تونسدراسات

 واقع القطاع الأمني في تونس 5 سنوات من الانتقال الديمقراطي

 

بعد خمس سنوات من الثورة التونسية تبقى المسالة الأمنية من أهم القضايا العالقة في البلاد وأكثرها تعقيدا، خاصة أمام تصاعد وتيرة الإرهاب والجريمة المنظمة من جهة وتعطل المسار الانتقالي في فترات متعددة، هذا إلى جانب الأزمات السياسية المتتالية والتي طالت مؤسسات الدولة من جهة أخرى، وذلك بالرغم من المصادقة على دستور 27 جانفي 2014 والتوصل إلى انجاز أول انتخابات رئاسية وتشريعية ديمقراطية في تاريخ البلاد التونسية.

ويعلم الجميع أن التحديات الأمنية الراهنة لا يمكن أن تخفي ضرورة الشروع في إصلاح المنظومة الأمنية، ولكن من المتابعين للشأن الأمني والسياسي في تونس وخارجها من يطرح اليوم بجدية مسالة إمكانية وجدوى الإصلاح في ظل عدم استقرار الوضع الأمني وتعدد التهديدات التي تستنزف قدرات القوات الأمنية من جهة وتصاعد التجاذبات السياسية وما ولدته من أزمات متتالية في قيادة مرحلة البناء الديمقراطي، دون الحديث عن بروز محاولات لإدخال المؤسسة الأمنية باختلاف هياكلها في دوامة هذه الصراعات وما يخلفه ذلك من تسييس للعمل الأمني وتعطيل لإصلاح المؤسسة الأمنية.

فمنذ انطلاق المسار الانتقالي سنة 2011،نلاحظ أن مختلف الحكومات المتعاقبة لا تزال تتحسس خطاها في علاقة بموضوع إصلاح الأمن وتحسين أدائه وقدراته، إذ نقف عند مجموعة من المعطيات التي تؤكد تعطل مسار إصلاح الأمن وانعدام الرؤية وغياب الإستراتيجية، مما حال دون وضع أسس سليمة وثابتة لمؤسسات أمنية ديمقراطية ولحوكمة أمنية رشيدة تبعث على الثقة والاطمئنان في وقوع تغيير حقيقي.

فالتحديات جمة والإرادة السياسية لم تتبلور بعد، وأمّا الرهانات والمعوقات فهي كبيرة جدا ولم تجد بعد حلولا جذرية، فرغم تعدد المحاولات في هذا المجال، فإن الأفق يبقى غير واضح والمسار متعثر والأسباب في ذلك متعددة، أولها فهم جزئي ومعالجة متقطعة للملف الأمني بكل مكوناته.

  • عن أي منظومة أمنية نتحدث؟

بدءا لا بد من الإشارة إلى أن ملف إصلاح الأمن معقد ومتداخل الإطراف والمستويات. فالأمن مفهوم شامل وأبعاده مختلفة، يمكن حصرها أساسا في ثلاث مستويات:

أولا، الخدمة الأمنية التي توفرها مختلف أجهزة إنفاذ القانون العاملة بالدولة والساهرة على تحقيق الأمن العام والتوقي من كل المخاطر والتصدي لتهديدات الأمن القومي ومجابهتها.

وهنا نشير بالضرورة إلى المهام التي تضطلع بها القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي بمختلف أسلاكه في حفظ الأمن وحماية الأفراد والممتلكات.

وثانيا، المناخ السياسي والأمني الذي يجب على الدولة والمؤسسات العاملة تحت إشرافها توفيره حتى تكفل للأفراد الحرمة الجسدية والمعنوية وتضمن لهم حقوقهم وحرياتهم الأساسية وتحافظ على قيم المجتمع ومكاسبه. فالأمن من منظور مجتمعي إنساني يكون حافزا للتنمية لمّا يوفر البيئة السليمة للاستثمار والعمل ويؤمن الأفراد على حياتهم ومكاسبهم، ويضمن كذلك مناعة الدولة واستقرارها ويجعلها قادرة على التصدي لكل المخاطر والتهديدات التي من شأنها أن تمس بأمنها القومي.

وثالثا وليس بآخر، جملة السياسيات الأمنية والدفاعية والاستراتيجيات التي تضعها الدولة حفاظا على أمنها القومي وتحقيقا لمقتضياته. فعلى كل دولة مبدئيا وضع خيارات أساسية حاضرا ومستقبلا تتعلق بمجالات عدة للأمن القومي (مكافحة الجريمة الإرهاب – أمن الحدود التسليح استقرار المؤسسات السياسية – أمن اقتصادي- امن بيئي أمن غذائي أمن صحي الخ) وبترجمتها في إطار استراتيجيات وسياسات قطاعية، كتلك المتعلقة بالاستخبارات ومكافحة الإرهاب أو بالتصدي لتجارة الأسلحة والمخدرات أو بالاتجار بالأشخاص أو بمقاومة مختلف مظاهر العنف بالمجتمع.

وهذه السياسات رئيسية لأنه على أساسها يقع تحديد طرق تنظيم مؤسسات الأمن والدفاع ومهامها ووسائل عملها وتخصيص الموارد الضرورية لها والإشراف والرقابة عليها.

هذه المستويات الثلاث تشكل دعائم المنظومات الأمنية في كل دولة وهي في الآن ذاته مداخل ضرورية ومترابطة لإصلاح المنظومة الأمنية إصلاحا شاملا وناجعا وملائما لمقتضيات البناء الديمقراطي وللتحديات التي تواجهها الدول اليوم بما فيها تونس. غير أن هذه المنطلقات تبدو غير واضحة المعالم وأحيانا هي تكاد تكون مفقودة تماما في المقاربات التي توختها مختلف الحكومات المتعاقبة على السلطة منذ 2011 في تعاطيها مع الملف الأمني سواء في جوانبه العملية أو حتى في جوانبه المؤسساتية. فالمعالجة تطغى عليها الظرفية وتحكمها الضغوطات لا الأمنية فقط بل السياسية كذلك، وينقصها البعد الاستراتيجي في جل الأحوال في ظل غياب سياسات أمن قومي مقننة وواضحة وشاملة تعكس رؤية واضحة وإرادة سياسية في الارتقاء بالمؤسسة الأمنية إلى انتظارات المواطنين وتطلعهم إلى أمن فاعل وناجع ومسؤول وخاصة ملتزم باحترام حقوق الإنسان وبتنفيذ القانون.

فالعلاقة بين الأمن والمواطن والتي هي في المطلق أساس مشروعية عملية إصلاح المؤسسة الأمنية وتطويرها تبدو غير واضحة المعالم إذ لا تزال تحكمها الحاجة والضرورة إلى الحماية التي يفرضها الوضع الأمني اليوم مقابل التنازل عن بعض الحقوق والحريات.

ولعل خير مثال عن ذلك تلك الأصوات التي تتعالى من جهة أو من أخرى، وأحيانا حتى من السلطة نفسها ومصادر القرار، لتجعل من مقاومة الإرهاب مثلا-أولوية في نقيض مع حقوق الإنسان ومبادئها السامية، دون أن تعي جيدا أن محاربة الإرهاب من المفروض أن تكون في سياق ضمان لأهم حق للإنسان ألا وهو الحق في الأمن.

وعليه فإن المقاربات الأمنية في تونس غير قادرة على التخلص من هذه النظرة الضيقة التي تبقي العلاقة بين الأمن والمواطن في إطار المعاملة على أساس المصلحة والحاجة بدل أن تكون على أساس الثقة والخدمة اللامشروطة.

  • تأثيرات الوضع الأمني والسياسي على عملية الإصلاح:

كان للتحولات السياسية التي شهدتها البلاد منذ بداية سنة 2011 تأثيرا مباشرا على القطاع الأمني بشكل عام وعلى الوضع الأمني بشكل خاص. ويمكن أن نحدد هذه التأثيرات على مستويين اثنين: أمني وسياسي.

  •  تردي الوضع الأمني:

لم تكن الأوضاع الأمنية مستقرة منذ الثورة. فما سمي “بالانفلات الأمني” أعقاب الثورة وما أصبح يسمى اليوم بالحرب على الإرهاب يعكس وضعا أمنيا هشا، غلب عليه انعدام الاستقرار وتصاعد مختلف أشكل العنف والجريمة والإفلات من العقاب وبروز تيارات جهادية تلجأ للعنف ضد الدولة والمجتمع.

بالإضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية في مواجهة هذه التهديدات.

فالانتفاضة التونسية والحرب الليبية دفعت أدت إلى إعادة تنظيم شبكات ومسالك التهريب، وأضعفت قدرة الدولة على حماية حدودها مما مهد الطريق لظهور أنماط أكثر خطورة بكثير من تهريب السلع والبضائع. حيث أصبحت المخدرات إضافة إلى كميات من الأسلحة والمتفجرات تدخل البلاد وبشكل منتظم عبر الشريط الحدودي مع ليبيا والجزائر كذلك. وأضحى ذلك مصدر تهديدات أمنية شديدة، خاصة أمام ضعف قدرات السلطات الحدودية على التصدي لتنامي ظاهرة التهريب.

فمن الواضح أن تأمين الحدود أصبح المعضلة الكبرى للمنظومات الحدودية القائمة باعتبار أن أجهزة الدولة أصبحت غير قادرة على فرض سيطرتها المطلقة على مناطقها الحدودية لهشاشتها واختراقها من قبل الجماعات الإجرامية أو المتطرفة واتخاذها لها كمواقع تنطلق منها العمليات العدوانية وغير الشرعية التي تستهدف بها أمن الدول أو استغلالها كقاعدة خلفية تستعملها الجماعات الإرهابية للتجنيد والتدريب والمرور.

في نفس السياق، فالفراغ الأمني الذي أعقب انتفاضة 2010-2011 والفوضى التي نجمت عن الثورة في ليبيا جعلا النسيج الحدودي التونسي يتهرأ وأصبحت الحدود سهلة الاختراق، لا من قبل المجموعات الإجرامية فقط، ولكن أيضا وخصوصا من الجماعات المسلحة، وباتت المناطق الحدودية بؤرة للجهاد والتهريب.

وأصبحت هذه المجموعات تستغل هشاشة المناطق الداخلية من جهة أولى وتتالي الأزمات السياسية بالبلاد من جهة ثانية وعدم اتخاذ الإجراءات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الضرورية للحد من قابلية اختراق حدود البلاد من جهة ثالثة. وقد امتد امتزاج الأنشطة الإجرامية بالجماعات الجهادية المتطرفة إلى ضواحي المدن الكبرى وفي القرى النائية الفقيرة في إطار مجموعات انخرطت في أعمال إرهابية استهدفت القيادات السياسية والمؤسستين الأمنية والعسكرية، ثم في مرحلة ثانية منشآت اقتصادية وسياحية حيوية في البلاد. وتشهد سنة 2015 تصعيدا خطيرا على مستوى العمليات الإرهابية لاستهداف مدنيين اغلبهم من الأجانب في مناسبتين (كالعمليتين الإرهابيتين بمتحف باردو في ربيع 2015 وبسوسة في صائفة 2015)، ثم العملية الانتحارية التي استهدفت سلك الأمن الرئاسي في تونس العاصمة في أواخر شهر نوفمبر من نفس السنة. وتأتي هذه العملية الأخيرة بعد أسبوعين تقريبا من العمليات الإرهابية الشنيعة التي عرفتها العاصمة الفرنسية باريس في شهر نوفمبر المنقضي.

ومن الواضح أن غاية المجموعات الإرهابية من ذلك هي إفشال المسار الديمقراطي بتونس وضرب مؤسسات الدولة واستقرارها ومن ثمة إحداث قطيعة بين السلطة والمواطن.

ولم تكن الإجراءات الأمنية والعسكرية المتخذة لإحكام السيطرة على مناطق العبور وعلى المناطق التي اتخذتها الجماعات المسلحة كقاعدة خلفية للقيام بعملياتها الإرهابية، ونعني بالخصوص المنطقة العازلة ومنطقة العمليات العسكرية، كفيلة لوحدها لمعالجة مشاكل الحدود وتسريب الأسلحة إلى الأراضي التونسية من قبل المهربين والخلايا الجهادية. وبقي التحدي الحقيقي هو سد المنافذ أمام تسلسل أفراد الجماعات المسلحة للتراب التونسي إلى جانب منع تسفير الشباب إلى بؤر التوتر وخاصة منها سوريا.

هذا بالإضافة إلى التحديات التي تطرحها عودة المقاتلين من سوريا ومن مناطق أخرى إلى تونس والتحاقهم بالخلايا الإرهابية المتحصنة بالمرتفعات والمناطق الجبلية.

وعلى أهمية دعم القدرات العسكرية وتطويرها، يبقى الإشكال في نظرنا هو حسن استغلال كل هذه الموارد وإحكام استعمالها بما ينمي قدرات الوقاية والترصد والتدخل للأجهزة الأمنية والعسكرية ويضمن في المقابل احترامها للقانون ولإرادة المواطن التونسي في الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقرار والتنمية.

ولهذا الوضع المعقد تأثيرات ليس على أمن واستقرار تونس فقط وإنما يتهدد كذلك امن دول الجوار والأمن الإقليمي بشكل عام. وقد لاحظنا ذلك من خلال العمليات الإرهابية التي استهدفت بعض الدول الأوربية في الآونة الأخيرة وفي مقدمتها فرنسا وتزامن ذلك مع عمليات مماثلة في منطقة المغرب العربي وبالتحديد تونس وليبيا.

لكن عندما يغيب التنسيق والتعاون بين دول المنطقة، فان الأنظمة ذاتها تكون سببا في خلق فراغ أمني تستفيد منه حتما وتستغله الجهات الأمنية المسلحة المتواجدة بالمنطقة أو تلك التي لها قدرة على ذلك لذا، لا مبالغة إن سلمنا للاعتبارات السابقة ولأخرى من أن امن الحدود والدول في شمال أفريقيا لا يتوقف فقط على القدرات الوطنية للدولة وإنما يقتضي العمل على صعيد أشمل وأساسا من خلال التعاون الدولي.

لكن هذا الخيار “الأوحد” يشكل مدخلا لفرض سياسات أمنية بعينها على دول المنطقة وهو يطرح بدوره تساؤلات حول طبيعة التحولات التي تشهدها المنطقة منذ فترة وعن الأطراف الفاعلة وحول التحديات الأمنية الراهنة والمستقبلية وعن البدائل الاستراتيجية المتوفرة لحفظ أمن واستقرار الفضاء المغاربي وعن قدرة الدولة التونسية ودوّل الجوار على معالجتها.

  • غياب الإطار الاستراتيجي وضعف القدرة على قيادة عملية الإصلاح:

تحتاج عملية إصلاح المنظومة الأمنية لإرادة سياسية واضحة وقدرة على قيادة عملية الإصلاح غير أنه يبدو من السياق السياسي والأمني الذي أحاط بالتغييرات الحاصلة بتونس منذ شهر جانفي 2011 وحتى بعد انتخابات أكتوبر / نوفمبر 2014 أن قدرة الحكومة ما زالت محدودة لمعالجة الملف الأمني بمختلف مكوناته السياسية والقانونية والعملياتية والاجتماعية والاقتصادية. ويعزى هذا القصور إلى أسباب عدة من أهمها:

*عدم وضع إطار سياسي وقانوني وإجرائي واضح وعملي على مستوى الحكومة وكذلك على مستوى السلطة التشريعية (لجنة وطنية أو لجان قطاعية للتخطيط والإصلاح) بشكل يضمن الالتزام بإصلاح المؤسسة الأمنية وقيادتها من جهة، والسهر على ديمومة مسار الإصلاح، وكذلك تقييمه ومراجعته كلما اقتضت الضرورة ذلك من جهة أخرى.

ولعل خير دليل على ذلك هو تقطع عملية الإصلاح من خلال التخلي عن بعض البرامج والمشاريع – لأسباب سياسية أو حتى عملية – وخاصة منها كتابة الدولة لدى وزارة الداخلية المكلفة بالإصلاح وضعف الصلاحيات الممنوحة لها؛ والاهتمام بقضايا أخرى بما يبعث على الاعتقاد أن لأولويات الإصلاح غير واضحة.

*عدم تحقيق الدعم السياسي لعملية الإصلاح من خلال إشراك واسع لكل الأطراف الفاعلة (حكومة – برلمان – مؤسسة أمنية – أحزاب – نقابات أمنية – مجتمع مدني – إعلام) بما يضمن مشروعية عملية الإصلاح وتبنيها من قبل كل الأطراف ويحول دون التصدي لها. وفي المقابل التركيز على شراكات مع دول ومنظمات مانحة في إطار برامج التعاون الدولي متعدد الأطراف من بينها الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أو الثنائي كالولايات المتحدة الأمريكية في إطار مبادرة الحوكمة الأمنية”Security Governance Initiative” ، وغيرها من برامج الدعم والتعاون الأمني الأخرى.

*غياب استراتيجية شاملة لإصلاح قطاع الأمن من قبل مختلف الحكومات المتعاقبة وكذلك النخبة السياسية، وعدم صياغة خطة عمل وتنفيذ لهذا الغرض. ويعزى هذا بالأساس إلى عدم استخلاص كل الدروس من الأزمات الأمنية التي مرت بها البلاد وإلى التعامل مع مسألة الإصلاح بشكل تنقصه الكفاءة والخبرة والمنهجية.

*عدم تحديد أولويات الإصلاح ومجالاته والأهداف الاستراتيجية من ذلك، والتأخر في إرساء ثقافة تغيير جديدة داخل المؤسسة الأمنية بما يقطع مع ممارسات الماضي ويقضي على المحسوبية داخل المؤسسة.

*الاقتصار على إجراءات عاجلة لصالح أعوان الأمن أو الجيش وتحت الضغط وخارج سياق الإصلاحات الضرورية وعدم الشروع في الإصلاحات الهيكلية كمراجعة المهام أو إعادة هيكلة بعض الوزارات وعلى رأسها وزارة الداخلية.

*التأخر في إدخال التعديلات الضرورية على القوانين الناظمة لقطاع الأمن بما يضمن جودة الخدمة الأمنية والتزامها بمقتضيات الشفافية والمسؤولية واحترام حقوق الإنسان والتقييد بالقانون. والاقتصار في هذا الإطار على مراجعات جزئية لبعض النصوص القانونية وتعطل بعض مشاريع القوانين التي من شأنها أن تدعم السلوك الديمقراطي داخل المؤسسة الأمنية وتضفي النجاعة على عملها، والاقتصار في المقابل على القوانين الزجرية كالقانون الأساسي المتعلق بمكافحة الإرهاب الذي تمت المصادقة عليها بتاريخ 7 أوت 2015.

التركيز على الجوانب الفنية في إطار إصلاح المؤسسة الأمنية (تعزيز الإمكانيات والقدرات) لغاية إضفاء النجاعة خاصة فيما يتعلق بمقاومة الإرهاب وحماية الحدود؛ وفي المقابل غياب آليات الرقابة واحترام حقوق الإنسان وهو ما يضعف دعم المجتمع للإجراءات الفنية لغياب الشفافية. وتعتبر هذه المسألة في غاية من الأهمية خاصة في علاقة بالدعم الدولي الذي يمكن أن توفره العديد من الدول والمنظمات الدولية المتخصصة والتي تبحث على خلق التوازنات بين الدعم السياسي لعملية الإصلاح وبين المساعدة الفنية التي يمكن أن توفرها للدولة التونسية (تجهيزات تكوين تعاون ميداني وعملياتي)، كل ذلك في إطار الشفافية واحترام حقوق الإنسان.

*غياب التنسيق بين مختلف الفاعلين في مجال الإصلاح (وزارة داخلية وزارة عدل وزارة دفاع قوات أمن وجيش نقابات أمنية مجتمع مدني) وكذلك بين برامج الإصلاح التي هي بصدد الوضع أو التنفيذ. ويعد هذا العنصر (غياب التنسيق) من أبرز المعوقات التي تحول دون إمكانية إرساء مسار واضح وشامل لإصلاح قطاع الأمن في تونس، والاقتصار في المقابل على بعض التعديلات الجزئية على مستوى بعض الأجهزة أو قياداتها.

كل هذه العوامل وغيرها تجعل من برامج الإصلاح التي تضعها الحكومة ظرفية وغير قادرة على تحقيق التغيير المطلوب على مستوى المنظومة الأمنية. هذا لا يعني أن كل ما وقع إنجازه إلى حد الآن من برامج وإجراءات غير صالح بالمرة. إذ نسجل بعض البرامج الإيجابية في هذا السياق، كالمصادقة على دليل إجرائي لحقوق الإنسان موجه لقوات الأمن الداخلي أو العمل على مراجعة القوانين الناظمة لمراكز الإيقاف والاحتفاظ وتقديم مشروع في الغرض لمكافحة أساليب سوء المعاملة أثناء فترات الاحتفاظ وذلك بالتعاون مع منظمة الصليب الأحمر الدولي. ويأتي هذا المشروع الأخير في إطار التزام تونس بمناهضة التعذيب وإحداث آلية وطنية للوقاية من التعذيب.

لكن رغم كل هذه الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة في الالتزام بمنظومة حقوق الإنسان من قبل قوات الأمن، فإن الإشكالية تبقى قائمة في إيجاد التوازن الحقيقي بين الدعم السياسي لبرامج الإصلاح ومقتضياته (القانونية والمؤسسية والمهنية) من جهة، وبين كلفة الإصلاح الباهظة والقدرة الفنية والعملية على تحقيق كل التغييرات المرجوة. فالتغييرات بطيئة والتحديات القائمة عديدة وانتظارات المواطنين كبيرة؛ كل هذا يجعل من نسق الإصلاحات بطيء ومضطرب ودون المأمول. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسؤولية الإصلاح ولئن كانت على كاهل الحكومة والمؤسسة الأمنية بشكل رئيسي، إلا أن دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية وحتى النقابات الأمنية يبقى دون المأمول.

فاللافت للنظر هو أن هذه الأطراف الفاعلة في المنظومة الأمنية لم ترق بمستوى مقترحاتها إلى إحداث التغييرات الهيكلية أو القانونية المطلوبة أو حتى وضع تصور شامل للإصلاح، كإصلاح منظومة الاستعلامات أو بعث آليات لرقابة أداء المؤسسة الأمنية والتثبت من مدى التزامها بالقانون وباحترام حقوق الإنسان. ويعزى هذا أساس إلى افتقار هذه التنظيمات (الهياكل الأمنية) للتخصص والتجربة في مسائل الإصلاح والحوكمة الرشيدة لقطاع الأمن وإلى تركيز معظمها على القضايا الأمنية الراهنة من إرهاب وتهريب وأمن الحدود، أو لتمسك البعض الآخر بتحقيق مطالب مهنية بحتة كالترقيات وتصحيح المسار المهني لأعوان الأمن الداخلي. ولم تطرح معظم هذه التنظيمات مداخل ومقترحات أساسية وعملية لإصلاح قطاع الأمن. هذا فضلا عن تسييس المسألة وانعدام الفهم الحقيقي لمقتضيات الإصلاح ولأبعاده المختلفة.

اما التعاون الدولي بمختلف برامجه، فعلى أهميته، فهو لم يستثمر بالقدر الكافي في بناء قدرات وكفاءات تونسية تكون قادرة على قيادة مشروع الإصلاح في إطار شراكة بين مختلف الأطراف والجهات الفاعلية من أجهزة رسمية وخبرات ميدانية وكفاءات مدنية ومنظمات غير حكومية تعنى بالمسألة الأمنية. فالمقاربة هي مؤسساتية بالأساس، تسعى من خلالها هذه البرامج إلى تطوير البنية القانونية والمؤسسية لقطاع الأمن دون التركيز على إرساء ثقافة جديدة تحكم عمل قوات الأمن وتعيد بناء الثقة بين الأمن والمواطن.

ولا يفوتنا في هذا السياق أن نشير إلى أن تونس تحصلت في أوائل شهر نوفمبر 2015 على منحة هامة من الاتحاد الأوروبي تقدر بـ23 مليون يورو ستخصص حسب ما صرحت به ممثلة الاتحاد الأوروبي في تونس إلى دعم إصلاح وتطوير القطاع الأمني في تونس، وهو ما سيساعد، حسب تعبيرها، على وضع سياسة أمنية حديثة، وذلك تمشيا مع القيم الديمقراطية التي كرسها الدستور التونسي. ومن بين أولويات البرنامج المعلن عنها، هو إصلاح وتحديث قوات الأمن الداخلي بما يجعل عملها مطابقا لمعايير حقوق الإنسان ويسمح بـ “استعادة الثقة في قوات الأمن”.

هذه التوجهات على أهميتها تتطلب إصلاحات هيكلية لمنظومة التكوين والتدريب والانتداب والرقابة. لكن رغم ما يؤكد عليه البرنامج من إصلاح وتحديث لقوات الأمن الداخلي بما يجعل عملها مطابقا لمعايير حقوق الإنسان ويسمح بـ “استعادة الثقة في قوات الأمن”، لا يقابله محاور تنهض بثقافة حقوق الإنسان وبإرساء الشفافية وثقافة المسؤولية في القطاع الأمني، بقدر ما هو تركيز على الارتقاء بالقدرات المهنية والفنية لقوات الأمن وذلك لمجابهة المخاطر والتهديدات التي تواجهها المنطقة الأورو متوسطية. لأن من أولويات البرنامج كذلك توفير وسائل ردود الفعل على الأزمات للدولة التونسية من خلال تعزيز القدرات الفنية والتشغيلية للمسؤولين عن أمن وسلامة الحدود البرية وتحسين مكافحة الجريمة العابرة للحدود من خلال إنشاء مراكز عملياتية سريعة السريعة في مدنين، تطاوين والقصرين؛ واعتقادنا أنه لا نجاعة بدون شفافية والتزام بالقانون وبمنظومة حقوق الإنسان.

وإجمالا تطرح جل العوامل التي تم التعرض إليها رهانا جديا على مستوى آفاق إصلاح المنظومة الأمنية والقدرة على إرساء مقومات الحوكمة الرشيدة والرقابة الديمقراطية لقطاع الأمن في تونس. وبقي من أهم التحديات وبصرف النظر عن الأولويات كلفة الإصلاح أو بالأحرى الكلفة الاقتصادية العالية التي ستنجر عن تعطل إصلاح المنظومة الأمنية في تونس.

  • الكلفة الاقتصادية لتعطل إصلاح المنظومة الأمنية في تونس:

تبرز الإحصائيات الرسمية الأخيرة أرقاما مفزعة تتعلق بتفشي ظاهرة الفساد والرشوة في جل ّ القطاعات، حيث أقر مواطن واحد على الأقل من أصل اثنين، بوجود الظاهرة في كثير من مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى وجود معاملات مشبوهة مبنيّة على الفساد والرشوة. ويحتل القطاع الأمني المرتبة الأولى في سلم ترتيب الرشوة والفساد لدى المواطنين بنسبة 68 بالمائة.

وهذه الأرقام في حدً ذاتها مؤشر على أكبر التحديات التي ستواجه برامج إصلاح وتطوير المنظومة الأمنية باعتبار أن الرغبة في التغيير سيواجهها في المقابل رفض العناصر التي تقترن مصالحها بالممارسات المبنية على الرشوة ولها ارتباط بشبكات التهريب أو ببعض أصحاب رؤوس الأموال لكل محاولات إصلاح. وحفاظا على مصالحها ستسعى الأطراف المناهضة لثقافة الإصلاح إلى تعميق الفساد وانعدام الشفافية والتمسك بثقافة الإفلات من العقاب صلب المؤسسة الأمنية ومن ثمة الإبقاء على الوضع القائم إما باستيعاب عملية الإصلاح المؤسساتي وإفراغها من محتواها أو بمقاومتها والتصدي لها.

وكلفة تفشي ظاهرة الفساد عالية باعتبار أنها تستنزف قدرات الدولة وتعيقها في عملية تعبئة الموارد الكافية والضرورية للتنمية، مقابل الضغط والتكلفة العالية الذي يمثله مجهود ما يسمى «الحرب على الإرهاب» على ميزانية الدولة. إذ تجد الدولة نفسها مطالبة بتوفير اعتمادات هامة تفوق قدراتها على تعبئة الموارد الذاتية وذلك لتوفير الاعتمادات المالية واللوجستية لمقاومة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة.

فكما أشرنا سابقا وللعام الثالث على التوالي أي منذ 2014 تتخطى ميزانيتي كل من وزارة الدفاع الوطني ووزارة الداخلية لسنة 2016 ميزانية وزارة التربية وذلك في سابقة تاريخية منذ الاستقلال. فمن الواضح أن الجانب العملياتي وتعزيز قوات الجيش ومختلف أسلاك قوات الأمن الداخلي وسلك الديوانة بالعتاد والتكنولوجيات الحديثة والموارد البشرية أصبح من الأولويات القصوى للدولة.

وأضحى بذلك المنحى العسكري واضحا في سياسة الدولة من خلال إعادة الاستراتيجية المعتمدة على التسليح بعد عقود من التحكم في النفقات العسكرية، وتأكد هذا المنحى بصفة جلية في ميزانية الدولة لسنة 2016 حيث استأثرت ميزانيتا وزارة الدفاع الوطني والداخلية بنحو 20 بالمائة من مشروع ميزانية تونس للعام المقبل بعدما تم رصد 4964.7 مليون دينار لهما.

وفي سياق متصل نمت ميزانية وزارة المالية من 683.6 م د سنة 2015 إلى 814 م د بالنسبة للعام القادم ويعزى ذلك إلى اعتزام الوزارة مقاومة التهريب المرتبط بالإرهاب واقتناء معدات وتجهيزات متطورة للديوانة التونسية حتى تتمكن من تعزيز إمكاناتها في التقصي المبكر لكل مظاهر التهريب وحماية الاقتصاد الوطني.

وما يعتبره البعض «مجهود حرب»، ولئن كانت مبرراته مشروعة، فان كلفته ستكون باهظة بالنسبة للمجموعة الوطنية لقلة الموارد الذاتية للدولة وحاجتها إلى التمويل والدعم الخارجي، وهو ما سيطرح عدة إشكالات خاصة في ما يتعلق بسلطة القرار. إذ نلاحظ توجيه دعم الدول والمنظمات المانحة لإصلاح قطاع الأمن في تونس وتركيزه أساسا على دعم القدرات العملياتية لقوات الأمن والجيش والتنسيق الاستخباراتي والأمني والعسكري في إطار محاربة الجماعات الإرهابية المقاتلة والمنتشرة عبر الحدود التونسية والليبية وصولا إلى مناطق أخرى تشهد نزاعات مسلحة وخاصة سوريا والعراق. فلا غرابة حينئذ أن تنظم تونس إلى التحالف الدولي لمحاربة ما يسمى بالدولة الإسلامية بالعراق والشام («داعش»)، وأن تتحصل على مرتبة الشريك غير العضو للولايات المتحدة الأمريكية بمنظمة حلف الناتو، وأن تستفيد تونس من مساعدات مالية وفنية ولوجيستية هامة من شركائها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية.

والكلفة الحقيقية لتعطل إصلاح المنظومة الأمنية ليست بمباشرة (نفقات التسليح وتوفير المعدات والموارد البشرية) بقدر ماهي غير مباشرة. فمن جهة ستتطلب النصوص القانونية التي تمت المصادقة عليها في السنوات الأخيرة تغييرات على المستوى المؤسسات، من ذلك مثلا كل التغييرات التي يقتضيها قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015. فهذا القانون خول للسلطات الأمنية اعتماد وسائل تحرّ خاصة تتطلب اعتماد تقنيات ووسائل تكنولوجية ومهارات فنية وانتدابات إضافية على مدى السنين المقبلة، وهي ستستدعي بالإضافة إلى ذلك إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية المعنية بالتحري والاستعلام والترصد، وهي تغييرات هيكلية ستكون كلفتها عالية جدا في حين أن نتائجها الأولية ونجاعتها لن تبرز للعيان بشكل مباشر وإنما ستستغرق بضع سنوات حتى تبرز جدواها على الميدان.

ولكن الكلفة الحقيقية لتعطل مسار الإصلاح هو غياب التنمية. فالأمن مرتبط بشكل جوهري بالاستثمار لما يبعثه الشعور بالأمن والاستقرار والثقة في المؤسسات من طمأنينة وبالتالي يصبح من أهم الحوافز في دفع عجلة التنمية في البلاد ومن ثمة معالجة أسباب التطرف والتهميش والفقر بشكل جوهري وهيكلي داخل المجتمع التونسي. لكن كما أسلفنا الذكر، فإن الوضع الأمني الراهن والمتردّي على مدى السنوات الخمس الماضية أصبح يشكل عائقا حقيقيا أمام الاستثمار وخلق الثروة في البلاد التونسية. وهذا الوضع الأمني والسياسي المتردي يعمق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية ويخلق اقتصاديات موازية تستغلها جماعات التهريب ويصبح مدخلا لشتى أشكال العنف والتطرف وخاصة الإرهاب.

في هذا السياق، أصبحت مؤسسات الدولة في صراع حاد مع جماعات التهريب والتطرف والإجرام الخطير وكذلك الجماعات المسلحة التي أصبحت تتسلل عبر الفوارق وتخلق الانقسامات داخل المجتمع وتفتعل الأزمات السياسية والأمنية هدفها الوحيد من ذلك النيل من سلطة الدولة والمساس بكيانها. أمام هذا الوضع، ومع غياب قدرة الدولة الحقيقية على مجابهة الرشوة والفساد ومحاربتها وتفشي الظاهرة في أسفل هرم السلطة، يصبح الخطر الكامن عدم الشعور بالأمن والاطمئنان وغياب الثقة في قيادات الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية والإدارية، ومن ثمة تصبح العملية الديمقراطية ذات كلفة باهظة بالنسبة للمواطن الذي يحبذ الاستقرار والرخاء على الخوف وعدم وضوح الرؤيا.

الخاتمة:

هي صورة قاتمة لوضع غير مستقر بالمرة، لكنها صورة تعبر عن عمق مسألة إصلاح قطاع الأمن وتعقدها، فلا غرابة حينئذ أن تغيب البدائل الاستراتيجية وأن تحل محلها الحلول العاجلة والجزئية التي لن تحدث تغييرا على مستوى المنظومة الأمنية.

لكن ما يلفت النظر هو أن نفس الأسباب لا تزال قائمة رغم مرور 5 سنوات على الانتقال الديمقراطي في تونس، والشروع في إرساء مؤسسات النظام الجمهوري الديمقراطي الجديد وتركيزها من خلال المصادقة على دستور 27 جانفي 2014 (دستور -منظومة حقوق وحريات -انتخابات مجلس أعلى للقضاء محكمة دستورية-إلخ.). فتقييمنا لمسار الإصلاح أو بالأحرى لمحدوديته وتعطله لم يتغير، وهو ما يبعث على التساؤل عن أسباب هذا التعطل وإن كان ذلك من حتميات الانتقال الديمقراطي الذي تواجهه الدول أم هو مؤشر على أزمة قيادة وحوكمة في الدولة؟

هيكل بن محفوظ

 

المصدر: الصباح، 28-29 أفريل / 01-04-06 ماي 2016.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*)- أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس(جامعة قرطاج).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق