة قدمتها على أنها بديل عن سياسة التعاضد وعن التعددية السياسية. وهذا الدور الجديد الذي اسند إلى اتحاد الشغل مكنه من تعزيز وزنه في التفاوض واستغلال نقاط ضعف النظام السياسي واحتلال الفضاء الذي تركه الحزب شاغرا على الساحة السياسية. ثم أن التفتح السياسي لاتحاد الشغل على تيارات المعارضة خاصة بعد مؤتمره الأخير في مارس 1977، جعل منه منافسا سياسيا للحزب بعد أن كان حليفا له مما أدّى إلى المواجهة.

وخلاصة القول فإن الإضراب المعلن عنه يوم 26 جانفي 1978 لم يكن إضرابا تقليديا ناتجا عن نزاع جماعي(Conflit Collectif) في نطاق العلاقات الشغّلية بين مؤجرين وأجراء على مستوى قطاع أو على مستوى مجموعة محدودة من المؤسسات الاقتصادية بل كان إضرابا عاما دعا إليه الاتحاد جميع الأجراء في القطاع الخاص والعام وفي جميع أنحاء البلاد فهو بتجاوز اذن نطاق العلاقات الشغلية ويرمي إلى تحقيق أهداف سياسة بالدرجة الأولى، ذلك أن الإضراب العام هو بمثابة سلاح التدمير الشامل إذ أن هدفه لا يمكن أن يكون غير زعزعة شعبية النظام السياسي بل شرعيته.

فهذا الإضراب كان أولا رد فعل عنيف استنكارا للممارسات الاستفزازية التي استهدفت إطارات ومقرات الاتحاد في بعض الجهات، وهي ثانيا تنديد بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها الدولة، كما يتضح ذلك من اللائحة العامة الصادرة عن المجلس القومي للاتحاد المنعقد أيام 3-9-10 جانفي 1978 حيث جاء فيها:»إن المجلس القومي بعد تقييمه الانجازات التي حققها الاتحاد منذ مؤتمره الأخير وتقييمه للواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي للبلاد وبعد تحليل للوضع السياسي الراهن يؤكد أن الاتحاد لا يرضى أن تتجه سياسة الحكومة إلى تدعيم طبقة رأس مالية بجميع الوسائل وعلى حساب المصلحة الوطنية خاصة وان هذه الطبقة تربط مصالحها بمصالح رأس المال الأجنبي الاستغلالي…»

ويتضح اذن مما سبق أن الغاية من الإضراب العام هي «تغيير سياسة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذه الحالة فان الاتحاد تصرف هذه المرة بصفته منظمة شعبية لها مشروع مجتمعي مختلف عن مشروع الحزب والدولة بعد أن كان حليفا للحكومة ومساندا لمشروعها الليبرالي في بداية السبعينات.

وهنا تبرز الطبيعة الوطنية التقدمية والشعبية للاتحاد العام التونسي للشغل الذي يحتفل اليوم بعيده الرابع والستين والذي تميز منذ تأسيسه عن سائر المنظمات النقابية حيث كان نضاله يهدف لا فقط إلى الدفاع عن حقوق الأجراء المادية والمعنوية بل وكذلك إلى المساهمة في بناء المجتمع على أساس قيم الحرية والعدل والديمقراطية والرقي المستمر.

محمد الناصر

المصدر: الصباح نيوز، 28 جانفي 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق