رأي

هجرة العقول العربية: الأنظمة ليست المتهم الوحيد

     الأنظمة العربية ليست هي الوحيدة المسؤولة عن هجرة العقل العربي، بل إن بعضهم يُهاجر طلبًا للمال وبعضهم يُهاجر لأنه بلا مبادئ ولا يشعر بمسؤولية تجاه بلده، وبعضهم يهاجر بحثًا عن الراحة والأمان بسبب الضغوطات والمضايقات التي يتلقونها من بعض العقول والعلماء الآخرين، وهذه الأسباب هي وراء زيادة نسبة الهجرة بين العقول العربية وهي الأسباب التي يجب مواجهتها وحلّها.

مشكلة هجرة العقول العربية التي نسميها “استنزاف العقول”، أصبحت محلّ بحث واهتمام، حيث أنها تُدرّس في بعض الجامعات، وأصبح هذا الموضوع يطرح باستمرار في الإعلام وأحد الأسباب التي تؤثّر كثيرًا على التنمية العربية بكافة مجالاتها.

هناك الكثير من العوامل التي تدفع العقول العربية إلى الخارج، ومنها الضغوطات الاجتماعية التي يتعرّض لها المثقف في المجتمع العربي، وبعض الشروط والأحكام الدينية بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تشكل أحد أهم أسباب الهجرة العربية، وبالإضافة إلى ذلك فإن حالة الحرّية والديمقراطية الرفاهية التي يعيشها الغرب تشكّل عامل جذب للعقول العربية.

بعض الأكاديميين والباحثين يعزون سبب هجرة العقول العربية لأسباب وعوامل سياسية، ويقولون إن قمع الأنظمة السياسية الحاكمة وكراهيتها لأصحاب العلم والمعرفة يدفعها لاتخاذ إجراءات قمعية ضد المثقفين والعلماء والمفكرين والأكاديميين، من أجل طردهم تحت مظلة الهجرة الطوعية.

وهنا تجب الإشارة إلى أن هذه الأنظمة والجهات تدفع العقول العربية للهجرة من خلال عدم إشعارهم بالأمان داخل بلدانهم واعتقالهم ومضايقتهم ودفعهم للهجرة إلى الغرب الذي يمد يده لهذه العقول ويمنحها الأمن والأمان.

إقصاء المثقفين:

من خلال البحث في المنظمات غير الحكومية أو في المواقع الإلكترونية، نلاحظ أن هناك مثقفين ومفكرين عربًا لا يظهرون عليها أو في نشاطاتها. هذه مواقع ومنظمات لها أعوانها وكتّابها، وهي تبقى حكرًا عليهم. أما المواقع التي يظهر عليها هؤلاء الذين لا حظ لهم مع بعض المواقع والمنظمات، فتحرم الطرف الآخر من الظهور، أي أن منع ظهور بعض الآراء ليس حكرًا على جهة دون أخرى.

إنها سياسة قمع الآراء وإخفاء وجهات النظر الأخرى، وهذه سياسة قبيحة وأثرت سلبًا على الأجواء العربية، وفتحت أبواب الكراهية والبغضاء وأدّت في النهاية إلى صراعات داخلية عربية دموية.

وأحد عوامل هجرة العقول هو قمع المثقفين للمثقفين، فالأكاديميون والمثقفون الذين يتحدّثون بمقت عن ظاهرة استنزاف العقول، يساهمون في كثير من الأحيان بصورة مباشرة في رفع حدة الاستنزاف ودفع العديد من الكفاءات خارج البلاد، ومن المؤسف أن المثقفين هم أدوات هذه السياسة القمعية، وهم الذين يمارسون هذا القمع ضد زملائهم دون أن يبخلوا في الحديث عن الديمقراطية. هم يؤيّدون موقفًا معينًا من الناحية النظرية، ويمارسون عكسه على أرض الواقع.

وربّما يعود هذا في الغالب إلى التربية الانتهازية التي لا تتمسك بمبدأ، والتي دائمًا لديها الاستعداد للتنازل عن المبدأ لحساب المصالح الخاصّة. هذه التربية تؤثّر في المثقف الذي يُصبح لديه الاستعداد لأن يبيع نفسه للأنظمة العربية والقوى الأجنبية حتى لو أدّى ذلك إلى هلاك العرب. مثل هذا المثقّف لديه الاستعداد لأن يخون أمته مقابل القليل من المال.

تجار المعرفة:

من المؤسف أيضًا، أن الكثير من المثقفين والباحثين والعلماء العرب قد طوّعوا أنفسهم للدول الغربية التي تملك المال وتهتم بدراسة المجتمع العربي والثقافة العربية، من أجل تطوير قدراتها التخطيطية والتطبيقية. دولٌ أوروبية وأميركية عدّة وجدت أن الاستعمار التربوي أكثر فعالية من الاستعمار الاقتصادي أو الاستعمار التقليدي، لأن في ذلك ما يجعل الشخص المستهدف غربيًا بالتربية، وأن يهجر وطنه وشعبه بسبب إعجابه بحضارة غيره.

استعملت هذه الدول الاستعمار الفكري والتربوي من أجل تحويل الناس عن ثقافاتهم، وتحوّلهم عن الانتماء لأوطانهم وشعوبهم لصالح الدول الغربية التي تؤكّد دائمًا على مصالحها. مثقفون وكتاّب وأكاديميون عرب كانوا الوسيلة أو الأداة التي يتم استخدامها من أجل تحقيق هذا الهدف. الناس يشعرون بالخوف من الباحثين الغربيين والأكاديميين ولا يتعاونون معهم بالشكل المطلوب للدراسات العلمية، فكان البحث عن تجار معرفة عرب، أفضل من إهدار الأموال على غربيين لا يستطيعون جمع الحقائق عن المجتمع العربي.

الباحث العربي هو ابن المجتمع، ويتمتّع بدرجة من الثقة، وبإمكانه أن يتداخل بسهولة في صفوف مواطنيه دون أن يثير الشبهة، وهو بذلك متفوّق على نظيره الغربي. لقد وجدت الدول الغربية مثقفين وأكاديميين كثراً يمكن أن يتعاونوا معها كتجار للمعرفة، الدول الغربية تقدم المال، والعربي يقدّم المعلومات، وبهذا يكون العربي مصدر معلومات ثمينة يمكن أن توفّر أرباحًا على سيّده أكبر بكثير من الأموال التي ينفقها على المنظمات غير الحكومية.

وهناك إسلاميون ينتمون إلى فئات إسلامية لم يبخلوا بأنفسهم للقيام بأبحاث علمية عن الحركات الإسلامية، وبالتأكيد ساعدت أبحاثهم السياسيين الغربيين على اتباع سياسات أكثر وضوحًا ومستندة إلى معارف من مصدرها الأصلي.

مؤسسات الديمقراطية:

أقيمت على الساحة العربية مؤسّسات غير حكومية للترويج للديمقراطية، وهناك أعداد كبيرة من المثقفين الذين يرون في الديمقراطية مخرجًا من المآزق السياسية التي تعيشها الدول العربية، وهم لم يجدوا صعوبة في العمل للترويج للديمقراطية، رغم أنهم من أقل الناس ديمقراطية في الواقع العملي.

هؤلاء المثقفون يمارسون الوساطات في توظيف العاملين معهم، ولا يتوانون عن قمع العاملين الذين يمكن أن يحتجّوا على نوعية التدريس الذي يقدّم لجمهور الناس. وهم أيضا انتقائيون في الأبحاث التي يطلبونها، ولن تجد أحدًا منهم يستقبل بحثًا يتناول أوجه تقصير النظام الديمقراطي، الأبحاث المقبولة هي تلك التي تستنتج في النهاية أن النظام الديمقراطي هو أفضل الأنظمة السياسية ويجب احتضانه.

يمكن أن يكتب أكاديمي بحثًا أو مقالًا في غاية الدقة والمنطقية والعلمية، لكن لا يحظى بحثه بالنشر بسبب سطر واحدٍ لا يتناسب مع رؤية صاحب الموقع أو المنظمة، لقد رفضت جمعية بحثية نشر كتاب عن الشيخ عز الدين القسّام بسبب جملة واحدة تقول إن الحاج أمين الحسيني لم يتعاون مع الشيخ القسام في إشعال ثورة فلسطينية عام 1935، وموقع آخر رفض نشر مقال بسبب العنوان وقبل أن يقرأ المقال، علمًا بأن العنوان قد يكون تهكميا أحيانا. وموقع آخر رفض مقالًا لأنه قال إن أغلب الإرهابيين المسلمين ليسوا من أهل الشيعة، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك.

وفي النهاية نقول إن بعض المثقفين الذين ليس عندهم مبدأ يسعون إلى تحصيل المال لقهر مثقفين آخرين وللضغط عليهم، مما يشكل سببًا لطرد العقول العربية. هناك مشكلة كبيرة في الإعلاميين الذين يطوّعون أنفسهم فقط لخدمة صاحب وسيلة الإعلام، وفي المثقفين الذين يعملون مع أجهزة المخابرات العربية.

الأنظمة العربية ليست وحدها المجرمة الطاردة للعقول، بل هناك أصحاب عقول يعملون دائمًا على اضطهاد عقول عربية وطردها، وهذه مسألة تحتاج إلى علاج ومواجهة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق