تونسرأي

تونس والجناحان الجزائري والليبي: فنّ التصرف في الممكن

 

 

العلاقات السياسية بين البلدان المتجاورة هي أكثر العلاقات الدولية إشكالا في بعض دول العالم ويمكن لكثير من الدول العظمى أو غيرها أن تنجح على صعيد دولي في بناء سياسة خارجية بأجنحة ولكنها قد تفشل مع جاراتها فشلا قد يؤدّي إلى زعزعة الاستقرار وقد يمتدّ عقودا.

ما يسكت عنه الناس في السياسات بين البلاد المتجاورة هو أمزجة الشعوب وعلاقاتها التاريخية والاجتماعية وعراقة تلك العلاقات.

ولئن كان من الممكن الحديث عن ميزات اجتماعية وثقافية لبلد ما وعن مزاجه العام فإنّه من الممكن الحديث عن مزاجه تجاه شعوب تجاوره.

المزاج الوجداني والثقافي بين شعب وآخر يجاوره ليست صنيعة يوم وليلة إنّه يبنى في سنوات من التعامل والمماحكة والتعارف والتزاور والتزاوج والتناحر..وغيرها من وجوه التواصل الاجتماعي.

هذه العلاقات الشعبية يمكن أن تكون مساعدا أو معرقلا في العلاقات السياسية الدولية بين المتجاورين. وفيما يلي نأخذ مثالا عليه العلاقات التونسية الجزائرية والليبية وكيف مثلت في على في حياة الدولة في تونس مركز ثقل ساعد على الاستقرار وشعور الشعوب بأخوة متينة وباتحادها في الشدائد.

وهذا الاستقرار يمكن أن يكون لتونس اليوم الخارجة تدريجيا من عنق زجاجة ما يسمى بالثورة أن دافعا لها نحو بناء أفق سياسي جديد جناحاه الدولتان الجارتان الشقيقتان تونس وليبيا.

ذلك أنّ تونس تستفيد اليوم من جاريها التاريخيين الليبي من الجهة الجنوبية والجزائري من الجهة الغربية. وبين التونسيين وجيرانهم في الجانبين علاقات عريقة تعود إلى قرون ولم تستطع الهزات السياسية خصوصا في السبعينات والثمانينات أن تضعف الروابط بين التونسيين والليبيّين ولم تعرف العلاقات الجزائرية أيّة انتكاسة تذكر لا سياسية ولا اجتماعية.

آخر الأرقام تقول إنّ الجزائريين دخلوا إلى تونس للسياحة بأعداد وفيرة تقدّر بحوالي نصف مليون نسمة وبذلك يكونوا قد قدّموا للسياحة التونسية قارب النجاة لإنقاذ موسم كادت تقتله التفجيرات الإرهابية الأخيرة في سوسة جوهرة المدن السياحية بتونس.

لكن السياسة السياحية التونسية ما تزال منذ عقود تطير بجناح أروبية لم تعد تصمد في وجه رياح الإرهاب العالمي ولا في وجه بارونات الشركات السياحية العالمية وأساليبها في التأثير على السياح لاكتساح أسواق يدفع أصحابها أكثر.

ولم تنجح سياسات التعاطف الشعبية في البلاد الأروبية وغيرها مع تونس في أن تنعش السياحة التونسية وكل الذين رفعوا لافتات في العالم معها كانوا كحلم ليل قصير. لكنّ الروابط التاريخية بين الشعبين التونسي والجزائري هي التي أنقذتها وفي الأمر حاجة أيضا إلى أن ينعموا بالراحة وفرصة للتبضع وتكسير رتابة المكان.

هناك رغبة مشتركة بين الشعوب في عدم التفريط في المكاسب التاريخية والتقافية التي تربط بينها ويزيدها متانة روح الشراكة التجارية فمن الممكن أن يرى المواطن اختلاط شعوب ثلاثة في المراكز التجارية الكبرى وتستفيد تونس من جاريها استفادة هامة في هذا المجال.

الحقيقة أنّ الحكومات التونسية المتعاقبة كانت تؤمن بجدوى الجارين. صحيح أنّ العلاقات التونسية الليبية قد اهتزت بفعل تنافر بين الكاريزما البورقيبية وإيمانها العاصف بالشخصية التونسية من ناحية وميل القذافي إلى الوحدة بشكل غير مدروس ومتسرع.

كان خطاب البالماريوم الذي ألقاه بورقيبة عام 1972 خطابا ناريّا أمام القذافي ردّ فيه على ما اعتبره تسرعا في مهاجمة الغرب وفي الإيمان ببديل الوحدة ويعدّ ذلك الخطاب اليوم وثيقة نادرة لا بما حواه من جرأة وصراحة في مهاجمة أفكار وهّاجة في وقتها بل بما سيسببه ذلك الخطاب من تعكير لصفو سياسي استمرّ طيلة عقد ونصف كان من أبرز مظاهره أحداث قفصة المسلّحة عام 1980 والتي حاول فيها القذافي الإطاحة بحكم بورقيبة.

والحقيقة أنّ الأزمة السياسية الكبيرة لم تؤثر في متانة الأخوة بين الشعبين..كان القذافي يلجأ إلى طرد العمالة التونسية ليسبب مشكلا لبورقيبة وكان الناس يعرفون أن بورقيبة على حقّ وأنّه قرار عقيدهم لا يعكس حقيقتهم.

وفي المقابل وعلى الضفة الجزائرية لم يحدث في عهد بورقيبة أيّ إشكال يذكر صحيح أنّ التعاملات التجارية واستقطاب السوق الجزائرية لليد العاملة التونسية كان قليلا إلاّ أنّ سقوط قتلى تونسيين وجزائريين في 8 فبراير 1958 بساقية سيدي يوسف التونسية أثناء الكفاح التحريري الجزائري استثمرته الحكومات في إرساء علاقات سياسية متينة بين الدولتين وتحتفل الدولتان إلى اليوم بهذه الذكرى وقد يكون الاحتفال فرصة لعقد اتفاقيات في مجالات شتّى.

في عهد بن علي كان التقارب الليبي التونسي السياسي أكبر انتهى بأن حصل القذافي على الدكتورا الفخرية من الجامعة التونسية ثمّ عصفت الأحداث ببن علي فاستاء لذلك القذافي وتهدد وتوعّد قبل أن تعصف به عصفا مأكولا أحداث أكثر دموية.

في مرحلة ما بعد الثورة وبقطع النظر عن الموقف السياسي من التغيير المزعج لم تتوقف الدولة الجزائرية عن تقديم العون للسلطات المؤقتة المتعاقبة وخصوصا في محاربة الإرهاب وفي الدعم المالي والسياسي ولم يهتمّ التونسيون بما يمكن عدّه تصديرا للثورة ولم يهتم الجزائريون باستيراد الثورة وحسنا فعل الشعبان بأن تعايش كلّ مع الظروف القديمة والجديدة بل على العكس من ذلك تفهّم الجزائريون حكومة وشعبا حرج الفترة الانتقالية وهبوا للنجدة وللإعانة فلم تقف موجة الانتقال إلى بلادنا في المواسم والمناسبات.

وعلى الرغم من الحادثات الطارئة هنا وهناك فإنّ الليبيين متفهّمون خصوصيات الأوضاع ولم يتخلّ التونسيون عن مدّ العون لهم رغم صعوبة التموقع أحيانا بالنسبة إلى هذا الشقّ السياسي أو ذاك.

على أنّ ما يعنينا ههنا هو أن نقترح على صنّاع القرار خارطة طريق لدعم سياسة الانفتاح على القطرين الشقيقين بما يجعل تونس مستفيدا من جناحيها الليبي والتونسي لتحقيق نقلة نوعية وللتخفيف من المحرّك الأروبي الذي بات تشغيله يكلف الدولة الصغرى أثمانا يعسر تسديدها فيها التدخل السافر في الشان السياسي والثقافي والتربوي والمالي..

أوّلا: الإرهاب هو أكثر ما يعصف بالاستقرار السياسي في المنطقة والتنسيق السياسي ضروري قبل التنسيق الأمني وذلك بوضع سياسة استباقية في مكافحته قريبة المدى وطويلته: القريبة تكون بتقوية الشبكة الاستخباراتية وبتقاسم المعلومات من ناحية واستباق التحركات وينبغي أن تكون الاستعدادات الاستخباراتية مبنية على استراتيجيات وخطط واضحة تقوم على تقنية بناء السيناريوهات ولا تتضارب هذه السياسات مع الحريات الفردية والجماعية الأساسية.

ولا ينبغي أن تقف عند حدود الأطراف الأمامية بل ينبغي أن تمسّ الدوائر اللولبية لصناع الإرهاب بدءا بالأطراف وصولا إلى القلب.

أمّا السياسة ذات المدى البعيد فينبغي أن تشمل إعادة النظر في قطاع التعليم وفي الأمراض الاجتماعية التي تكون منابت فعلية للإرهاب كالفقر والتهميش والطبقية والمحسوبية وغيرها؛ وهذا لا يتحقق في عقد أو في عقدين لذلك ينبغي أن يجري الأمر وفق مخططات خماسية أو عشرية. نقول ذلك رغم أنّ خيوط الإرهاب شديدة التشابك وعلاقاتها وثيقة بكثير من المصالح وهو ظاهرة متطورة وغير خاضعة بيسر للتأطير.

ثانياً: التجارة الموازية هي القطاع الأكثر استفادة من التقارب من القطرين التونسي والجزائري سواء في النفط أو في الموادّ الالكترونية والمواد الغذائية والأنسجة..ولقد كوّنت التجارة الموازية مالا غير شرعي كثير وكانت الدولة تتغاضى عن هذه التجارة لعجز عن مداواة البطالة المستفحلة أو للفساد الذي استشرى وليس من اليسير القضاء عليه بين يوم وليلة.

ولن تستطيع الدولة القضاء على هذه التجارة الموازية إلا بإقامة أسواق حرّة، وهي على هذه الخطى سائرة، تكون في نقاط معينة بين الحدين الجنوبي والغربي وبإحكام الرقابة على البضاعة الداخلة والخارجة وبحماية كل القائمين على القطاع وبتحسيس الرأي العام المحلي بمضار تجارة التهريب وسنّ القوانين الزاجرة ويمكن للدولة أن تتدخّل من أجل تنظيم هذه التجارة والسعي إلى مصالحة جبائية تنتهي بإقامة نظام جبائي يستوعب القديم ويسعى إلى تأسيس قواعد صارمة في المجال.

ثالثا: السياحة والصحة والتعليم: تعدّ هذه القطاعات الأكثر استفادة من الدفق القادم من الجنوب التونسي والغرب. ويعتبر القطاع السياحي أبرز قطاع مستفيد خصوصا في الصيف وتعدّ السياحة الاجتماعية، وهي سياحة غير الفنادق، الأكثر رواجا ويشكو الأشقاء من غلاء معلوم كراء المنازل والشقق في فترة الذروة ويمكن للدولة أن تقنّن هذا الضرب من السياحة بفرض العقود المسجلة التي تراعي حقّ المصطاف فضلا عن حق المكتري.أمّا الصحة فهي قطاع يحتاج بدوره تنظيما بأن تسيّره قوانين لا تجعل طرفا من الطرفين يتضرّر.

وفي التعليم فإنّه من الممكن الاستفادة من الكفاءات التونسية في إعادة هيكلة التعليم في القطر الليبي خصوصا وهو يشكو خللا في الهيكلة والتكوين والتدريب وفي ربط حلقات التعليم الثلاثة؛ ويمكن أن ينشأ تعاون ثنائي بين البلدين يكفل الانتقال المنظم بين طلاب الجامعات والأساتذة في البادان الثلاثة.

إنّ السياسة الخارجية ينبغي أن تركّز على هذين الجارين ونحتاج سياسة إعلامية توجّه في هذا المرمى فبدلا من التركيز على الهامشيّات يمكن أن تخدم هذه الاستراتيجيا التي تبنى أسسها المتينة على عراقة شعوب تجد في قربها منبتا خصبا للتعايش السلمي.

 

د. توفيق قريرة(*)

 

المصدر: الزيتونة 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)– أستاذ جامعي من تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق