تونسدراسات

القضاء خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي

 

تقديم: 

          يعتبر إصلاح المنظومة القضائية من أهم  المطالب التي نادت بها الثورة التونسية “ثورة الحرية والكرامة” (17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي2011  ) نظرا و أن القضاء تم توظيفه من قبل النظام الاستبدادي وذلك باستغلال كل مكوناته لتضييق الخناق على المعارضين السياسيين ولجم الأفواه والاعتداء على الحريات العامة والخاصة بانتهاج سياسة ممنهجة لتسليط أحكام  جائرة لا تحترم معايير المحاكمة العادلة طبق ما ضبطته المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة والتي صادقت تونس على اغلبها وبسطت السلطة التنفيذية يدها على المؤسسة القضائية وعملت على ضرب كل نفس استقلالي لدى القضاة . لقد شخصت رسالة  المرحوم القاضي مختار اليحياوي المؤرخة في 06/07/2001 التي وجهها إلى  الرئيس المخلوع  في مضمونها   لواقع  القضاء التونسي  وما آل إليه  من تردي على جميع  المستويات  معبرا من خلالها  عن رفضه وسخطه  لوضع القضاء والقضاة  وأدّى ذلك حسب تقييمه إلى “تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمّل مسؤولياتهم كمؤسسة جمهورية مستقلّة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم في حماية الحقوق والحريات” كما “أن .. ” القضاء التونسي قد فُرضتْ عليه الوصاية بسيطرة فئة من الانتهازيين المتملّقين الذين نجحوا في بناء قضاء مواز خارج عن الشرعيّة بكل المعايير. استولوا على المجلس الأعلى للقضاء وعلى أغلب المراكز الحساسة في مختلف المحاكم لا يعرفون معنى التجرّد والحياد وتحوّلت الاستقلالية إلى استقالة وتبرّم لدى كل القضاة الحقيقيين المحيّدين والممنوعين من الاضطلاع بدورهم وتحمّل مسؤولياتهم وتفعيل كفاءاتهم في خدمة القضاء والوطن إن هذه الفئات التي تتاجر بالولاء لتكريس الخضوع والتبعيّة والمعادية لمنطق التغيير والتطوّر الخلاّق عن طريق الالتباس بنظام الحكم القائم والتي تسعى إلى إشاعة التباس النظام بالدولة بالاستيلاء على كل مؤسساتها إنما تسعى إلى الفتنة وتقود إلى المواجهة وتشكّل التهديد الحقيقي للنظام والأمن والاستقرار “بتلك الكلمات  الصادقة كسر المرحوم القاضي مختار اليحياويجدار الصمت  حول فساد المنظومة القضائية  وأصبح متاحا  الحديث عن ذلك .وبعد ما يقارب عشرة سنوات اندلعت ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011 وكان من بين المطالب الشعبية التي رفعت أثناءها “عدالة لا تحيد ” وقضاء مستقل”تطهير القضاء ” والقطع مع المنظومة القديمة. ومثلت تحركات القضاة  والمجتمع المدني للدفع في اتجاه إصلاح القضاء  والقطع مع موروث النظام  الاستبدادي ومن اجل خلق رأي عام ضاغط لتكريس استقلال القضاء التحول البارز خلال المرحلة الانتقالية  وتدعمت تلك التحركات باستئناف جمعية القضاة التونسيين لنشاطها ممثلة في المكتب الشرعي.

 بيد أن تلك  المطالب التي أججت الشارع ومن اجلها خرج  ولأول مرة  القضاة بأزيائهم القضائية  إلى الشارع في يوم تحرير القضاء بعد أن  تجاوز عددهم ألف مطالبين بالقطع من المنظومة القديمة  وتم إقرار يوم 26 مارس  من كل سنة  يوما لاستقلال القضاء ظلت تراوح مكانها ولم تستجب لها  كل الحكومات المتعاقبة واختارت الإبقاء على النظام القضائي سواء فيما يتعلق بالقضاء العدلي والمالي والإداري وعلى خلاف ذلك التوجه بخصوص القضاء العسكري بادرت الحكومة المؤقتة بتنقيح قانون المرافعات والعقوبات العسكرية في خطوة مفاجأة في تعارض صارخ مع المطالبين  بإلغاء المحاكم العسكرية  لأنها كانت من بين الأدوات التي استعملها النظام الاستبدادي لقمع المعارضين والمحاكمات السياسية .اصطدمت المطالب الشعبية  للثورة التونسية  بواقع سياسي متغير ومضطرب رافض لأحداث أي تغيير جوهري داخل المنظومة القضائية في مرحلة أولى و بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011  تطورت المواقف السياسية باتجاه  الاعتراف بضرورة تحييد المؤسسة القضائية فتم إنشاء هيئة وقتية  للإشراف على القضاء العدلي طبق ما اقتضاه القانون الأساسي المنظم للسلط العمومية وأدى إنشاؤها  إلى  الحد  من منسوب الاحتقان سواء داخل المنظومة القضائية أو خارجها وجنبت إلى حد ما الزج بالقضاء في المعارك السياسية  .

 إن أهم المكاسب التي تحققت خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي حرية التعبير عن الرأي وحق التنظم  وساعد  ذلك التحول إلى  ميلاد هياكل نقابية  جديدة سواء بالمحكمة الإدارية (اتحاد القضاة الإداريين) أو بالقضاء العدلي (نقابة القضاة التونسيين) إضافة لتأسيس (المرصد التونسي لاستقلال القضاء) من مجموعة   من القضاة الذين كانوا ينشطون في إطار جمعية القضاة ولعبت كل تلك الهياكل – برغم خلافاتها واختلافها وظروف نشأتها – دورا هاما  وبارزا  فيما يتعلق  بالمطالبة بإصلاح المنظومة القضائية كما ساهمت إلى حد كبير في خلق رأي عام مهم حول مسالة استقلال القضاء التي تبقى في النهاية خيارا سياسيا بامتياز وقد كان ذلك جليا عند صياغة باب السلطة القضائية بدستور 27 جانفي 2014  وما تضمنه من أحكام يمكن اعتبارها نقلة نوعية للسلطة القضائية في ضمان الحقوق  والحريات

ورغم أهمية مطالب إصلاح القضاء وتكريس استقلاله  والسعي للقطع مع المنظومة القديمة ’ بقيت كل تلك المطالب تراوح مكانها لعدة أسباب من بينها بالأساس الواقع السياسي وملابساته والأحداث التي عرفتها البلاد من اغتيالات سياسية  وأزمات الحكومات الانتقالية المتعاقبة’ وترجع الهياكل الممثلة للقضاة أن عدم الاستجابة لتلك المطالب  يعود بالأساس  إلى غياب الإرادة السياسية الجادة في إرساء نظام قضائي مستقل والاعتراف بأن القضاء سلطة مستقلة  والعمل على تحويل ذلك إلى قوانين واليات تكرس تلك المعايير الضامنة لاستقلال السلطة القضائية  بصفة فعلية وناجعة .واستمر تجميد مطلب  إصلاح القضاء  وبقي ملفا مؤجلا على طاولة الحكومات المتعاقبة وانعكس ذلك على الأسرة القضائية ومن ثمة على العدالة التي يطلبها المواطنون والمواطنات. ولكن في مقابل ذلك الجمود  تحققت بعض  الانجازات سواء  بالنسبة للقضاء العدلي بعد سن القانون الأساسي المتعلق بإحداث الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي  وبالنسبة للقضاء العسكري بتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية – ولكن تلك الانجازات ان صحت العبارة لا  تعكس حقيقة وجود إرادة سياسية  جادة لإصلاح  القضاء ومن ثمة والقطع مع المنظومة القديمة وإرساء قضاء مستقل طبق ما تقتضيه المعايير الدولية ،فهي في النهاية مجرد  محاولات لم تكن في العمق رغم أهميتها في تلك الظروف السياسية التي عرفتها تونس.

شهدت  المرحلة الانتقالية توتر العلاقات بين مختلف مكونات الأسرة  القضائية خاصة بين القضاة والمحامين واحتدام تلك الأزمات داخل المحاكم غذته النزعة القطاعية، مما اثر سلبا على ثقة العموم في القضاء وفتح المجال واسعا للتراشق بالتهم سواء بين الهياكل الممثلة للقضاة أو هياكل مهنة المحاماة  من جهة أخرى ،في غياب أي إطار مشترك لحل تلك الخلافات  والأزمات المتعاقبة . وتم استغلال وتوظيف المواقع الاجتماعية لمختلف المهن لتبادل التهم والثلب والشتم سواء فيما بين القضاة والمحامين أو بين الهياكل وكانت لها تداعيات سلبية في غياب أي رقابة  على ذلك أو  أية ضوابط .وظل ملف إصلاح القضاء طبق المعايير الدولية  من الملفات الحارقة التي تؤرق السياسيين وامتدت الى المرحلة الدائمة بعد سن دستور 27 جانفي 2014 والانطلاق في إرساء المؤسسات الدستورية التي ستحل محل المؤسسات الوقتية ، فكانت أزمة المجلس الأعلى للقضاء واحتدام الجدل بشان مضمون الاستقلال  وعلاقة القضاء بالسلطة التنفيذية  فكان التوجه العام التراجع عن مضامين استقلال السلطة القضائية التي كرسها الدستور في مشروع المجلس الأعلى للقضاء ،و ألقت تلك الأزمة بظلالها على الساحة السياسية ، وانتهت  تلك الأزمة إلى إسقاط المشروع من قبل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين  وهم ما يعكس فعلا احتدام الجدل السياسي بخصوص  تكريس استقلال السلطة القضائية  والاعتراف بكل مقوماتها طبق ما تقتضيه معايير استقلال القضاء و دون انتقاص ولكن تواصل الحكومة ومن ورائها لجنة التشريع العام في عدم الالتفات إلى مطالب الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وانتهت يوم 20 أكتوبر 2015 بإعفاء وزير العدل محمد الصالح بن عيسى لرفضه مناقشة قانون المجلس الأعلى للقضاء لأنه يتعارض مع قناعاته ومخالف لمشروع الحكومة الأولي، والجدير بالملاحظة أن المرحلة الانتقالية  لازالت أثارها ممتدة بعد سن دستور جديد للبلاد وعدم تمكن السلطات المنتخبة بعد سنة تقريبا من انتخابات مجلس نواب الشعب من إرساء الهيئات الدائمة  من ذلك المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية بعد انقضاء الآجال الدستورية  وهذا ما يعكس فعلا صعوبة المراحل الانتقالية التي تتطلب جهدا مضاعفا ورؤية واضحة ورغبة في إصلاح المنظومة القضائية بعد مرحلة من تجميد ذلك  لأسباب سياسية  بالأساس .

تأجيل إصلاح القضاء وخيار الإبقاء على المنظومة القديمة:

إن أهم ما ميز المرحلة الانتقالية التي عرفتها تونس إبان سقوط النظام الديكتاتوري توجه الحكومات المتعاقبة على قصر الحكومة بالقصبة إلى تأجيل ملف إصلاح القضاء والمحافظة على المنظومة القضائية القديمة  سواء من حيث الأشخاص أو من حيث أدوات إدارة الشأن القضائي ويفسر ذلك بعدم الرغبة في إحداث ذلك التغيير الجوهري في الوظائف باعتبارها أدوات ناجعة للحكم خلال المرحلة الانتقالية و محاولة بسط سيطرة من خلال استغلال الحركة القضائية في تغيير خارطة  الوظائف السامية واستعمال آلية الإعفاء كأداة ناجعة لالتفاف على مطالب الثورة في إصلاح القضاء والقطع مع المنظومة القديمة رغم المعارضة  الشديدة للهياكل الممثلة للقضاة واغلب مكونات المجتمع المدني لهذه التوجهات التي  تتعارض  في جوهرها  مع مبادئ استقلال السلطة القضاء والمعايير الدولة لاستقلال القضاء.

تأجيل إصلاح المنظومة القضائية:

 كانت الحكومات المتعاقبة تتعاطى مع ملف القضاء بكثير من الحذر لما يمثله من ثقل على المستوى السياسي كما لم تكن لهم خيارات سياسية كبرى واضحة لإصلاح المنظومة القضائية والقطع مع المنظومة القديمة ولم تتأثر بتحركات الهياكل المهنية للقضاة(جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة واتحاد القضاة الإداريين  والمرصد التونسي لاستقلال القضاء ) والمجتمع المدني والسياسي ولم تستطع كلها إحداث تغيير في سياسات الحكومات المتتالية بخصوص ملف إصلاح القضاء -الذي يعتبره الكثيرون  الأداة التي تم توظيفها خلال حقبة من الزمن تعكس تنفذ السلطة التنفيذية على كل مفاصله  واستغلاله لضرب الحريات الخاصة والعامة  – ولكن الثابت حسب الوضع السائد أن هناك إرادة سياسية مؤكدة تتجه للإبقاء على النظام القضائي القديم عندما سن المرسوم عدد 14 لسنة 2011 مؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية  واختارت من خلاله السلطة السياسية التباعد عن تلبية مطالب الثورة فيما يتعلق بإصلاح القضاء  وهو ما يعكسه الفصل 17 من المرسوم السابق الذكر الذي نص على انه “تنظم السلطة القضائية بمختلف أصنافها وتسير  وتمارس صلاحياتها وفقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل ”  ويمثل هذا التوجه خيارا سياسيا في الإبقاء تلك المنظومة فيما يتعلق بإدارة الشأن القضائي من تسميات في الوظائف السامية  والنقل  والتأديب.ويفسر المتابعون للشأن القضائي امتناع الحكومات الانتقالية المتعاقبة عن وضع إطار أو رؤية لإصلاح القضاء  بوجود أطماع  في السيطرة على مفاصل الدولة ومن بينها القضاء. كما لم يكن للخطابات “الرنانة ” لسياسيين أثناء الحملات الانتخابية أي اثر في الواقع وكان التوجه نحو استدامة ذلك النظام عند صياغة القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط واظهر الباب الخامس من القانون   الوارد تحت عنوان”السلطة القضائية الانقلاب على الوعود الانتخابية , فتم  تنظيم السلطة القضائية  بفصلين يتيمين مع “الوعد” بإنشاء هيئة وقتية ممثلة تشرف على القضاء العدلي وتحل محل المجلس الأعلى للقضاء  مع الإبقاء على النظام القضائي القديم فيما يتعلق بدائرة المحاسبات  والمحكمة الإدارية  .وتعرض الفصل  22  من القانون السابق الذكر انه ” تمارس السلطة القضائية صلاحياتها باستقلالية تامة” ولأول  مرة  يضع القانون المنظم للسلط العمومية “آلية التشاور” مع القضاة دون الإشارة إلى الهياكل الممثلة تجنبا للدخول في أزمة بعد احتدام الخلاف بين نقابة القضاة التونسيين  وجمعية القضاة التونسيين وبعد ذلك  يصدر المجلس الوطني التأسيسي قانونا أساسيا ينشئ بموجبه هيئة وقتية ممثلة يحدد تركيبتها وصلاحياتها وآليات تكوينها للإشراف على القضاء العدلي تحل محل المجلس الأعلى للقضاء كما يسن المجلس الوطني التأسيسي قوانين أساسية يتولى من خلالها إعادة تنظيم القضاء وإعادة هيكلة المجالس القضائية العليا العدلية والإدارية والمالية وضبط أسس إصلاح المنظومة القضائية طبق المعايير الدولية لاستقلال القضاء إلا أن المجلس الوطني التأسيسي لم يلتزم بتلك الوعود التشريعية المتعلقة بإعادة تنظيم القضاء وإصلاحه وانتهت مرحلة التأسيس بإحداث الهيئة الوقتية  كما نص على ذلك الفصل 23  على انه ” تمارس المحكمة الإدارية ودائرة المحاسبات صلاحياتهما طبقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل والمتعلقة بضبط تنظيمهما ومشمولات أنظارهما والإجراءات المتبعة لديهما وتواصل تجميد إصلاح المنظومة القضائية بعد نجاح أول انتخابات تعرفها البلاد .

الحفاظ على استمرارية المرفق القضائي:

عرف القضاء كغيره من القطاعات بعد الثورة حالة من الإرباك وذلك بعدم انتظام انعقاد الجلسات القضائية نظرا لحالة الانفلات الأمني ولكن الجدير بالملاحظة  أن المرحلة الانتقالية تميزت باستمرار مؤسسات الدولة في أداء دورها ووظائفها واضطلعت المؤسسة القضائية بواسطة موظفيها  وقضاتها باختلاف رتبهم بدورها الجبار لاستمرار المرفق القضائي في أداء وظيفته في تلك الظروف الاستثنائية رغم عديد الصعوبات المتعلقة بإدارة المرفق القضائي وغياب الأمن عن تامين الجلسات وواصل السادة القضاة أداء رسالتهم النبيلة  في تامين استمرارية مرفق العدالة , وفي بعض الأحيان عرضوا حياتهم للخطر بحماية أرشيف المحاكم وساعدوا المواطنين على الوصول لحقوقهم خاصة منها الاستعجالية وفي حالات التأكد القصوى . كما واختارت الحكومات المتعاقبة  الإبقاء على نظام المجلس الأعلى للقضاء المنظم بمقتضى القانون عدد 29 لسنة 1967 والمؤرخ في 14 جويلية 1967 رغمحرصهاعلىتنظيمالسلطتينالتنفيذيةوالتشريعيةمن خلالالمرسومعدد12 لسنة2011المؤرخفي 23مارس2011المتعلقبالتنظيمالمؤقتللسلطالعموميةوسمحذلكبتجميدالوضعالقضائيومواصلةإدارتهعلىالمنوالالسياسيالذيتمرسمهفي ظلالنظام السابقوأمكن لوزارة العدل خلال هذه المرحلة الانتقالية وفي تلك الظروف الاستثنائيةأنتغيرملامحالقضاءالعدلينحوالأسوأعنطريقالنقل والترقياتالفرديةالصادرةعنوزيرالعدلوالتعييناتفيالوظائفالقضائيةالعلياوالتمديدلأصحابها  خارج إطار الحركة القضائية السنوية  والالتجاء  إلى آلية الإعفاءات الإداريةللقضاةالتيشملت 71قاضياوإعدادالحركةالعامةللقضاة2011 والجزئيةفيجانفي2013مباشرةمنقبلوزارةالعدلوإحياءالمجلسالأعلىللقضاءللمصادقةعليهمافي ظروفتستعيدممارساتالنظامالسابق بعد أن عجزالمجلسالوطنيالتأسيسي عنتنفيذالبرنامجالذيوضعه لنفسهبالفصل 22 منالتنظيمالمؤقتللسلطالعمومية.

رفض مطالب القضاة لإدارة الشأن القضائي خلال المرحلة الانتقالية:

لقد ساهم القضاة بمقترحاتهم لإدارة مرفق العدالة خلال المرحلة الانتقالية من خلال ما قدموه من مقترحات عن طريق      المكتبالتنفيذيالشرعيلجمعيةالقضاةالتونسيين فيما يتعلق بإدارة  الشأن القضائي وكانت كلها  دونجدوىوطالبوا بعد 18 يوم من الثورة بإنشاءلجنةقضائيةبصفةانتقاليةتتكون منقضاةمنتخبينلإعدادحركةالنقلوالترقياتفيضوءالتوجهالراميإلىرفعالمظالمالمقترفةفيالفترة السابقةباسمالمجلسالأعلىللقضاء. ولمينقطعالقضاةفيكلمناسبةعنالمطالبةبحلالمجالسالعلياللقضاءبصيغتهاالموروثةعنالنظامالسابق وإنشاءمجالسقضائيةانتقاليةعلىأنقاضهاوخلال المرحلة الانتقالية الأولىلميستجيبفيآخرمقابلةمعالمكتب التنفيذيبتاريخ 22 أوت2011 الوزير الأول آنذاك  الباجي القايد السبسي لطلبإنشاءمجلسأعلىللقضاءانتقالي ولم  تتم الاستجابة أيضالدرسالنقاطالواردةفيالمذكرةالأخيرةالمرفوعةللوزيرالأولقبلشهرينتقريبامنانتخابات 23 أكتوبر2011 وخصوصافيمايتعلقبضرورةتنظيمالمجالسالعلياللقضاءبجميعأصنافهاالعدلي والإداريوالماليبصفةانتقاليةوذلكباقتراحنصوصخاصةتتعلقباختصاصتلكالمجالسوتركيبتهاوطرقانتخابهاتحقيقالمقتضياتالإدارةالذاتيةللقضاءكمظهرمنمظاهرالحكمالرشيدبماسيؤديإلىحل المجالسالعلياالموروثةعنالنظامالاستبداديوتنظيمشؤونالقضاءوالقضاةفيالفترةالانتقاليةالقادمةفي انتظارإقرارالمبادئالدستوريةوالإصلاحاتالتشريعيةبصفةنهائية. ولم تعرف المرحلة الانتقالية استقرار في الأوضاع مطلقا وكان الجدل محتدما والتوظيف السياسي قائما بين السلطة التنفيذية (حكومة الترويكا) والمعارضة  والقضاة من جهة أخرى وقد تأججت من جديد الخلافات وتوترت العلاقة بين وزارة العدل والقضاة بعد إقدام وزارة العدل يوم 26 ماي 2012 على إعفاء مجموعة من القضاة  بقرار فردي من وزير العدل نور الدين البحيري.

إعفاء عدد من القضاة العدليين:

إن تجميد إصلاح القضاء كان الخيار السياسي الطاغي على المرحلة الانتقالية التي عرفها القضاء وكان من نتائجها تمكين السلطة التي حلت محل النظام الاستبدادي في استعمال نفس أساليبه ,بالرغم من أن النظام المستبد لم يلتجأ إلى آلية الإعفاء  وكان يقع إجبار القضاة في حالات معينة على تقديم استقالاتهم  وفي حالات أخرى تكون عقوبة العزل باستعمال مجلس التأديب المنصب  ونشير في هذا السياق إلى قضية المرحوم القاضي مختار اليحياوي الذي تعم عزله بعد توجيهه رسالة للرئيس يبن فيها الوضع الذي آل إليه القضاء التونسي.

أثارت قضية إعفاء مجموعة من القضاة في  26 ماي 2012 بقرار فردي من وزير العدل نور الدين البحيري في حكومة الترويكا  (حركة النهضة والمؤتمر من اجل الجمهورية وحزبالتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات )ردود فعل قوية داخل الوسط الحقوقي والقضائي كما  كان له تداعيات سلبية على الأسرة القضائية و ثقة الناس عموما في القضاء .ولما مثله ذلك القرار من حط من اعتبار السادة القضاة  ومن سهولة استهداف القضاة خارج كل الضمانات القانونية التي يقتضيها استقلال القضاة , والغريب أيضا ما رافق ذلك من تصريحات سياسية  لتبرير تلك العملية ما صرح  به وقتها المستشار الخاص لوزير العدل  الأستاذ الفاضل السايحي عبر قناة «الجزيرة» في نفس اليوم أن الوزارة ضبطت قائمة في القضاة الذين تم إعفاؤهم من مهامهم وشطبهم وعددهم 82 قاضيا من مختلف الرتب دون ذكر الأسماء أو الأسباب.وتم توجيه قائمات أسمية إلى مختلف المحاكم داخل الجمهورية دون سابق إعلام وفي أقصى الحالات تم الاتصال هاتفيا ببعض القضاة الذين شملتهم قائمة الإعفاء وإعلامهم بالقرار المتخذ ضدهم وقد صرح وزير العدل نور الدين البحيري أن سبب الإعفاء هو أن هؤلاء القضاة «تورطوا في عمليات فساد إداري وفساد مالي وفساد أخلاقي» وبعد أن توترت العلاقة معه الهياكل المهنية الممثلة للقضاة  وهي جمعية القضاة التونسيين  ونقابة القضاة التونسيين  تم فُتح أجل ثلاثة  أيام للاعتراض على تلك القرارات الجائرة التي ضربت في الصميم وحدة الصف القضائي ولم تكن التبريرات التي قدمها وزير العدل حينها ومستشاره  قد أقنعت المتابعين خلافا لما كان يقتضيه القانون عدد 29 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بتنظيم السلطة القضائية وسلك القضاة وخاصة الفصل 42 منه الذي يحيل على قانون الوظيفة العمومية المؤرخ في 12 ديسمبر 1983 والمتضمن لآلية الإعفاء وهي آلية يلجأ إليها رئيس الإدارة العمومية لإعفاء الموظف العمومي في صورتين:

–        إما لسبب القصور المهني .

–        أو العجز البدني وليس له الحق في الإحالة على التقاعد.

تولت الحكومة كرد فعل على إسقاط مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء من إجراء الخصم الآلي من مرتبات القضاة بمختلف رتبهم ووظائفهم المستحقة في شهر جوان 2015 والذي شمل ثلث المبالغ الراجعة لهم فيما يعادل 7 أيام عمل (الإضراب كان لمدة 5 أيام ) بقرار صادر عن مجلس الوزراء المنعقد في 20 ماي 2015 والمتضمن «تفعيل قاعدة العمل المنجز وفقا للقوانين الجاري بها العمل وهذا الخصم قد تمّ بصفة آلية وعامة وبأسلوب لا يليق بموقع السلطة القضائية ومكانتها وبصيغة تدعو الى اهتزاز الثقة في القضاء فضلا عن اتخاذه دون إعلام مسبق وفي غياب الضمانات التي تقتضيها حتى الأحكام التشريعية المستند إليها في إجراء الخصم كثبوت مشاركة القضاة المعنيين بقرار الخصم في الإضراب أو ثبوت غيابهم دون تبرير طبقا للتشريع الجاري به العمل. وقد اكتسى قرار الخصم صبغة عقابية وشمل عموم القضاة خلافا للمبدأ الدستوري الذي يمنع تسليط العقوبات الجماعية ويقر أنّ العقوبة شخصية (الفصل 28 من الدستور).

وأنّ هذا الخصم الجماعي من مرتبات القضاة يعدّ إجراء غير مسبوق مقارنة بالإجراء الذي سبق تسليطه بداية من أواخر سنة 2005 كعقاب فردي لعدد من أعضاء الهيئة الشرعية لجمعية القضاة التونسيين على خلفية تحركاتهم بعد الانقلاب على الجمعية وتطور المواجهة بينها وبين السلطة.

قد يختلف الكثيرون في وضع إطار زمني للمرحلة الانتقالية بداية ونهاية ويمكن القول بصفة عامة أنها المرحلة التي تلي سقوط النظام الاستبدادي وتليه إلى حين إرساء المؤسسات الدائمة المتعلقة بإرساء المجلس الأعلى للقضاء الذي لا يكرس استقلالية القضاء والمحكمة الدستورية وما تطرحه من جدل حول احترام الدستور الجديد ولكن في خضم الانتقال حصلت تغييرات وان لم تكن جوهرية ولكنها ساهمت في تواصل الانتقال السلمي وتواصل المؤسسات واستمرار مرفق العدالة.

 –   بوادر تغيير الوضع القضائي القائم خلال المرحلة الانتقالية وتوتر العلاقات:

أدت التحركات والضغوطات التي خاضها القضاة ومختلف مكونات المجتمع المدني إلى إقرار تعديلات وإنشاء هيئات وقتية سواء فيما يتعلق بالقضاء العدلي بإنشاء هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي بمقتضى بتفعيل الفصل 22 من القانون المنظم للسلط العمومية وسن القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 مؤرخ في 02 ماي 2013 وقد سبق ذلك قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي تنقيح مجلة المرافعات والإجراءات العسكرية بمقتضى المرسومين 69 و 70 المؤرخين في 29 جولية2011.

  • إرساء المؤسسات الوقتية وتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية:

تجربة الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي:

نجح المجلس الوطني التأسيسي بعد إسقاط مشروع أول لتنظيم الهيئة في إحداث هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي مع تجميد الوضع القانوني للمحكمة الإدارية ودائرة المحاسبات والسكوت عن القضاء العسكري في احداث الهيئة الوقتية للاشراف على القضااء العدلي بالقانون القانون الأساسي عدد 13 مؤرخ في 02 ماي 2013 والمتعلق بإحداث هيئة وقتية للاشراف على القضاء العدلي و تتركب هذه الهيئة من 20 عضوا تتوزع بين أغلبية منتخبة من مختلف الرتب القضائية وأقلية معينة وتبرز هذه التركيبة الحضور البارز للقضاة المنتسبين للرتبة الثالثة 8 قضاة من 15 عضو من القضاة في مقابل تمثيل مناسب لغير القضاة عن طريق الأساتذة الجامعيين في القانون من بينهم محاميان لدى التعقيب ورغم إبقائه على عدد من الامتيازات غير المبررة لوزير العدل فقد اعترف القانون الأساسي المؤرخ في 2ماي 2013 للهيئة الوليدة بتسعة اختصاصات تقريرية تتعلق بالمسار المهني للقضاة إضافة إلى الاختصاصات الاستشارية الخاصة بإبداء الرأي وتقديم الاقتراحات في مجال إصلاح القضاء. وتشمل الاختصاصات الرئيسية المحالة إلى الهيئة الوقتية تسمية الملحقين القضائيين وتسمية القضاة و ترقيتهم و نقلتهم وتأديبهم ورفع الحصانة عنهم والنظر في مطالب الإحالة على التقاعد المبكر ومطالب الاستقالة والتظلمات من قرارات الترقية و النقلة والتسمية بالخطط الوظيفية. وبقطع النظر عن دائرة اختصاصها فان أهمية الهيئة تكمن في رمزية تمثيلها- على الأقل بصفة انتقالية – للسلطة القضائية التي بقيت في ظل الحكم الاستبدادي مغيبة عن الوجود و معزولة عن أية تمثيلية هيكلية في مستوى السلطتين التنفيذية و التشريعية. ويبرز ذلك على الأقل في عدم إمداد المجلس الأعلى للقضاء بمقومات الوجود كهيكل مستقل عن وزارة العدل سواء من حيث مقره أو إدارته أو طرق عمله واستعماله كواجهة سياسية في المناسبات الاحتفالية كالاجتماعات الدورية بقصر قرطاج عند إعلان الحركة القضائية أو افتتاح السنة القضائية بقصر العدالة بتونس وكان من الضروري أن يتم بناء هيئة مستقلة تقطع مع تبعية القضاء للسلطة التنفيذية و تنتصب ممثلة لسلطة حقيقية من سلطات الدولة تختلف في طبيعتها عن تمثيلية القضاة لمصالحهم المادية أو المعنوية في إطار الجمعيات أو النقابات.ورغم أن تلك الهيئة وفي بداية تجربتها بدأت تصطدم في سياق أزمة سياسية خانقة بتحديات واقعية تتعلق بوجودها و ضمان استقلالها وإشرافها على القضاء العدلي بما في ذلك الإشراف على المسار المهني للقضاة إضافة إلى التحديات الخاصة بطبيعة علاقتها معالسلطة التنفيذية ووزارة العدل.

والجدير بالملاحظة ان التحويرات الصادرة هي ضمانات منقوصة ويبقى جهاز النيابة العمومية العسكرية مرتبط إداريا بوزارة الدفاع ومثال ذلك قضية أيوب المسعودي المستشار السابق لرئاسة الجمهورية إذ لم يتم التتبّع إلا بناء على شكاية رفعها الجنرال رشيد عمار رغم إلغاء الأمر بالتتبع الذي يصدر عن وزير الدفاع لانطلاق أعمال التتبع.

لم تؤدي تلك التغييرات سواء على مستوى إدارة الشأن القضائي-القضاء العدلي- أو تلك التنقيحات المدخلة على القضاء العسكري وما اعترض الأولى من صعوبات في ممارسة دورها الذي خصها به القانون وما اتسمت به الثانية من محاكمات لم ترقى إلى المأمول فيما يتعلق بقضايا شهداء الثورة التونسية التي مثلت صدمة للعائلات وللمتابعين وهزت ثقة الناس في القضاء بحكم التوترات التي حصلت بين مكونات الأسرة القضائية والسلطة خلال المرحلة الانتقالية والتي امتدت إلى المرحلة الدائمة برز خلال المرحلة الانتقالية تطور الحركة النقابية القضائية و تمكن القضاة من تأسيس نقابات والظهور الإعلامي لمناقشة بعض القضايا التي تشغل الرأي العام فيما يتعلق بالأداء القضائي وكذلك تطورت حرية التعبير في الوسط القضائي باستعمال مكثف للمواقع التواصل الاجتماعي وما مثله من انتقال من واقع مغلق إلى واقع مفتوح وهنا تطرح مسالة حرية التعبير التي يمارسها القضاة بوجه خاص بالنظر إلى وضعهم الاجتماعي ونظرة الجمهور لهم وبقطع النظر عن تقييم تلك المشاركة فانه مكنت إلى حد بعيد من رفع الغطاء عن غرفة القضاء المغلقة .

  •    حرية التعبير للقضاة وبروز الحركات النقابية في الوسط القضائي :

–   حرية التعبير للقضاة أية ضوابط ؟

تميزت المرحلة الانتقالية بانفتاح القضاة على محيطهم من خلال المشاركة العامة عن طريق الجمعيات وإدلائهم بآرائهم سواء فيما يتعلق بالشأن القضائي والشأن السياسي وانشئوا عديد الصفحات تضم عدد لا باس به من المتابعين وان كانت التعاليق التي يكتبونها تعبر عن مشاغلهم الوظيفية ونقدهم للسائد وطموحهم في تغيير ظروف عملهم ومطالبهم بشان استقلال السلطة القضائية إلا ان خطورة تلك التعاليق أو التدوين على الصفحة الخاصة وكذلك إدلاء القضاة بتصاريح للصحافة المكتوبة والمسموعة أو كتابة مقالات غير متخصصة أو الاشتراك في صياغة بيانات ذات طابع سياسي أو جدلي يوحي للمتابعين بأن للقاضي وجهة نظر معينة أو موقف معين تجاه قضية ما ، أو موضوع ما وقد يؤدي إلى الاعتقاد أن القاضي لن يكون حيادي في قضية ما قد تعرض عليه لأنه سبق أن أعطى رأيه ومارس ضغوطا داخلية على المحكمة باعتباره جزءا منها ويعتقد انه تدخل في إطار إرجاع هيبة القضاء أو الدفاع عن القضاة بنظرة قطاعية ضيقة كأنما السلطة القضائية منحصرة في القضاة فقط او هي من متعلقات الوظيفة التي يمارسونها طبق ما خولهم الدستور والأخطر من ذلك أن رأي القاضي أو موقفه الذي قيل خارج أسوار المحكمة سواء بمناسبة نظر قضية يكون فيها القاضي طرف خاصة بعد بروز النفس النقابي وتعدد الهياكل وأصبح للقضاء المتضرر فرصة لإبراز التضامن معه وانتقاد بقية الهياكل أما لضعفها أو لان من ينتقدها لم يستطع أن يشارك في تكوين رأي أو الدفاع عنه صلبها وهكذا تتحول القضية من دائرة متعهدة إلى عراك وتبادل اتهامات على الصفحات كل يبرز بطولاته وقدرته على النجاح خارج أسوار ما كان موجودا ويغيب عن الأذهان أن تلك المواقف المتشنجة أو غير المتخصصة بحكم التجربة وطبيعة العالم المفتوح قد تؤثر في ثقة العموم والمتقاضيين في القضاء والقضاة باعتبار أن الأسلوب الجديد الذي ينتهجونه بسبب مشاركات بعضهم أو تصرفاتهم الغير مسؤولية في بعض التصريحات -والتي لا تعكس في كثير من الأحيان دراية ونضج كافيين في التعامل مع هكذا وضعية- التي تتطلب تباعدا كافيا احتراما لمعايير المحاكمة العادلةومن المهم أن يبقى أولئك الذي يحملون على عاتقهم حل المشاكل القانونية خارج ميدان الجدل العام إلا إذا كان لديهم مساهمة حقيقية في قضية مهمة و خاصة.إن مكانة القاضي في المجتمع و واجباته والتزاماته المهنية تفرض عليه أن يكون حذرا في إبداء رأيه في القضايا الجدلية لأن آرائه ومواقفه تؤخذ بجدية وينظر لها من زاوية مكانة هذا الأخير في المجتمع فقد يحصل لبس أو التباس في المواقف بشان ما صرح به لوسائل الإعلام المكتوبة أو المرئية في غياب دراية او تدريب كافي في التعامل مع وسائل الإعلام.ويجر دخول القضاة في الجدال الحاصل داخل المجتمع حول قضية ما تشغل الرأي العام بالضرورة إلى بيئة جدلية لا يحكمها ذلك النظام الذي يتعامل معه القاضي عندما ينتصب للقضاء او عند نظر القضايا والذي يتمتع من خلاله باستقلالية وحصانة هما، بالضرورة، مفقودتين في مجال مناقشة القضايا التي تطرح وخاصة في مراحل الانتقال وغياب أجهزة الرقابة والتعديل في غياب أي ضوابط خلال المراحل التي تعرفها الدول التي تمر بانتقال ديمقراطي والتي تعرف اضطرابات وتجاذبات سياسية حادة ,ولذلك نجد أن مشاركة القاضي بآرائه في الشأن العام قد أرقت فقهاء القانون في مجتمعات أخرى، حرصا على مكانته واستقلاله وحياديته.

فعلى سبيل المثال وضعت المحكمة العليا لولاية لويزيانا في الولايات المتحدة أربعة مرتكزات على القاضي الانتباه إليها قبل مشاركته برأيه هذه العوامل هي:

ماهية الموضوع/ المشكلة

درجة اهتمام الرأي العام بالموضوع والجدل الذي يثار حوله

شكل المشاركة

الجمهور الذي يتوجه إليه القاضي بالخطاب .

وأدت تلك المشاركة في الشأن العام إلى تنوع المشهد القضائي من حيث مساهماته في الشأن الوطني وخاصة في القضايا الأساسية التي تعرفها البلاد رغم احتراز عدد مهم من المتابعين على تلك المشاركة بدواعي خروج القضاة عن الحياد وواجب التحفظ.

ظهور الحركة «النقابية « بمختلف فروع القضاء.

عرفت المرحلة الانتقالية تأسيس نقابة للقضاة التونسيين و احتدام الصراع بين جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة التونسيين مما أدى إلى خلق جو من الاحتقان بين القضاة.ولكن ذلك لم يمنع النقابة المؤسسة حديثا في مقابل جمعية القضاة التونسيين من النشاط واخذ مساحة في المشاركة فيما يتعلق بالدفاع عن القضاة واستقلال السلطة القضائيةوخوض المعارك أحيانا جنبا إلى جنب مع جمعية القضاة التونسيين خاصة في بعض الوقفات الاحتجاجية أمام المجلس الوطني التأسيسي رغم معارضة النقابة الشديدة لإنشاء هيئة وقتية للقضاء العدلي وإصدارها بيان يقاطع المشاركة في الانتخابات انتخابا وترشحا . وتأسس أيضا بالمحكمة الإدارية اتحاد القضاة الإداريين و نشأة جمعية للقضاة الشبان في سنة 2015 التي أسسها مجموعة من القضاة و اتحاد قضاة دائرة المحاسبات ويتنوع المشهد القضائي من الداخل ومن الخارج بظهور المرصد التونسي لاستقلال القضاء في28 فيفري 2012 وهو جمعية حقوقية علمية تضم في هياكلها مختلف مكونات الأسرة القضائية ولا تمثل القضاة ومن بين مؤسسيه الرئيس احمد الرحموني الرئيس الشرفي لجمعية القضاة التونسيين ويهدف بالأساس إلى الدفاع عن استقلال القضاء من خلال آليات الرصد والتقصي وإصدار التقارير الدورية المتعلقة بالضغوطات والانتهاكات في مجال استقلال القضاء.

ومما لاشك فيه أن مشاركة القضاة في الشأن العام لها عديد المزايا ولكن قد تكون لها منزلقات خطيرة فيما يتعلق بنظرة الجمهور للقضاء بصورة عامة وللقضاة بصفة خاصة خلال مراحل الانتقال السياسي وما تعرفه الدولة من ضعف على جميع المستويات وخاصة الأمني والسياسي . لم يغب القضاة عن المشاركة في مرحلة الانتقال السياسي الذي عرفته البلاد سواء كأفراد أو كمنظمات من خلال جمعية القضاة التونسيين وهي تجربة مهمة تعكس وعيا بضرورة المشاركة في البناء والانتقال الديمقراطي السلمي الذي تعرفه البلاد.

 –مشاركة القضاة في مؤسسات الانتقال السياسي:

 مثلت مشاركة القضاة في الحياة العامة تحولا مهما في علاقتهم بمحيطهم السياسيي وعيا منهم بضرورة الإسهام في إنجاح عملية الانتقال السياسي وبناء المؤسسات ونذكر هنا بعض التجارب التي ليست من ذلك تجربة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي تأسست 15 مارس2011 وتجربة لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة.

 تجربة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي:

 كانت مشاركة القضاة في الحياة العامة وخاصة مؤسسات الانتقال السياسي عن طريق جمعية القضاة التونسيين تحولا مهما واعترافا بما قامت به جمعية القضاة التونسيين أثناء فترة الحكم الاستبدادي عن طريق المكتب الشرعي للجمعية.ولا شك أن هذه المشاركة برغم أهميتها لم ترق للمتابعين للشأن القضائي وخاصة القضاة لما اعتبروه خروج عن الحياد وممارسة نشاط سياسي كما اعتبروا أن تلك المشاركة تعد خروجا عن واجب التحفظ والحياد الذي يتمتع به القضاة.

وتعتبر مشاركة القضاة رغم قصر مدتها وذلك بإصدار أهم النصوص التي نظمت المرحلة الانتقالية ومهدت للانتخابات من ذلك المرسوم عدد 116 الـمؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري ومرسوم عدد 91 لسنة 2011 مؤرخ في 29 سبتمبر 2011 يتعلّق بإجراءات وصيغ ممارسة رقابة دائرة المحاسبات على تمويل الحملة الانتخابيّة لعضويّة المجلس الوطني التأسيسي. والمرسوم مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلق بتنظيم الجمعيات الخ ……إلا أن تلك التجربة التي خاضها القضاة خارج أسوار المحاكم بالمشاركة بهيئة سياسية لم تعمر طويلا بعد ان انسحاب جمعية القضاة التونسيين على خلفية تحريف الفصل 8 من المرسوم المتعلق بإحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات واعتبرته جمعية القضاة التونسيين اعتداء مكشوفا على إجماع الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ومحاولة للالتفاف على تمثيلية القضاة بالهيئة العليا للانتخابات ومساسا بشروط الحياد والاستقلالية والنزاهة المستوجبة لعضوية تلك الهيئة وتم الإعلان في بيان عن انسحاب جمعية القضاة التونسيين ممثلة في رئيسها نهائيا من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بعد مرور أكثر من أسبوع على تعليقها لعضويتها بها دون أن يقع إصدار المرسوم التصحيحي.و أبدى المكتب التنفيذي أسفه من اضطرار الجمعية للانسحاب من الهيئة وعدم تقديمها لمرشحيها من القضاة لعضوية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات موضحا أن لا علاقة لها بمن سيتم ترشيحه أو انتخابه من القضاة لعضوية هذه الهيئة

ينص الفصل الثامن من مرسوم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تولت على تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي على دعوة كل من نقابة القضاة التونسيين وجمعية القضاة التونسيين إلى اقتراح ستة قضاة على أن تختار الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة ثلاثة منهم لعضوية الهيئة العليا المستقلة وقد أثار هذا الفصل في صيغته تلك احتجاجات جمعية القضاة التي رأت أنها الطرف الشرعي الوحيد المخول لتقديم مرشحين عنه لعضوية الهيئة العليا المستقلة بالرغم من تعبير الهيئة التأسيسية لنقابة القضاة عن امتناعها عن تقديم مرشحين لهيئة الانتخابات .

–  تجربة لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة .

بموجب المرسوم عدد 7 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فيفري 2011 تم إحداث هذه الهيئة وتختص الهيئة بالتحقيق وجمع المعلومات عن  الفساد والرشوةفي عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وكل ما يمسه الفساد في جميع أجهزة الدولة مثل المجال العقاري والأراضي الفلاحية وأملاك الهياكل العمومية والصفقات العمومية والمشاريع الكبرى ومجالات الخوصصة والاتصالات والقطاع السمعي البصري والقطاع المالي والبنكي والرخص الإدارية والديوانة والجباية والإدارة والانتدابات والبحث العلمي والتوجيه الجامعي والقضاء والمحاماة قدمت الهيئة في 11 نوفمبر 2011 تقريرها النهائي في أكثر من 500 صفحة موثقا بكل التجاوزات وقدمت الهيئة أكثر من 000 11 قضية فساد لمختلف المحاكم. وبعد انطلاق هذه الأخيرة في نشاطها وصدور المرسوم المنظم لمهامها تحت عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 تعرضت هذه اللجنة إلى ضغوط كثيرة منها رفض القضاة عن طريق هياكلهم الممثلة إحداث هذه اللجنة يعد اعتداء على اختصاصات القضاء لأنها لجنان إدارية غير مستقلة تم تعيين أعضائها من قبل السلطة التنفيذية. إضافة إلى أن إحداثها تم اتخاذه بقرار سياسي أعلن عنه الرئيس السابق يوم 12 جانفي 2011 وتعهد الوزير الأول حينها بتجسيمه من خلال الكلمة التي ألقاها في ظل ذلك النظام مساء يوم الجمعة 14 جانفي 2011 عند تنصيبه لنفسه رئيسا للجمهورية بالنيابة بعد هروب بن علي وتبقى نتائج أعمالها مهمة في توثيق تلك الانتهاكات وقد تساعد هيئة الحقيقة والكرامة والدوائر القضائية المتخصصة التي تم إحداثها على كشف الحقيقة بقطع النظر عن الاحترازات التي رافقت إحداثها وأعمالها.

وقد شارك القضاة بصفاتهم أو باقتراح من جمعية القضاة التونسيين في مؤسسات الانتقال السياسية من ذلك الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وكذلك هيئة الاتصال السمعي والبصري وتعتبر تلك المشاركة مهمة بالنظر إلى الوضع الذي كان تعيشه البلاد خلال تلك المراحل وفي غياب المؤسسات الدستورية.

-أزمة العلاقات بين القضاة والمحامين:

لم يكن الشأن القضائي بمعزل عما يحصل من تداعيات سياسية في البلاد ولا شك أن غياب القضاة على المستوى السياسي وفي مراكز القرار جعلهم يشعرون بأنهم مستهدفون بعد أن كان رفقاؤهم بالأمس من المحامين يمسكون بدواليب السلطة خاصة بعد سقوط النظام وهروب الرئيس المخلوع وعلى سبيل المثال كانت للمحامين أهم الوظائف في البلاد خلال تلك المرحلة (وزارة العدل، رئاسة الحكومة، رئاسة الجمهورية) وما أزم تلك العلاقات صدور المرسوم المتعلق بتنظيم مهنةالمحاماة وما أثاره من جدل داخل الوسط القضائي وما رافقه من احتجاجات أدت إلى تعطل المرفق القضائي وارتفاع منسوب الخلافات في غياب أي إطار مؤسسي لفض تلك الخلافات نظرا لما تعيشه البلاد من أوضاع سياسية خانقة.

فقد انتهجت الهياكل المهنية عند كل أزمة تحصل بين جناحي العدالة إلى التأكيد على “الاحتقان والتوتر بين القضاة وتزيد “حرب البيانات” المتبادلة تغذية الأزمة بخطاب قطاعي يبرز المفاخر ويغيب الحلول المشتركة من خلال تبادل الاتهامات والتأكيد على حصانة المحامي وتشير النزعة القطاعية إلى المواقف الداعية بصفة مبدئية إلى حماية مصالح القطاع أو المجموعة المهنية، وتبرز هذه النزعة في علاقات القضاة والمحامين من خلال تهميش الحلول المشتركة و”التباهي” بالمفاخر المرتبطة سواء بوظيفة القضاء أو المحاماة.

إن الهياكل الممثلة للطرفين لم تتمكن من تطويق الأزمات الطارئة والأزمات المتعاقبة وانتهت نقابة القضاة التونسيين إلى إعلان الإضراب عن العمل يوم 21 ماي 2013 بدائرة المحكمة الابتدائية بباجةوهو ما وافقت عليه جمعية القضاة التونسيين – وتأخير كافة القضايا على حالتها لموعد لاحق وذلك خلال الأسبوع الممتد من 20 ماي 2013 إلى 24 ماي 2013 .

وفي مقابل ذلك قرر مجلس الهيئة الوطنية للمحامين تنفيذ إضراب احتجاجي بكافة محاكم الجمهورية يوم 23 ماي 2013 (بيان 21-5-2013 ) وهو ما يمثل قطعا لسبل الاتفاق على حل مشترك بين الطرفين.

ورغم ما أعلنت عنه جمعية القضاة التونسيين من تعليق القرار المتخذ في 20 ماي 2013 بتأخير كافة القضايا على حالتها لموعد لاحق “وذلك لفسح المجال لتطويق الأزمة في نطاق الهيكلين الممثلين للطرفين” تؤدي مظاهر الانطواء على الذات وفرص المواجهة بين الخصوم إلى العمل على إبراز الصفات والمزايا سواء في معرض الدفاع عن النفس أو التنازع بين الطرفين.

ويلاحظ في علاقات القضاة والمحامين تمسك كل طرف بامتيازات وظيفته وتأكيد المحامين خصوصا على مساهمة هياكلهم في دعم استقلال القضاء والدفاع على القضاة. ويلاحظ أن الأسباب المرتبطة بالخلافات بين القضاة والمحامين وبصفة عامة بتطور العلاقات بين أصحاب المهن القضائية لم تخضع إلى الآن لأية دراسة موضوعية أو استبيانية لتقصي اتجاهات المعنيين والوقوف على طبيعة التفاعلات الموجودة بينهم.

ورغم الجهود التي يبذلها دون شك عدد كبير من القضاة والمحامين لإرساء سبل التعاون والعلاقات الودية إلا أن تدهور علاقات المحامين بالقضاة وبروز ذلك بصفة جلية على المستوى الإعلامي يرتبط بجملة من الأسباب الرئيسية المتعلقة بالأزمات الهيكلية وبغياب الثقافة المشتركة وبالسلوكيات الشخصية من الثابت أن العلاقات بين الهياكل المهنية للقضاة والمحامين في فترة النظام الاستبدادي كانت متأثرة بما عرفته العدالة من هيمنة للإدارة وإلغاء دور القضاء وإنكار التكامل بين القضاة والمحامين إضافة إلى ما شهدته الفترة السابقة للثورة من مساس بحق المحامين في ممارسة مهامهم بصفة مستقلة.

وقد ترتب عن ذلك إرساء نظام وصاية مكّن السلطة التنفيذية ممثلة بصفة أصلية في وزارة العدل من مراقبة علاقات القضاة بالمحامين والعمل على قطع الصلات بما يضمن الإبقاء على تبعية المؤسسة القضائية والفاعلين فيها.إلا أن مخلفات النظام الاستبدادي وغياب الرؤية المشتركة وانقطاع العلاقات بين الطرفين لمدة طويلة قد مثلت في الفترة اللاحقة للثورة أهم العوائق التي لم تساعد على بناء علاقات متطورة بين الطرفين. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أمثلة ثلاثة على الأزمات الهيكلية التي ساهمت بصورة متفاوتة في تغذية الاختلافات بين القضاة والمحامين. كانت الأزمة الناتجة عن إعادة تنظيم مهنة المحاماة واستصدار مرسوم بتاريخ 20 أوت 2011 بإجراءات استثنائية وفي فترة انتقالية من أهم الأسباب التي دفعت الفريقين إلى الصدام. وقد أثارت مصادقة الحكومة المؤقتة على مشروع المرسوم جدلا واسعا لدى الخبراء المحاسبين وعدول الإشهاد والقضاة، واعتبرت جمعية القضاة التونسيين أن الظروف الحافة بالمصادقة قد اتسمت “بالسرعة وغياب العلنية وتجاهل جميع المعنيين” ونبهت إلى أن التوجه بصفة معزولة إلى تنظيم مهنة المحاماة قبل إرساء المبادئ الدستورية للسلطة القضائية وحق الدفاع وتأجيل النهوض بالأوضاع المتأكدة للعدالة والمهن المرتبطة بها لا يمثل المدخل الملائم للانتقال الديمقراطي ودولة القانون وأكدت أن حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية تقتضي تكامل استقلال القضاة والمحامين بوصفهما جزئين من نظام واحد للعدالة (بيان صادر في 23 جوان 2011).

كما اعتبرت نقابة القضاة التونسيين أن إصدار المرسوم يمثل سابقة تشريعية مشوهة ويكرس مصالح قضائية ضيقة (وكالة تونس إفريقيا للأنباء 29 أوت 2011) ودعت قبل المصادقة على المرسوم إلى الإضراب عن العمل(وكالة تونس إفريقيا للإنباء 2 جويلية 2011) وكانت حصانة المحامي من ابرز المسائل التي أثارت حولها الجدل.ويستند ذلك إلى التجاهل أو الإنكار المتبادل للمبادئ التي تحكم كل وظيفة وهو ما يقتضي بالأساس ضرورة الإقرار باستقلالية كل طرف وبالحقوق الراجعة له: يستوجب إقرار نظام سليم للعدالة وحماية حقوق الإنسان العمل على تدعيم استقلال المحامين بنفس القدر المطلوب لاستقلال القضاة وحيادهم على اعتبار أن استقلال المحامين واستقلال القضاة يكمل كل منهما الأخر بوصفهما جزئين من نظام واحد. ويقتضي استقلال مهنة المحاماة أن يتمكن المحامي من أداء دوره في الدفاع عن موكليه وتمثيلهم بما يتماشى مع معايير مهنته بدون قيود أو ضغوط أو تهديدات أو تدخل من أية جهة كانت، وعلى هذا الاعتبار فان احترام استقلالية المحامي تتضمن الإقرار له بذلك سواء في مواجهة موكليه أو القضاة وعدم إلزامه بإرضاء الطرفين عند ممارسته لعمله.

كما يقصد باستقلال القضاء أن يكون القاضي حرا في الحكم طبقا لفهمه للقانون وإدراكه للحقائق بعيدا عن أي تأثير أخر سواء بالترغيب أو الترهيب أو الضغوط المباشرة أو غير المباشرة من أية جهة كانت ولأي قصد، ويترتب عن ذلك أن جميع المؤسسات والسلطات والهيئات وطنية كانت أو دولية يجب عليها أن تحترم هذه الاستقلالية وتحميها وان يمارس القاضي وظيفته باستقلال تام سواء في علاقته بجميع القوى الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو في علاقته بزملائه أو ببقية المهن القضائية أو إدارة القضاء. وبالنظر إلى أن المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل وتدافع عن الحريات والحقوق الأساسية (الفصل الأول من المرسوم عدد 79 لسنة 2011 المؤرخ في 20 أوت 2011 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة)، فان ذلك يتضمن بالضرورة أن المحامين وممثلي مهنة المحاماة والجمعيات المهنية للمحاماة عليهم أن يعملوا على ضمان استقلال القاضي والمحامي ضمانا للعدل وحقوق الإنسان, و يلاحظ أن القانون لم يهتم بتنظيم العلاقات المهنية بين القضاة والمحامين ولم يخضع الخلافات المثارة بينهم إلى قواعد خاصة وبسبب التباعد بين الطرفين وعدم النجاح في إرساء آليات ناجعة لفض النزاعات سيطرت على علاقات الطرفين ردود الفعل التلقائية عند حصول الأزمات.وقد مثلت البيانات العلنية والجلسات العامة والتحركات الجماعية إحدى البدائل المتاحة في غياب المؤسسات المشتركة.

يعرف القضاء كغيره من القطاعات خلال المرحلة الانتقالية أي تغيير جوهري يذكر عدا ما يتعلق بإنشاء الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية – واستمرت حالة التجميد التي يعتبرها اغلب المتابعين للشأن القضائي خيارا سياسيا يعكس عدم الرغبة في إصلاح القضاء والقطع مع المنظومة القديمة فيما يتعلق بإدارة العدالة، رغم أن الدستور نقل القضاء حسب النص الجديد لباب السلطة القضائية من قضاء تابع إلى قضاء مستقل بكل الضمانات القانونية -للهياكل المسيرة للمجلس الأعلى للقضاء الذي يضم بقية مجالس القضاء، عدلي ومالي وإداري -وتنظيم القضاء العسكري من حيث إقرار عديد الضمانات المتعلقة بالقضاة من حيث نقلتهم وتأديبهم وترقيتهم استمرت حالة التجميد بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتقال تونس من المرحلة الانتقالية الأولى إلى المرحلة الانتقالية الثانية.

 وعجز مجلس نواب الشعب عن إرساء المجلس الأعلى للقضاء وكذلك المحكمة الدستورية في تشبث غريب على اختيارات تتعارض مع ما اقره الدستور الجديد لتونس وبإصرار يعكس حقيقة خشية الطبقة السياسية التي وصلت للحكم من استقلال القضاء وتحاول قدر الإمكان ترك الإمكانات القانونية مفتوحة للتدخل فيه والتأثير عليه وأدى ذلك إلى شن حملات التشويه عند معالجة القضايا التي تهز أحيانا الرأي العام كقضايا الإرهاب أو التعامل مع رموز نظام بن علي أو تسليم رموز النظام الليبي (تسليم البغدادي المحمودي للحكومة الانتقالية) وما رافقه من تداعيات سياسية بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وأخيرا إعفاء وزير العدل الأستاذ الجامعي محمد صالح بن عيسى الذي عارض بشدة مشروع الحكومة المقترح بخصوص المجلس الأعلى للقضاء لأنه لم يحترم قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القانون.

إن غياب رؤية سياسية لإصلاح المنظومة القضائية كانت له تداعيات مباشرة على مسار التنمية الاقتصادية باعتبار أن مناخ الأعمال يتطلب قضاء مستقلا ولا تعني الاستقلالية استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية بقدر ما تعني البحث عن النجاعة والكفاءة واختصار الآجال في فصل القضايا المنشورة أمام المحاكم لان البطء في فصل القضايا يؤدي إلى ركود الاستثمار وغياب الكفاءة يؤدي إلى ضياع الحقوق الاقتصادية سواء للشركات الاقتصادية أو المستثمرين وإحداث ذلك التغيير خطوة ضرورية حتى يساهم القضاء في التنمية وخلق مواطن الشغل في تناغم مع مطالب الثورة التونسية ثورة الحرية والكرامة ولتجاوز كل تلك الصعوبات المتعلقة بعملية الانتقال -التي امتدت إلى الوضع الدائم بعد سن دستور جديد للبلاد ودون التفاف على مطالب القضاة في قضاء مستقل يضمن فيه القاضي الحقوق والحريات ويكون الحارس لها دون أن يكون خاضعا لأية ضغوط سياسية أو غيرها من الضغوط التي تمارسها جماعات النفوذ المالي وغيرها وكل تعثر في إرساء تلك المؤسسات الدستورية واستدامة المؤقت سيكون له تداعيات على عملية الانتقال الديمقراطي – التي أشادت بها اغلب دول العالم واعتبرتها أنموذجا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط التي لعبت خلالها المنظمات الكبرى (الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والرابطة والتونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين) دورا هاما في انتقال السلطة بطريقة سليمة وسن دستور جديد للبلاد وتامين الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتوج ذلك المجهود بحصول الرباعي الراعي للحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام وهنا من المتجه أن يكون للمجتمع المدني والمنظمات التي ساهمت في عملية الانتقالالسياسي المشاركة بفاعلية في إرساء المؤسسات الدستورية لضمان القطع مع عودة الاستبداد وتحقيقا للأهداف التي قامت من اجلها الثورة وإرجاع ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.

يطرح التعرض إلى المنظومة القضائية خلال المرحلة الانتقالية التي عرفتها البلاد بعد سقوط نظام بن علي الاستبدادي عديد الإشكاليات بين المنتمين لتلك المنظومة والسياسيين الذي وصلوا إلى الحكم خلال تلك المرحلة وذلك لاختلاف وجهات النظر والاختلاف الجوهري حول آليات إصلاح المنظومة ومتطلباتها وبرغم ما برز من خلل كبير في المنظومة القضائية التي اخترقتها السلطة السياسية ووظفتها خدمة لأغراض سياسية واقتصادية فان الأنظمة التي وصلت إلى الحكم لم يكن للسلطة السياسية سواء في مرحلة الانتقالية الأولى التي سبقت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أو التي تلتها الإرادة الجادة في إحداث تغيير في إدارة القضاء والمحاكم واتجهت نحو إقرار الإبقاء على نظام القضاء الموروث عن النظام المستبد برغم المطالبات بالقطع مع المنظومة القديمة وبرز ذلك عند صياغة القانون المنظم للسلط العمومية مارس 2011 وكذلك القانون الأساسي المنظم للسلط العمومية بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي 23 أكتوبر 2011 والتحول الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه في علاقة بالقضاء العدلي التزام المجلس الوطني التأسيسي بسن قانون يحدث هيئة وقتية تشرف على القضاء العدلي بالتشاور مع القضاة دون ضبط طرق وآليات تلك الآلية. وتخفي تلك الإرادة السياسية عدم اعتراف باستقلال القضاء طبق المعايير الدولية وأدت استدامة تلك المنظومة لازمات عديدة بين القضاة والمجتمع المدني بعد أن استعادت وزارة العدل لكل ممارسات النظام القديم بإعدادها لحركة القضاة واستغلالها المجلس الأعلى للقضاء المنصب وإعفاء مجموعة من القضاة خارج إطار القانون وما مثله من تعدّ على حقوقهم في غياب أية ضمانات وسعت السلطة إلى تغيير خارطة الوظائف القضائية من خلال الحراكة القضائية الجزئية والتمديد للقضاة خدمة لمصالحها السياسية وتم توظيف القضاء من جديد وإدخالها في التجاذبات السياسية، أدى كل ذلك إلى إضعاف ثقة المتقاضين في القضاء كمؤسسة مستقلة تضاف إلى حالة الوهن التي كان عليها قبل الثورة إلا انه يجب الاعتراف للسلطة القضائية باستمرارية مرفق العدالة وتحرر القضاة من كل الضغوط في غياب الضمانات وتأمين المحاكم

عرف القضاء العدلي بعد الثورة تحولا بعد إحداث هيئة وقتية للقضاء العدلي التي ظلت حبيسة محكمة التعقيب دون أن يكون لها الإمكانيات اللازمة لإحداث تغيير في منظومة القضاء إلا انه يمكن اعتبارها أنموذجا مهما يكرس إلى حد كبير معايير استقلال القضاء من خلال تكريس مبدإ الانتخاب للأعضاء من مختلف الرتب القضائية وفي ذلك الاختلاط ضمت الهيئة أعضاء من غير القضاة ولأول مرة في تاريخ القضاء التونسي وقد حاولت السلطة إعاقتها في تكريس الاستقلالية عن السلطة التنفيذية وفي مقابل ذلك اهتمت السلطة الحاكمة بتطوير نظام القضاء العسكري بإقرار مبدأ التقاضي على درجتين والقيام بالحق الشخصي بعد تعهده بالنظر في قضايا شهداء وجرحى الثورة في تناقض صريح مع المطالبة بإلغاء المحاكم العسكرية. كما لم تخلو المرحلة الانتقالية من صراعات بين مختلف الهيئات المهنية وأدى ذلك إلى توتر العلاقات بين مختلف المهن وخاصة بين القضاة والمحامين خاصة بعد صدور المرسوم المنظم لمهنة المحاماة في غياب لأي آلية لفض تلك الخلافات في إطار مؤسسي يحصل فيه الاعتراف المشترك بكل مهنة بضرورة احترام الهيئات القضائية في غياب تام لأي دور سياسي لردم تلك الفجوة التي بدأت تتسع بين مكونين رئيسين لمنظومة العدالة.ولكن رغم الجهود المبذولة لإصلاح القضاء وجعله مقوما أساسيا للجمهورية الثانية فان وضع القضاء يبقى مجمدا وإرساء المؤسسات الدائمة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية مازال يراوح مكانه بفعل غياب إرادة سياسية حقيقية تعترف بان القضاء سلطة وتسعى لتكريس ذلك عند صياغة النصوص المنظمة للقضاء وإرساء المحكمة الدستورية تماشيا مع أهداف الثورة.

عمر الوسلاتي 

المصدر: الصباح، 6-7-8-10-13-15-17-19-20-21 أفريل 2016، ص9.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(*)- قاض ومستشار بنحكمة الاستئناف بتونس 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق