تونسدراسات

مسار العدالة الإنتقالية: تقييم التجربة وآفاقها

 

 

مقدمة:

 

منذ نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام الدكتاتوري اتجه الاهتمام نحو قضية أساسية وهي كيفية التعامل مع ما تسبب فيه النظام السابق من الانتهاكات التي امتدت على عقود وطالت الآلاف من ضحايا القمع والاستبداد بجميع أنواعه. وكان ذلك أمرا منطقيا ومتوقعا نظرا للتطلعات الكبيرة التي عقدها طالبو بضرورة إدماج العدالة الانتقالية في المسار السياسي بعد الثورة وهي في الأصل تطلعات مشروعة تقوم على طلب كشف حقيقة الجرائم المرتكبة ومحاسبة الضالعين فيها لأجل المرور نحو مصالحة تاريخية بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة الانتهاكات بطريقة عادلة ومقبولة من الجميع.

لا يمكن فهم العدالة الانتقالية بمعزل عن المسار الانتقالي الديمقراطي العام بكامل عناصره وخاصة المسارين الدستوري والانتخابي. فهي جزء من الإصلاح السياسي الشامل الذي عرفته البلاد منذ 2011 وحلقة من حلقاته الأساسية. بالتالي لا يمكن توقع النجاح الحقيقي لعملية الإصلاح السياسي بدون نجاح حلقة العدالة الانتقالية. لأن غاية الإصلاح هو بناء النظام الديمقراطي القائم على دولة القانون لأجل تحقيق مجتمع العدالة بمعناها الشامل.

غير أنه سيكون من الصعوبة بمكان تحقيق العدالة مستقبلا ما لم تتحقق بالنسبة للانتهاكات التي اُرتكبت في السابق. بالتالي فإن التباطؤ في إنجاز العدالة الانتقالية ستكون له تداعيات سلبية على المسار الديمقراطي ككل في المستقبل.

ما هي العدالة الانتقالية؟

ترتبط العدالة الانتقالية في أغلب الأحيان بالمسارات الانتقالية من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي وهي تهدف للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في ظل نظام الحكم الدكتاتوري بهدف كشف حقيقتها ومحاسبة الأشخاص المسؤولين عنها ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعويض المتضررين وذويهم. كما تهدف العدالة الانتقالية إلى وضع إصلاحات هيكلية شاملة للحيلولة دون إمكانية تكرار الانتهاكات.

تتعدد آليات العدالة الانتقالية من بلد لآخر وغالبا ما تساهم مؤسسات وهياكل مختلفة في مسار العدالة الانتقالية. لكن الكثير من البلدان أصبحت مهتمة بإنشاء هيئات خاصة تعنى بالعدالة الانتقالية تعرف غالبا بإسم هيئات الحقيقة والمصالحة مثل تلك التي أنشأت في بعض البلدان الإفريقية والأمريكية اللاتينية.

مسار العدالة الانتقالية في تونس منذ الثورة:

جاءت الثورة بآمال كبيرة في تحقيق عدالة انتقالية شبيهة بتلك التي تحققت في جنوب أفريقيا وغيرها من البلدان التي تميزت بنجاحها في هذا المجال. وقد اتخذت الحكومات الانتقالية منذ البداية إجراءات هامة من أهمها العفو التشريع العام بمقتضى المرسوم عدد 2011-1 المؤرخ في 19 فيفري 2011 وإنشاء اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها بمقتضى المرسوم عدد 2011-8 المؤرخ في 18 فيفري 2011 والمتعلق بإحداث الجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق خاصة للتحقيق في الأحداث التي حصلت في 2010 وكذلك لجنة التحقيق في الرشوة والفساد التي أنشأت بالمرسوم عدد 2011-7 المؤرخ في 18 فيفري 2011. كما أنشأت وزارة تعنى بالعدالة الانتقالية مباشرة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011.

وقد توجت هذه الفترة بإصدار القانون الأساسي عدد 2013-53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 الذي يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها والذي أنشأ هيئة الحقيقة والكرامة وهي الهيئة المكلفة بإنجاز العدالة الانتقالية. وبالرغم من أنه لم يمض على تكوين الهيئة الا سنة واحدة لكنه من المفيد القيام بتقييم مرحلي لمسار العدالة الانتقالية في منتصف الطريق لمعرفة الإنجازات التي تحققت والصعوبات التي اعترضت المسار والتفكير في سبل تجاوزها بأنجع الطرق.

1/ مكاسب مسار العدالة الانتقالية:

كثيرا ما تنسى مكاسب مسار العدالة الانتقالية التي تحققت منذ الثورة وهي ليست بالهينة ولا يمكن التقليل من شأنها. وتتلخص تلك المكاسب خاصة في الإجراءات الصادرة لفائدة الضحايا بعد الثورة وصدور قانون العدالة الانتقالية وإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة وانتشار الوعي بأهمية العدالة الانتقالية.

2/ الإجراءات الصادرة لفائدة الضحايا بعد الثورة:

1-2-  العفو التشريعي العام:

يمكن القول أن العفو التشريعي العام كان من أهم و أسرع الإجراءات الإيجابية التي صدرت مباشرة بعد نجاح الثورة. ويجدر التذكير أن العفو التشريعي كان من أهم المطالب المرفوعة منذ سنوات عديدة من طرف جميع أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان. وقد تكثف هذا المطلب خاصة في السنوات العشر الأخيرة قبل الثورة نظرا للعدد الكبير من السجناء السياسيين والنشطاء الذين صدرت في حقهم أحكام جائرة بسبب نشاطهم السياسي أو الحقوقي أو غيره.

بصدور العفو التشريعي العام تمكن أكثر من 12000 من السجناء السابقين من استرداد حقوقهم في العمل والترشح لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في سنة 2011 والانتخابات التشريعية والرئاسية في سنة 2014. وبالإضافة إلى النتائج الإيجابية للعفو التشريعي للأشخاص الذين حرموا من تلك الحقوق الأساسية طيلة سنوات عديدة، فقد ساهم بشكل غير مباشر في دفع مسار العدالة الانتقالية بسبب فوز العديد من ضحايا النظام السابق في الانتخابات بعد تمتعهم بالعفو. إذ كان ذلك حافزا شخصيا لهم للمساهمة الفعالة في مسار العدالة الانتقالية خاصة عن طريق وضع الإطار القانوني اللازم له.

من ناحية أخرى، لعبت لجنتي التحقيق حول التجاوزات التي حصلت خلال الثورة وحول قضايا الفساد والرشوة دورا هاما في كشف حقائق الجرائم التي ارتكبت خلال الثورة والاعتداء على المتظاهرين. وقد تمكنت لجنة التحقيق في التجاوزات من التحقيق في 2489 ملفا وأصدرت تقريرها في أفريل 2012 عرضت فيه نتائج أعمال التحقيق التي قامت بها اللجنة إضافة إلى جملة من التوصيات المتعلقة بإصلاح مؤسسات الدولة وبالعدالة الانتقالية. أما لجنة الحقيق في قضايا الفساد فقد تلقت أكثر من 10000 عريضة من المواطنين وقامت بالتحقيق التلقائي في عديد قضايا الفساد الخطيرة.

كما أصدرت اللجنة تقريرها الذي تضمن نتائج أعمال التحقيق وعرضا تحليليا لمنظومة الفساد في ظل النظام السابق إضافة إلى جملة من التوصيات الرامية للوقاية من الفساد مستقبلا ومحاربته بالكيفية الناجعة.

2-2-قانون العدالة الانتقالية:

صدر القانون 2013-53 على إثر استشارات واسعة قامت بها وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية مع شرائح عديدة من المجتمع. وبالرغم من الظروف الصعبة التي تمت فيها مناقشة القانون في المجلس التأسيسي نتيجة الوضع السياسي المتوتر آنذاك فإن القانون يعتبر مكسبا هاما نظرا لمحتواه المتميز.

حيث أقر هذا القانون جميع مقومات العدالة الانتقالية وهي الكشف عن حقيقة الانتهاكات التي ارتكبت في السابق ومحاسبة المسؤولين عنها لوضع حد للإفلات من العقاب وجبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا الذين حرموا من العدالة وإرساء المصالحة الوطنية التي تتضمن إصلاح المؤسسات لتفادي إعادة الانتهاكات.

تضمن القانون أحكاما تتعلق بكشف حقائق الانتهاكات التي ارتكبت منذ شهر جويلية 1955 إلى غاية تاريخ صدوره. وهي مدة طويلة تتجاوز بكثير قوانين العدالة الانتقالية المعروفة في البلدان الأخرى والتي غالبا ما تغطي فترة زمنية قصيرة مرتبطة بنظام الحكم السابق مباشرة للانتقال الديمقراطي.

من ناحية أخرى، لم يقتصر قانون العدالة الانتقالية على الانتهاكات التي طالت النشطاء السياسيين والنقابيين والحقوقيين فحسب بل يشمل تزوير الانتخابات وجرائم الفساد المالي والاعتداء على المال العام. وبذلك يكون قانون 2013-53 قد تجاوز النطاق التقليدي لقوانين العدالة الانتقالية التي عادة ما تقتصر على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

2-3-  إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة :

على خلاف النصوص القانونية التي صدرت في سنة 2011 والتي أنشأت هيئتين مختلفتين تعنى كل واحدة بمجال خاص، فإن قانون 2013-53 أنشأ هيئة الحقيقة والكرامة التي أسندت لها جميع المسائل المتعلقة بالعدالة الانتقالية. وتتمتع الهيئة بالاستقلالية الهيكلية والوظيفية التي تسمح لها بالقيام بمهامها دون تدخل من السلط القائمة أو من أي طرف آخر ودون إمكانية التعرض للضغوطات التي قد تؤثر سلبا على أدائها وهو ما تم التنصيص عليه صراحة بالفصل 38 من القانون 2013-53.

تتكون هيئة الحقيقة والكرامة من 15عضوا منتخبا من المجلس التأسيسي. وبالرغم من الانتقادات التي وجهت لعملية انتخاب أعضائها في سنة 2014 إلا أن طريقة التسمية تعتبر الأفضل من حيث المبدإ بحكم الشرعية الديمقراطية للمجلس التأسيسي والتي تكسب الهيئة بدورها شرعية نابعة من المجلس خاصة وأن عملية الانتخاب خضعت لشروط دقيقة وإجراءات مطولة للتدقيق في الترشحات من طرف المجلس التأسيسي نفسه. تتجه الإشارة إلى أن الطريقة الغالبة في تعيين أعضاء هيئات الحقيقة والمصالحة في البلدان الأخرى تتميز بغياب آلية الانتخاب من مجلس نيابي وتكون بالاختيار من طرف السلطة التنفيذية بصفة منفردة أو بالاشتراك مع سلطات أخرى.

وقد حدد قانون 2013-53 مدة عمل الهيئة بأربع سنوات قابلة للتجديد لمدة سنة ولمرة واحدة بعد موافقة مجلس نواب الشعب، وهي مدة تمكن الهيئة من الاضطلاع بمهامها في آجال زمنية معقولة، كما منح القانون للهيئة صلاحيات هامة تشمل أعمال التحقيق في الانتهاكات مع الصلاحية الكاملة للنفاذ للأرشيف وتنظيم جلسات الاستماع السرية والعلنية إضافة إلى وضع مخطط شامل للتعويض المادي والمعنوي للضحايا كما يمكنها أيضا إحالة الملفات للقضاء. يضاف إلى ذلك تقديم التوصيات لإصلاح مختلف المنظومات المعنية بمجال العدالة الانتقالية.

وقد تلقت الهيئة إلى موفى شهر أكتوبر 2015 ما يقارب 18000 شكوى من ضحايا الانتهاكات وهو عدد كبير يعطي فكرة على حجم تلك الانتهاكات ومؤشر إيجابي في نفس الوقت على ثقة الضحايا في هيئة الحقيقة والكرامة وفي إمكانية إنصافهم.

2-4-   انتشار الوعي بأهمية العدالة الانتقالية:

لم تكن قضية ضحايا الانتهاكات محل اهتمام كبير قبل الثورة نظرا للتعتيم حول كل ما يحصل في السابق. لكن تغيرت الأمور منذ سنة 2011، حيث ساهم المجتمع المدني والإعلام بشكل فعال في الاهتمام بالعدالة الانتقالية. كما أن وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية كان لها دور كبير في تنظيم حوارات مفتوحة حول الموضوع في جميع الجهات وبمشاركة عديد الأطراف وخاصة المنظمات الممثلة للضحايا. وقبل ذلك كان لهيئة التحقيق حول التجاوزات التي ارتكبت أثناء الثورة وهيئة التحقيق في الفساد والرشوة دورا هاما في إطلاع الرأي العام على خطورة الانتهاكات التي ارتكبت في ظل النظام السابق.

وقد ساهم كل ذلك في انتشار الوعي بمأساة ضحايا النظام الدكتاتوري وفهم آليات الاستبداد والفساد وآثاره المدمرة على المجتمع. وهذا يعتبر تعويضا نفسيا في حد ذاته لضحايا النظام السابق الذين يعتبرون اعتراف المجتمع والدولة بما تعرضوا له من انتهاكات شرطا أساسيا للتعويض والمصالحة.

3/ الصعوبات أمام مسار العدالة الانتقالية :

اعترضت مسار العدالة الانتقالية صعوبات عديدة منذ اللحظة الأولى ولا يزال الكثير منها مستمرا. إذ تميزت الانطلاقة ببعض الارتجال الذي يعود لطبيعة الظرف السياسي وما تميز به من توتر وضغوطات كبيرة. حيث صاحبت أعمال هيئتي التحقيق في التجاوزات وفي الرشوة المنشأتين في سنة 2011 العديد من الانتقادات والتشكيك نظرا لضعف الثقة في مؤسسات الدولة خاصة في تلك الفترة التي كانت تتميز بمستوى عال جدا من الاحتجاج. كما غابت برامج التوعية والتحسيس  في عمل الهيئتين وهو ما نتج عنه ضعف مستوى مساندة الرأي العام لهما ناهيك عن كون أكثر الاهتمام كان منصبا نحو انتخاب المجلس التأسيسي وتغيير النظام السياسي القديم وإعداد دستور جديد.

من ناحية أخرى، اعترى تكوين هيئة الحقيقة والكرامة بعض الصعوبات الناجمة عن التوتر السياسي الكبير في البلاد خلال فترة عمل المجلس التأسيسي والانقسامات الحادة في الساحة السياسية التي تأججت مع الاغتيالات السياسية. وهو ما أثر سلبا على عملية انتخاب أعضاء الهيئة وحال دون بناء توافق عريض حول تركيبتها. وكنتيجة لذلك تعرضت الهيئة لانتقادات كبيرة موجهة لأعضائها ولطريقة اختيارهم حتى قبل أن تنطلق في عملها بصفة فعلية.

والواقع أن تلك التجاذبات لم تكن سوى انعكاس لغياب التوافق حول مسار العدالة الانتقالية التي أصبحت في وقت ما أداة للحملات الحزبية وتصفية الحسابات السياسية. وهو ما أضر بالعدالة الانتقالية خاصة وأن النقاش انحصر في أغلب الأحيان في قضية التعويض المالي للضحايا عوضا عن التركيز على التحقيق في الانتهاكات واستخلاص العبرة منها وبناء تحالف قوي يجمع كافة قوى المجتمع لمقاومة الإفلات من العقاب والعمل المشترك على تطبيق الإصلاحات الضرورية لتفادي تكرار تجربة الماضي.

وكنتيجة لهذا المناخ المتوتر عرفت هيئة الحقيقة والكرامة بعض الصراعات الداخلية التي ساهمت في إضعافها لدى الرأي العام خاصة بعد استقالة4 أعضائها إلى حد الآن من جملة 15 عضوا. بالإضافة إلى ذلك فقد أثرت العراقيل التي تعترض الهيئة سلبا على مردودها خاصة فيما يتعلق بالتحقيق والوصول إلى الأرشيف حيث لاقت العديد من الصعوبات خاصة فيما يتعلق بالتحقيق في القضايا التي تشمل أمنيين متهمين بارتكاب جرائم تعذيب او غيرها. وهو أمر ناجم عن عدم تقبل البعض لمبدأ المحاسبة على الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبت في الماضي في حق النشطاء والمعارضين.

لقد خلقت تلك الوضعية مناخا متسما بالتوتر وغياب الثقة بين الهيئة والسلطة التنفيذية بعد انتخابات أكتوبر 2014 وهو ما يتضح جليا بمبادرة رئيس الجمهورية بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي يهدف إلى سحب كل القضايا المتعلقة بالرشوة والفساد المالي من هيئة الحقيقة والكرامة وإسنادها إلى هيئة خاصة تعمل تحت إشراف رئاسة الحكومة.

تعرض مشروع قانون المصالحة إلى حملة انتقاد واسعة من عديد المنظمات والأحزاب ناهيك عن هيئة الحقيقة والكرامة نظرا لتعارضه مع روح العدالة الانتقالية بسبب إهماله لمحاسبة المتورطين في جرائم الفساد الاقتصادي والمالي الذين غالبا ما كانوا يدعمون بقوة منظومة القمع والاستبداد نظرا لترابط المصالح بين الفساد المالي والاستبداد السياسي.

كما أن منهجية إعداد مشروع القانون كانت أحادية بدون مشاركة الأطراف المعنية بمسار العدالة الانتقالية وخاصة منها هيئة الحقيقة والكرامة، وهو تمشي يتعارض مع روح الدستور الجديد والتقاليد السياسية الجديدة منذ الثورة والمتميزة باعتماد الديمقراطية التشاركية خاصة حينما يتعلق بقضايا مصيرية مثلما هو الحال بالنسبة إلى العدالة الانتقالية.

4/ آفاق العدالة الانتقالية :

تعترض مسار العدالة الانتقالية تحديات كبيرة أمام تحقيق الأهداف المنشودة منها خاصة من طرف ضحايا النظام الدكتاتوري لكن ذلك لا ينفي وجود فرصة سانحة للنجاح ويتعين على جميع الأطراف العمل على حسن استغلالها لإنجاح المسار.

4-1- التحديات أمام العدالة الانتقالية :

تتمثل تحديات العدالة الانتقالية خاصة في القضايا التالية:

التوافق حول المسار : يعتبر تحقيق التوافق الكامل حول مسار العدالة الانتقالية شرطا أساسيا لنجاحه. ذلك أن التوافق يساعد على النأي بالعدالة الانتقالية عن الصراعات وتصفية الحسابات السياسية وتوفير الدعم السياسي الضروري لها.

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن مثل هذا التوافق كان ضروريا للمسار الدستوري الذي واجه صعوبات كبيرة في البداية ولم يكتب له النجاح إلا توافق جميع الأطراف والتزامها بمقتضيات التوافق. لذا فإن مسار العدالة الانتقالية يتطلب بدوره تحقيق نفس القدر من التوافق الذي بدونه سيكون من الصعب جدا الوصل إلى نتائج مقبولة.

ويمكن أن يحصل التوافق بتنظيم حوار يشمل جميع الأحزاب السياسية والمنظمات الفاعلة لمناقشة جميع القضايا الخلافية بما في ذلك تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة التي لا تحظى برضاء الجميع ومجال تدخلها الذي أصبح موضوع خلاف واضح الآن. ومن المؤكد أن العدالة الانتقالية ستكون أكثر نجاحا بمراجعة تلك الأمور إذا كان ذلك أمرا يقتضه التوافق العريض حول المسار.

إن تحقيق التوافق يتطلب ضرورة إبداء المرونة في القضايا الخلافية والقبول ببعض التنازلات من جميع الأطراف لتقليص هوة الخلافات والتوصل إلى حلول مقبولة للجميع. في المقابل سيؤدي التشبث بالمواقف القديمة إلى فشل محتم من شأنه يضيع فرصة تحقيق العدالة الانتقالية مع كل ما يمكن أن ينجر عن ذلك من تداعيات سلبية على المستوى السياسي والاجتماعي.

بناء الثقة بين الأطراف المعنية: يسود مسار العدالة الانتقالية مناخ من التوتر الكبير بين الأطراف الأساسية المعنية الذي يتميز بتبادل التهم وغياب الرغبة في التعاون مع هيئة الحقيقة والكرامة. وهو مناخ لا يصب في مصلحة مسار العدالة الانتقالية بلا أدنى شك.

ويتطلب بناء الثقة قيام الهيئة بعمل منهجي في اتجاه المتهمين في القضايا المعروضة عليهم لتفسير العدالة الانتقالية وأهدافها التي هي ليست “عدالة انتقامية” كما يتهمها البعض. ويمكن التعاون مع جميع المنظمات ذات العلاقة لتوضيح مسار العدالة الانتقالية وأهدافه النبيلة المتمثلة في تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية بعد كشف الحقيقة والمحاسبة العادلة البعيدة عن روح التشفي.

وهو مسار يخدم مصلحة المتهمين في آخر المطاف خاصة منهم الموظفين الذين استعملوا كأداة للقمع والذين يمكن اعتبارهم ضحايا النظام الدكتاتوري. فالعدالة الانتقالية تضمن لهؤلاء المحاسبة العادلة التي تتضمن فيما تتضمن العفو وفق شروط معينة. وفي كل الحالات فإن المتهمين لن يتعرضوا إلى أي إجراء تعسفي بدافع التشفي.

كما أن بناء الثقة ضرورية بين هيئة الحقيقة والكرامة والجهات الرسمية على اختلافها وخاصة منها السلطة التنفيذية. ويتطلب ذلك تفهم دور الهيئة وضرورة التعاون معها لإنجاز العدالة الانتقالية في ظروف معقولة.

والهيئة مطالبة في هذا الإطار بالمبادرة بالاتصال بتلك الجهات والقيام بدور تحسيسي لأهمية العدالة الانتقالية وتأثيرها على الاستقرار السياسي والاجتماعي بالعمل على معالجة تركة النظام السابق الثقيلة بالانتهاكات ومناهضة ثقافة الإفلات في العقاب للوصول إلى مصالحة وطنية تاريخية بعد إنصاف الضحايا. وهو ما سيعود على المنفعة العامة والمصلحة الوطنية بنتائج إيجابية وهامة تخدم مصلحة الجميع في اخر المطاف.

إن استمرار التوتر بين الطرف الحكومي وهيئة الحقيقة والكرامة سيكون مضرا للطرفين. لأن الحكومة ستظهر بمظهر من يتستر على انتهاكات النظام السابق مع كل ما يمكن أن ينجر عن ذلك من أزمات واضطرابات سياسية. أما الهيئة فستكون عاجزة عن أداء مهامها إذا لم تتحصل على الميزانية الضرورية لها أو وضعت العراقيل أمامها للنفاذ إلى الأرشيف الذي هو تحت إشراف السلطة التنفيذية بالأساس.

كسب ثقة الرأي العام: إن دور الرأي العام محدد في مسار العدالة الانتقالية وكسب ثقته وتعاطفه يعتبر شرطا للنجاح، وهي مسؤولية لا تقتصر على هيئة الحقيقة والكرامة فحسب بل ملقاة على عاتق جميع الأطراف الفاعلة حتى وإن كان للهيئة دور رئيسي في هذا المجال بحكم الاختصاص المسند لها بموجب قانون العدالة الانتقالية.

والواقع أن العدالة الانتقالية تعرضت لكثير من التشكيك والتشويه الذي أثر سلبا على موقف الرأي العام منها. ولتجاوز هذه الحالة ينبغي القيام بالكثير من الأنشطة الموجهة لتوعية المواطنين بالعدالة الانتقالية وحشد الدعم لها خاصة بتفسير أهمية مناهضة الإفلات من العقاب وإعادة الاعتبار للضحايا وتحقيق المصالحة الوطنية على أساس العدل والإنصاف وآثار ذلك الإيجابية على الاستقرار السياسي والاجتماعي بصفة عامة.

4-2-  الفرص المتوفرة لنجاح العدالة الانتقالية :

بقدر ما هنالك من صعوبات وتحديات كبيرة أمام مسار العدالة الانتقالية بقدر ما تتوفر فرص لا يستهان بها لنجاح المسار. من هنا أهمية الوعي بتلك الفرص واستغلالها على الوجه الأمثل وعدم الاقتصار على التركيز على الصعوبات.

التزام الدولة بمسار العدالة الانتقالية: يجب ألا ننسى أن مسار العدالة الانتقالية لم يكتب له الانطلاق إلا بعد التزام الدولة به وهو أمر على غاية كبيرة من الأهمية، لأنه من دون ذلك الالتزام لا يمكن للعدالة الانتقالية أن توجد أصلا بحكم أن الدولة هي قبل كل شيء طرف أساسي في المسار تتولى توفير الإمكانيات المادية لإنجاز العدالة الانتقالية وتضمن تنفيذ نتائج التي سترتب عنها سواء تعلق ذلك بمحاسبة المسؤولين أو تعويض الضحايا أو إدخال الإصلاحات الضرورية لتفادي تكرار الانتهاكات.

وقد كان واضحا أن التزام الدولة بالعدالة الانتقالية جدي منذ بداية سنة 2011 بإنشاء لجنتي التحقيق حول أحداث 2010-2011 وحول الرشوة والفساد إضافة إلى صدور العفو التشريعي العام. وقد تأكد ذلك الالتزام بقوة في الفصل 148-9 من الدستور الذي ينص على أن:

“تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء او بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن”.

بموجب هذه الأحكام الدستورية لا يمكن التراجع عن مسار العدالة الانتقالية إلا بتعديل الدستور. من هنا يطرح السؤال حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية سابق الذكر ومدى ملاءمته مع أحكام الدستور.

إن الفصل 148-9 من الدستور لا يمنع مراجعة القانون الأساسي 2013-53 إذا اقتضت الضرورة وإذا كان ذلك من شأنه أن يدعم مسار العدالة الانتقالية وليس العكس. والملاحظ أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية سحب صلاحية النظر في قضايا الفساد المالي والاقتصادي من هيئة الحقيقة والكرامة وأسنده إلى هيئة خاصة وهو أمر لا يتعارض مع أحكام الدستور مبدئيا لأن الهيئة تمارس صلاحيات مسندة بالتشريع وليس بالدستور وبالتالي يمكن مراجعة صلاحيات الهيئة بنفس الطريقة.

لكن الإشكال يكمن في معرفة هل أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية جاء ليدعم العدالة الانتقالية أم لا.

بالنظر في محتوى المشروع يتضح أنه يمثل تراجعا عن روح العدالة الانتقالية في جرائم الفساد المالي والاقتصادي التي هي وثيقة الصلة بالجرائم السياسية المرتكبة في حق النشطاء نظرا لعدم استقلالية الهيئة المكلفة بالبت في مطالب المصالحة في الجرائم الفساد المالي.

كما أن ضمانات المحاسبة الفعلية مفقودة في المشروع الذي هو أقرب ما يكون إلى قانون عفو لفائدة مرتكبي تلك الجرائم دون إعطاء الأهمية الكافية للمحاسبة ولضمانات عدم التكرار. لذا فإنه يتعين مراجعة محتوى مشروع قانون المصالحة الاقتصادية بما يجعله متماشيا مع مبادئ وأهداف العدالة الانتقالية والتزام الدولة القوي بتحقيقها مثلما يقتضي نص الدستور.

نجاح المسارين الدستوري والانتخابي في سنة 2014 : لقد عرفت البلاد تحديات كبيرة لإنجاز المسارين الدستوري والانتخابي في سنة 2014. وبالرغم الضغوطات الهائلة فإن ذلك لم يمنع من نجاح المسارين وذلك بالمصادقة على دستور توافقي في 26 جانفي 2014 تضمن على مكاسب هامة للبلاد التونسية بوضعه أساس نظام ديمقراطي عصري. كما نظمت انتخابات تشريعية ورئاسية في أكتوبر وديسمبر 2014 نزيهة ومقبولة من طرف الجميع تم على إثرها نقل السلطة السياسية بطريقة سلسة وحضارية.

ويمثل ذلك عاملا محفزا لنجاح مسار العدالة الانتقالية الذي يتعرض بدوره لضغوط وتحديات شبيهة بتلك التي تعرض لها المسارين الدستوري والانتخابي.

إن نجاح المسارين الدستوري والانتخابي لم يأت بمحض الصدفة بل كان نتيجة عاملين أساسيين. وهما قبول جميع الأطراف بالتفاوض لتجاوز العقبات بالرغم من الخلافات الكبيرة فيما بينها. وكذلك قبول كل طرف بتقديم التنازلات الضرورية لإنجاح المسار. ويمكن إنجاح العدالة الانتقالية باعتماد نفس التمشي بمبادرة هيئة الحقيقة والكرامة التي يتعين عليها أن تلعب دورا إيجابيا في هذا المجال وتعمل على تقريب وجهات النظر وبناء التوافق وإبداء المرونة الكافية لتحقيق تلك النتيجة.

نجاح تجربة الحوار الوطني:

تمثل تجربة الحوار الوطني خلال 2013 و2014 محطة مشرقة في تاريخ تونس كللت بالنجاح في إنقاذ مسار الثورة التونسية من العنف والفوضى والوصول بها إلى الهدف المنشود وهو بناء نظام ديمقراطي حقيقي جديد يقطع مع النظام القديم واتسم به من ظلم وفساد، وهي نتيجة ليست بالهينة إذا أخذنا بعين الاعتبار للانتكاسة الكبيرة لثورات الربيع العربي في البلدان العربية الأخرى.

ويمكن في هذا الباب استلهام التمشي الذي اعتمده رباعي الحوار الوطني والنسج على منواله لإطلاق حوار وطني حقيقي وغير إقصائي حول العدالة الانتقالية للتوصل إلى بناء توافقات تساعد على إنجاحه. إذ أن التجربة تبين مسارات العدالة الانتقالية لم يكتب لها النجاح في البلدان الأخرى إلا بفضل تحقيق مثل ذلك التوافق.

لذا فإنه يتعين استغلال نجاح تجربة رباعي الحوار الوطني والقيمة المعنوية للمنظمات الأربعة خاصة بعد الحصول على جائزة نوبل للسلام لدعم مسار العدالة الانتقالية. إذ يمكن التفكير مثلا في مؤتمر وطني للعدالة الانتقالية بمبادرة المنظمات الأربعة يدعى له جميع الأطراف ويكون نقطة لانطلاق الحوار حول العدالة الانتقالية بين جميع الأطراف حسب برنامج وسقف زمني متفق عليهما مسبقا. كل ذلك سيساهم في خلق مناخ إيجابي وكسر حاجز عدم الثقة الغالب إلى حد الآن على علاقة الأطراف الفاعلة في مسار العدالة الانتقالية.

  خـــلاصـــة:

إن العدالة الانتقالية مسار مصيري للنجاح الفعلي للانتقال الديمقراطي في تونس وطي صفحة الماضي المليئة بالانتهاكات والجرائم التي أرتكب في حق المواطنين الأبرياء بواسطة أجهزة الدولة التي استعملها النظام الدكتاتوري لتأبيد سطوته. وقد جاءت الثورة لتضع حد لممارسات ذلك النظام والقائمين عليه والمرتبطين به. لذلك فإن تحقيق العدالة الانتقالية هو مطلب من مطالب الثورة التي لا يمكن التنكر لها.

كما أن نجاح هذا المسار يعتبر هدفا لا بديل عنه وهو يصب في مصلحة الجميع في آخر المطاف بما في ذلك الأشخاص المورطين، وهو يفتح للمجموعة الوطنية طريق الاستقرار والمصالحة الحقيقية بين المواطن والدولة ويساعد على بناء الثقة في مؤسساتها بما يسمح ببناء مجتمع ديمقراطي متحضر يقوم على المساواة التامة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

إن الصعوبات التي تمر بها العدالة الانتقالية اليوم يجب ألا تؤدي إلى أي تراجع عن هذا المسار الذي بذلت لأجله تضحيات كبيرة. على العكس من ذلك، فإن الجهود يجب أن تتضاعف وتتضافر لمعالجة الصعوبات القائمة بعد تشخيصها والاتفاق حول الحلول الكفيلة بتجاوزها. وهي حلول موجودة وممكنة إذا ما توفرت نفس الإرادة التي عملت على تجاوز الأزمة السياسية الكبيرة في سنة 2013 بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي.

 

عمر البوبكري(*)

 

المصدر: الصباح، 8-10-11-13-15-18 ماي 2016.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)-  أستاذ محاضر في القانون العام بالجامعة التونسية -عضو سابق في لجنة الخبراء التابعة لهيئة الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق