تونسدراسات

التنقيحات المدخلة على مجلة الإجراءات الجزائية.. إصلاح المنظومة الجزائية أم مجرد خيارات سياسية؟ 

     إن المطلع على التنقيحات التي أقرها مجلس نواب الشعب على مجلة الإجراءات الجزائية يطرح عديد التساؤلات حول وجود إرادة حقيقية لتطوير المنظومة الجزائية باتجاه تحقيق العدالة والسلم الاجتماعيين وتطوير وسائل التصدي للجريمة ومنها الآليات القانونية وخاصة مجلة الإجراءات الجزائية التي تعد من أهم القوانين وأكثرها تأثيرا على حقوق الإنسان وحريته وضمانا لتحقيق المحاكمة العادلة.

إن المتأمل في التنقيحات التي أقرها مجلس نواب الشعب على مجلة الإجراءات الجزائية يلاحظ أنها تسلطت على نفس الفصول التي تتعلق أساسا بالاحتفاظ والإيقاف التحفظي والفصول المرتبطة بهذا الإجراء وخاصة منها الفصل 13 الذي أصبح أشهر فصل فيها إضافة إلى أن المتأمل في التنقيحات التي شملت مجلة الإجراءات الجزائية يتبين أن الأحكام المتعلقة بالاحتفاظ وما ارتبط به من فصول قد شملها التنقيح أكثر من غيرها فيما يتعلق بمدة الاحتفاظ وإجراءاته دون أن تتغير الوسائل المادية لتطبيق تلك القوانين وطرق العمل فقد أدخلت تلك التنقيحات بمناسبة القانون عدد 70 لسنة 1987 المؤرخ في 26 نوفمبر 1987 الذي نظم الاحتفاظ لدى مأموري الضابطة العدلية بعشرة أيام مجزئة على ثلاث مراحل أربعة أيام قابلة للتمديد لفترة أولى بقرار من وكيل الجمهورية لمدة أربعة أيام ثم لفترة قصوى مدتها يومين ثم تدخل القانون عدد 90 لسنة 1999 المؤرخ في 02 أوت 1999 ليقلص تلك المدة إلى ستة أيام مجزئة على مرحلتين الأولى مدتها ثلاثة أيام قابلة للتمديد لفترة واحدة لنفس المدة ثم تدخل القانون عدد 21 لسنة 2008 المؤرخ في 04 مارس 2008 ليقر أحكاما تتعلق بتنظيم الاحتفاظ بالفصل 13 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية ليتدخل مرة أخرى بعد ثمان سنوات ليتذكر الفصل المدلل من المجلة ويقر تنقيحات ثورية في هذه المرة فيقلص من مدة الاحتفاظ إلى 48 ساعة في مادتي الجنح والجنايات و24 ساعة في مادة المخالفات مع إضافة مكررات أخرى للفصل 13 لتصل إلى الفصل 13 سابعا تنظم عملية الاحتفاظ وإجراءاته وحقوق المحتفظ به وغيرها وهو ما يبرز إرادة سياسية تعتمد على الطاقة البشرية التي ستستنزف في يوم من الأيام وليس على الإمكانيات المادية الواجب توفيرها لعمل عون الأمن والقاضي مما قد يؤدي إلى عقبات مؤكدة سوف يشهدها تطبيق هذه القوانين الإجرائية فهي تنقيحات لم تعادل بين الخيارات السياسية والإمكانيات التطبيقية سواء المتوفرة لدى رجال الأمن أو لدى القضاة وخاصة منهم أعضاء النيابة العمومية وقضاة التحقيق وقضاة النواحي وقضاة الأطفال المعنيون مباشرة بهذه الأحكام فهل ستحقق هذه التنقيحات أهدافها المنشودة ؟

جملة من الحقائق

إن المتأمل في هذا التنقيح خاصة من زاوية فنية بحتة يستنتج جملة من الحقائق أهمها:

1 –  غياب رؤية واضحة في البحث عن الطريقة المثلى لتحسين أداء النيابة العمومية وكل فروع القضاء المرتبطة بها بقصدالنهوض بمنظومة القضاء وتحسين جودة أدائه وتدعيم فاعليته لخطورة دور النيابة العمومية في التأثير على الحريات العامة والحفاظ على الأمن العام واستقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

2 – انعدام الرغبة الحقيقية في تجاوز الصعوبات القانونية والمادية التي تعترض القضاة أثناء ممارسة مهامهم وترقى إلى الطموحات التي يسعى إليها المتقاضي في تحقيق العدالة المنشودة والمبادئ المثلى لحقوق الإنسان والحرص على إيصال الحقوق لأصحابها كاملة وفي وقتها فلا يصح التكلم بحق لا نفاذ له وإن من الحقوق ما لا فائدة فيه إذا فات وقت أدائه لصاحبه، وبالتالي إعداد منظومة متكاملة تمكن من تكريس نجاعة أداء القضاء وسرعة فصل النزاعات أمام تراكم القضايا التي تملأ رفوف المحاكم وينتظر أصحابها البت في قضاياهم بسبب عدم توفر الزاد البشري الكافي للنظر في تلك القضايا مما يؤدي إلى حالة إرهاق يعيشها أغلبالقضاة والإطار الإداري المحيط به إضافة إلى فتح باب التجاوزات التي تنتج على تلك التراكمات في حين أن العدالة هي مقوم كل مجتمع ديمقراطي وكان من المأمول أن يكون أول ما يشمله الإصلاح بعد الثورة.

3 –  إن تطبيق التنقيحات الجديدة المدخلة على مجلة الإجراءات الجزائية يتطلب إعادة النظر في كامل المنظومة القضائية المرتبطة بهذه الإجراءات وخاصة منها:

إصلاح المنظومة السجنية من خلال تخصيص السجون الجهوية للموقوفين تحفظيا على ذمة النيابة العمومية وقضاة التحقيق ومحاكم القضاء دون غيرهم من المحكوم عليهم.

تفعيل دور النيابة العمومية من خلال مواكبة جميع الجرائم حال وقوعها والأخذ بزمام الأمور في الإبان وتجنب تطور الأحداث أو حتى تفرع جرائم أخرى عن الجريمة الأصلية

تخصيص أعضاء النيابة العمومية بتكوين عدلي وأمني وفني خاص وتوفير الحماية اللازمة لأعضائها كتوفير الضمانات لهم للقيام بأعمالهم في أحسن الظروف تطابقا مع المبادئ التوجيهية بشأن دور النيابة العمومية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بهافانا من 27 أوت إلى 07 سبتمبر 1990 والمعدة لمساعدة الدول على ضمان فعالية النيابة العمومية وحيادها وعدالتها في الإجراءات الجنائية

حتى لا يكون التشريع في قطيعة مع الواقع فلا بد من إدخال تغييرات جذرية في طريقة عمل النيابة العمومية.

إن المطلع علىالتنقيحات التي أقرها مجلس نواب الشعب على مجلة الإجراءات الجزائية يطرح عديد التساؤلات حول وجود إرادة حقيقية لتطوير المنظومة الجزائية باتجاه تحقيق العدالة والسلم الاجتماعيين وتطوير وسائل التصدي للجريمة ومنها الآليات القانونية وخاصة مجلة الإجراءات الجزائية التي تعد من أهم القوانين وأكثرها تأثيرا على حقوق الإنسان وحريته وضمانا لتحقيق المحاكمة العادلة.

الإصلاحات المقترحة

لقد أثبتت التجربة التي خاضتها النيابة العمومية لعقود وإلى حد تاريخ الساعة أن تدخلها يكون في مرحلة تالية لتدخل مأموري الضابطة العدلية بمناسبة حصول جريمة فيما عدى بعض الجرائم الخطيرة وأن طريقة العمل الجارية لدى النيابة العمومية بتأمين حصة الاستمرار لمدة أسبوع كامل من طرف أحد أعضائها هو عمل مرهق ومزعج خاصة خلال الحصص الليلية باعتبار أن عضو النيابة العمومية هو في نشاط مستمر في الليل والنهار سواء عنطريق التواصل الهاتفي أو المعاينات الميدانية وبالتالي فإنه ورغم المجهودات المبذولة من أعضاء النيابة العمومية لمواكبة ما يحدث من جرائم ورغم الاجتهادات التي سلكتها بعض المحاكم لتجاوز بعض الصعوبات فإنه وباستثناء حالات الجرائم الخطيرة فإن تدخل أعضاء النيابة العمومية ينقصه الإلمام بكل جزئيات الوقائع والأحداث الجزائية التي تقع بمرجع نظر المحكمة ولتجاوز هذه الصعوبات فالمطلوب ما يلي:

أن يقع تأمين حصة الاستمرار يوميا وبالتداول بين أعضاء النيابة العمومية أي أن عضو النيابة العمومية يؤمن حصة الاستمرار في توقيت محدد خلال اليوم والليلة بالتداول

أن يقع تأمين حصة الاستمرار بمقر المحكمة وجوبا وعدم الاكتفاء بالإعلام هاتفيا وإسداء التعليمات هاتفيا لأن ذلك يكون عادة مقتضبا وغير كاف للوقوف على حقائق الأمور ومانعا لمباشرة النيابة العمومية الأبحاث حينا في بعض القضايا المتلبس بالجريمة فيها أو الإطلاع عن كثب على المسار العدلي لعديد القضايا وتفعيل أحكام الفصل 16 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي أعطى لوكيل الجمهورية إمكانية التعهد مباشرة بالأبحاث لإجراء الأعمال فيها بنفسه.

أن يقع تسخير ما يكفي لتأمين حسن سير حصة الاستمرار من كتابة وحجابة ووسائل اتصال هاتفي وإلكتروني ووسيلة نقل وحراسة أمنية ومن يتحتم حضوره حينا من قضاة عند الاقتضاء سواء بالنسبة لقضاة التحقيق أو قضاء الأطفال أو قاضي الناحية أو القضاء المجلسي

توفير الزاد البشري والمادي الكافي لدعم عمل النيابة العمومية علما وأن أعضاء النيابة العمومية في كل محكمة باستثناء محكمة تونس1 يتراوح بين عضوين إلى ستة أعضاء تقريبا في المحاكم النشيطة وهو عدد لا يكفي لمجابهة النشاط اليومي الذي تمارسه النيابة العمومية سواء منه الإداري أو العدلي.

تمثيل النيابة العمومية بمحاكم النواحي المنتصبة خارج مركز المحكمة الابتدائية.

أن يقع تخصيص السجون الجهوية للموقوفين دون غيرهم مع تخصيص جناح خاص بالأطفال لأنه لن يكون هناك احتفاظ بمراكز الأمن وأنه عندما يقتضي الأمر الاحتفاظ بذي الشبهة فلن يكون ذلك إلا بعد سماعه من طرف النيابة العمومية أو قاضي الأطفال في أي وقت ويودع بقرار منها بإحدى السجون الجهوية بجناح خاص لمدة محددة يقع خلالها استكمال جمع الأدلة وإجراء الاختبارات الحينية عن طريق تساخير من النيابة العمومية كإجراء التحاليل على الحالة الكحولية للمظنون فيه مثلا أو استهلاك المخدرات أو العرض على الفحص الطبي مما يمكن النيابة العمومية من ضبط الوقائع بدقة بقصد الوصول إلى التكييف الصحيح المستند إلى وقائع ثابتة مرتكزة على أدلة واقعية لتكون جاهزة للفصل أمام المحكمة ما عدى القضايا التي يباشر قاضي التحقيق فيها البحث

إدماج مأموري الضابطة العدلية ضمن منظومة القضاء ليصبحواتابعين لوزارة العدل شأنهم شأن الإطارات السجنية وخاصة منهم الشرطة العدلية والأبحاث الديوانية وإحداث هيكل الشرطة القضائية الذي تعهد إليه مهمة تبليغ الإستدعاءات وتنفيذ البطاقات القضائية والأحكام القضائية تحت إشراف قاضي تنفيذ العقوبات.

إحداث مجلس يومي للنيابة العمومية بمستوى المحاكم الابتدائية يترأسه وكيل الجمهورية أو من ينوبه يقع فيه تدارس ما تم تسجيله من أحداث دورية والقرارات المتخذة بشأنها ومناقشتها ومراجعة تلك القرارات وتوحيد التوجهات العامة سواء داخل نفس المحكمة أو على مستوى وطني عن طريق خلية خاصة يقع إحداثها للغرض تتولى تجميع تلك الآراء ودراستها وجمع الاستشارات العلمية بشأنها للمحافظة على أحسنها لخلق جو من التناسق بين النشاط القضائي والبحث العلمي ومشاريع القوانين التي تعرض على السلطة التشريعية.

فصل وظائف النيابة العمومية عن الوظائف القضائية تكريسا لمبدأ استقلال القضاء واعتبارا لكون النيابة العمومية هي طرف في النزاع الجزائي بينها والمتهم وتخصيصها بنظام مستقل طبق المعايير الدولية المعتمدة لدى أغلب الدول.

ضرورة الفصل بين وظائف البحث ووظائف السجن فلا باحث البداية يخول له استعمال آلية الاحتفاظ ولا السجان يمكنه إجراء الأبحاث تجنبا لما قد ينشأ عن استعمال آلية الحد من الحرية كوسيلة ضغط معنوي تؤثر على حسن سير البحث.

 النتائج المرتقبة من إصلاح منظومة النيابة العمومية

القضاء على تراكمات المحاضر برفوف النيابة العمومية طالما أنها ستباشر عملها حينا وتبت في أغلب الوضعيات المعروضة عليها في الحال.

إلغاء إجراء الاحتفاظ نهائيا وما يترتب عنه من مصاريف إضافية تتعلق بظروف الاحتفاظ بالمراكز وتكاليفه فيكون الإيقاف على ذمة البحث موحدا لدى المؤسسة السجنية وقصر دورها على تنفيذ الأذون بالإيداع وتنفيذ الأحكام بالسجن مع العنايةبهذه المؤسسة ودعمها ماديا مع إلغاء ما خوله القانون لمدير السجن من صلاحية البحث.

إلغاء أحكام الفصل 31 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي لطالما طرح عديد الإشكالات في التطبيق لتضاربه مع وظائف قاضي التحقيق وتحديدا مع الفصل 51 من المجلة بما يساهم في تخفيف الأعباء على قضاة التحقيق بقصد تركيز مجهوداتهم على تحقيق القضايا المعقدة.

سرعة البت في القضايا وتحسين مردود القضاء ودعم فاعليته.

عادة ما تصاحب عملية إيقاف المظنون فيهم الذين يبدون مقاومة واستعصاء على أعوان الأمن مشاحنات ومشادات بما قد يؤثر على سير البحث في مرحلة لاحقة لدى مأموري الضابطة العدلية وحضور النيابة العمومية في هذه المرحلة ضمانة لحسن تطبيق القانون ومنع ما قد يتعرض له المظنون فيه من تعذيب وعون الأمن من اعتداء على حرمته الجسدية والمعنوية أثناء أدائه مهامه كما يمكن حضور المحامي مع المظنون فيه من ضمانات إضافية أثناء البحث.

 تدخل تشريعي

إن المنظومة الجزائية سواء منها ما تعلق بسياسة التجريم أو العقاب تتطلب تدخلا تشريعيا لمواكبة ما تعرفه البلاد من تطور للجريمة وأساليبها كما أن مجلة الإجراءات الجزائية تنقصها الأحكام التي تواكب طريقة التعامل مع الجريمة وتوفير أكثر الضمانات لتحقيق العدالة وقد آن الأوان لإعادة النظر في فصول مجلة الإجراءات الجزائية وإدخال تعديلات جذرية وأكثر عمقا على طريقة سير العدالة مواكبة لتطور وسائل الجريمة وتشعبها وتفرعها وتجاوزها الحدود الوطنية.

المنجي بولعراس (*) 

المصدر: الصباح، 6 و9 مارس 2016

ــــــــــــــــــــــ

(*)-  قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي والمالي بالمحكمة الابتدائية بتونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق