
محمد الهاشمي عباس:
صدرت كتب ممجدة لبورقيبة في حياته وبادر وزراؤه والمسؤولون والسياسيون بنشر مذكراتهم مبرّئين ذممهم إثر وفاته، ورغم تأرجحها بين الذاتية والموضوعية تبقى مفيدة للمؤرخ الذي سيقارنها دون شكّ بمراجع أخرى.
ومن حقّ المناضل عبد الله بشير الوالي والكاتب العام للجنة التنسيق الحزبي بالمنستير سابقا أن يضيف إليها مرجعا جديدا بنشره سنة 2014 كتابه: «مذكرات من مواقع مسؤولياتي». فالمؤلف سليل أسرة دستورية وطنيّة، ووالده من الرعيل الأول للحزب الحرّ الدستوري الجديد ومن العناصر التي عوّل عليها الزعيم الحبيب بورقيبة، وقد أظهر مع القِلّة الإخلاص والتفاني فاعتُمد عليه عند الانشقاق المبارك عن اللجنة التنفيذية واعتُمد عليه في نشر الحركة التصحيحية للحزب، ألا وهو المناضل الكبير المرحوم سالم بشير الذي كان من جملة مؤسسي الشعبة الدستورية الأولى بالمنستير وكان باستمرار أمين مالها رغم ما ألصقه به خصومه وخصوم الديوان السياسي وما أشاعوا عنه من التهم.
نشأ المؤلّف في رعاية والده وكلّفه رغم صغر سنّه بأعمال دقيقة منذ معركة التحرير خاصة عند اعتقاله وإن لم تبلغ به حدّ السجن أو المحاكمة.
وبعد الاستقلال، تقلّب في عدّة مسؤوليات بداية من معتمد ثم كاتب عام للجنة التنسيق الحزبي بالمنستير إلى أن انتخب عضوا بمجلس الأمة. وقد أبرز نشاطه في كتابه الذي كان استعراضا لسيرته الذاتية في غير تواضع أو في تواضع متكلّف معتمدا في بعض الفصول على لغة معسولة (كما قال) يستحسنها أصحابها.
والكتاب زاخر بالأحداث التي تتفاوت في الأهمية وإن كان بعضها فيه كثير من المراوغة والتزلّف ومجانبا للحقيقة، يستوجب بذلك التصحيح وإرجاعه إلى نصابه حتى يستقيم ويلتقي مع شهادات أخرى كثيرة من بينها ما جاء بكتابي «بورقيبة ونويرة، ذكريات ومذكرات» (الصادر بتونس في طبعته الأولى سنة 2010). وفي الحقيقة، يكاد بعض مواضيعه يكون شبيها بما جاء في كتابي كما يكاد أن يكون معبّرا عن نفس المعاناة التي اعترضتني من دسائس ومظالم، وهذا مهمّ للبحث المنهجي عن التقاطعات بين شهادتينا التاريخيتين.
ولعلّ من أكثر المواضيع جدارة بالتصويب التالية:
المحور الأول: تعميم التعاضد وما انتابه من سلبيات كبرى: وهذا لا يبرّئ صاحبه أحمد بن صالح من المسؤولية التي يتحمل جلّ نتائجها أو كلّها، حتّى وإن كان بعض الإطارات بالغوا في الغلوّ في مسيرة التعاضد مما دفع بعضهم الى إفشالها والتوجّه بها نحو ممارسات صادمة مثلما حصل في بعض الجهات وأذكر مثلا ما حدث في الوردانين.
لكنّ السيد عبد الله بشير يقرّ بإصرار أنّ جهود السيد أحمد بن صالح كانت ترمي إلى تحسين حالة ضعاف الحال ومساعدتهم في جلّ القطاعات التجارية والفلاحية…
وهنا وجب التصحيح ولو بشيء من التبسيط، وهو ما أدرجته بكتابي «بورقيبة ونويرة» تحت عنوان «الفترة الحاسمة من الاشتراكية الدستورية» (الجزء الثالث) حيث جاء بالخصوص: «اهتم بورقيبة منذ تسلّم زمام الحكم بالاقتصاد دون أن ينتظر إجلاء الجيوش الأجنبية أو استرجاع الأراضي التي كانت على ملك المعمّرين والشركات الرأسمالية الأجنبية إلى الحضيرة الوطنية، فعمل على إصلاح الأوضاع الاقتصادية المنخرمة بإزالة الاختلال وتلافي التفاوت بين مختلف الجهات. وفي مؤتمر الحزب الحاسم بصفاقس سنة 1955 قدّم أحمد بن صالح الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل تقريرا مطوّلا تضمّن الدعوة إلى الاشتراكية باعتبار أنّ دور الحزب قد انتهى. وتعهّد بورقيبة بقبول الاشتراكية لكن بعد قيام أسس الدولة الجديدة والموافقة على لائحة الحكم الذاتي. وفي تشكيلة حكومة الاستقلال الأولى عرض عليه بورقيبة إحدى الوزارات فرفض والسبب أنّه ميّال إلى العمل النقابي ويهوى الإضرابات واحتلال أماكن الشغل وكان يتّخذ من ذلك التهريج طريقة للوصول إلى الحكم وطالب بمؤتمر نقابي لتحقيق الوحدة العضوية بين الحزب واتحاد الشغل حتى يتمّ إدماج الحزب في الاتحاد النقابي ويمكنه من إقامة حزب عمّالي وإزالة الحزب الدستوري، فتفطّن بورقيبة وعندئذ وقع تكوين منظمة شغيلة منافسة للمنظمة التي يتزعمها. ولمّا قلّ أنصاره نودي بإعفائه من الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل وأظهر الانكماش والتكتم.
وبعد مدّة أي في سنة 1957، عُهد إليه بشؤون وزارة الصحة ثم أضيفت إليه وزارة الشؤون الاجتماعية في سنة 1959.
ظلّ المجاهد الأكبر يبحث عن منهج اقتصادي قويم يخلّص البلاد والعباد من الخصاصة والفقر ويرفع مكانة المواطن وعزّته، ولا يمكن له ذلك إلا بضرورة إصلاح العقليات وإقامة أسس اقتصادية جديدة في نطاق ثورة قادرة على تطوير الفرد.
وقدّم أحمد بن صالح في مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل مشروع برنامجه الاشتراكي التعاضدي وقبله أيضا مؤتمر الحزب الحرّ الدستوري لسنة 1964 وأعجب بورقيبة به وتوسّم فيه الكافل لانعتاق الإنسان التونسي من التخلّف والضامن للخروج منتصرا من هذه المعركة الجديدة للتنمية كخروجه من معركة التحرير.
أخذ بورقيبة يدعم زعيم الاشتراكية وقد عرف هذا كيف يقنعه ويبعد عن ظنونه خيال الاشتراكية الشيوعية إلى درجة اعتقاده أنّه الرجل الوحيد الذي جعله يتصوّر ما سوف تكون عليه تونس في السنوات العشرين القادمة، ومنحه التأييد المطلق، حيث قال : «إنني أتحمل شخصيا مسؤولية التخطيط فإنّي أحميه وأضعه تحت سلطتي، فمن الآن فصاعدا يتبنّى الحزب مهمة التخطيط». ومنحه صلاحيات وحرّية في الميدان الاقتصادي وفي الميدان السياسي بصفة عامة، وأسند إليه في نوفمبر 1960 مسؤولية وزارة التخطيط ثم في جانفي 1961 المالية والتجارة ثم مسؤولية وزارة الصناعة في سنة 1962 ووزارة الفلاحة في سنة 1964 ثم وزارة التربية القومية سنة 1968. وعيّنه قبل ذلك عضوا في الديوان السياسي للحزب في 07 نوفمبر 1961، وذلك على الرغم من عدم انتخابه ضمن اللجنة المركزية للحزب أثناء مؤتمر سوسة سنة 1959.
ويمكن القول إنّ تونس خاضت التجربة الاقتصادية الجديدة ما بين 1961 و1969 أي حوالي عقد من الزمن كان بطلها أحمد بن صالح يجمع بمفرده خمس وزارات، فكان كلّما اشتكى إلى بورقيبة ممّا يصادفه من عراقيل وزارة ما أحالها على إشرافه فأصبح لأحمد بن صالح سلطة مطلقة ونفوذ واسع لا يحدّه شيء.
وأقرّ المخطط التمهيدي الأول سنة 1961 وتلاه المخطط الثلاثي الأول. وأعلن بورقيبة في إحدى خطبه في شهر فيفري 1963 في معرض حديثه عن المعركة ضد التخلف ما يلي: « وفي هذه الظروف يفرض الواقع علينا أن نحدّ من الحريات ومن امتيازات الملكيّة وينبغي أن نستخدمها لبلوغ إنتاجيّة أفضل ومردوديّة أعلى لفائدة مجموع المواطنين « .
وفي تلك السنة (1963) وقع الإصلاح التجاري، بسرعة بل بتسرّع قضى على مسالك التجارة التقليدية وعوّضت بشبكة مركزية من وكالات الدولة والتعاضديات، وأجبر التجّار على الاهتمام بالوحدات الجماعية، وتمّ القضاء على الدكاكين الصغيرة التي كانت منتشرة في كل مكان وأغلب أصحابها من جزيرة جربة. ثم قفز إلى الأمام إلى القطاع الفلاحي وشجّعه على ذلك تأميم أراضي المعمّرين الأجانب بفضل قانون 12 ماي 1964، وقد كانت من بين أخصب الأراضي وهي تمتد على ما يناهز أربع مائة ألف هكتار، فأصبحت نواة تعاضديّات ووحدات إنتاجيّة تتجمّع حولها كامل الأراضي الأخرى. ولمّا نفر المزارعون من عمليّة الاندماج عمد إلى أساليب القهر فأرغمهم على الانضمام. وسمّي العمال المزارعون بالمتعاضدين في حين كانوا يتقاضون أجورا في الغالب عن طريق حضائر البطالة. ولمّا عجزت الميزانية عن دفع أجورهم عوّضها بالموادّ الغذائية كالزيت والسميد. وبلغ عدد العاطلين ثلاث مائة ألف عاطل يمثّلون 5 % من السكّان.
وبدأت الفوضى تلوح على الكثير من الوحدات فأصبح بعضها بورا مهملة وأخرى استوعبت عددا من العمّال أكثر من طاقة تحمّلها واحتياجها، واعتمد العمل فيها على الطرق البدائية متجاهلين التقنيات العصرية. وأوكل أمر هذه الوحدات إلى مجالس إدارية اغلب أعضائها كانوا أمّيين أو شبه أمّيين ليس لهم القدرة على فهم الأهداف والمرامي من الإصلاح. ولم تمض فترة طويلة حتى أضيفت إلى هذه التعاضديات الماشية التي كانت على حساب المزارعين فازداد الوضع سوءا وبات المربّي يجوب المدن والأحياء ينادي بأعلى صوته لتصريفها بأبخس الأثمان.و يذكّرنا هذا ببعض المواد التي تفوق الاستهلاك فيضطرّ صاحبها الى ترويجها بالأحياء الشعبية بأثمان زهيدة للتخلص منها.
واعتُبر من باب التملّق أن أقدم البعض من الأتباع على اقتراح تسمية البرنامج «الاشتراكية البورقيبية». وسرعان ما وقع العدول عن ذلك وسمّيت «الاشتراكية الدستورية» لمّا حُرّر النص النهائي وحصل على موافقة الرئيس بورقيبة والديوان السياسي وتبنّاها المؤتمر السابع للحزب ببنزرت (سنة 1964) الذي أطلق عليه (مؤتمر المصير) والذي اعتمد هذه الاشتراكية في القطاعات الثلاثة: العام والخاص والتعاضدي دون تفريق أو تمييز بينها. ومن قراراته أن أصبح الحزب يسمّى «الحزب الاشتراكي الدستوري». وأُنشئت لأول مرة لجنة مركزية للحزب على غرار الأحزاب الشيوعية لتشمل جميع الوزراء والولاة والمسؤولين الجهويين للحزب وكبار الموظفين وعُدل عن انتخاب الديوان السياسي وعُهدت مسؤولية اختيارهم إلى رئيس الحزب من بين أعضاء اللجنة المركزية.
وأصبح الحزب يستوعب المنظمات القومية: الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد القومي للمزارعين والاتحاد النسائي، أما الاتحاد العام التونسي للشغل فكان يواكب اتجاه الحزب ولم يخضع لسلطته نظرا إلى ما يتمتع به من نفوذ وقوة.
كما قرّر بورقيبة أن يتولّى الولاة اجتماعات الحزب والمنظمات بما في ذلك اتحاد الشغل.
وبعد مؤتمر الحزب أُنشئت شُعب دستورية مهنيّة داخل المؤسسات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية قصد مضايقة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي عارض التوجه الجديد، وأعلن في غرة ماي استقلالية الاتحاد. ولم يتقبل الحزب الموقف وعمل على إقصاء الحبيب عاشور عن المنظمة مستغلا حادث حريق شبّ في سفينة تربط بين صفاقس وجزيرة قرقنة كان يرأس شركتها فتمّ تعويضه بأحد مؤسسي الاتحاد البشير بالآغه الذي شغل منصب وال. وهكذا أصبح الوضع السياسي مهيّأ تماما لأحمد بن صالح خاصة بعد وفاة الطيب المهيري وزير الداخلية. وتمكّن ابن صالح من تعيين عناصر جديدة بالإدارات الجهوية وكذلك الحبيب بورقيبة الابن وزير الخارجية الذي كان لا يُخفي مساندته الى درجة أنه اعتبر أنّ السياسة الاقتصادية للبلاد تفرض تبنّي وزير التخطيط اختيار السفراء. كما أحكمت الخطة القبضة على جهات الجمهورية واعتمد ابن صالح على عناصر مخلصة وذات قوة كبيرة، وهكذا أحكم الخناق على أوضاع البلاد واختفت أيّة معارضة على صعيد التنظيمات وأيّة آراء انتقادية.
وبدأت تلوح بوادر رفض بعض المزارعين الصغار للانضمام الجبري إلى الوحدات التعاضدية في مساكن وفي جبنيانة، كما سجّل تململ بين جموع التجار في الوطن القبلي والساحل وهيجان وتمرّد ومصادمة وهو ما حصل في الوردانين في 27 جانفي 1969 حيث رفض السكان إزالة طوابي «الهندي» الفاصلة بين أراضيهم وزياتينهم لفائدة التعاضدية المحلية المحدثة وتصدّوا للجرّارات وتصادموا مع قوات الأمن فسقط قتيلان وعشرات الجرحى، وكان أشرف على العملية كاتب الدولة للرئاسة (أي الوزير الأول آنذاك) الباهي الأدغم الذي طلب منه الرئيس ألاّ يقع اللجوء إلى استعمال القوة بحال، وخاطب هو بدوره الوالي عمر شاشيّة لكنّ هذا الأخير أجابه مؤكّدا أنّ رزنامة إقامة التعاضديات قد وضعت بعد وأنّه لا يمكن التراجع فيها، كما أشعره بأنّه سيخاطب أحمد بن صالح في الموضوع. ويصرّح الباهي الأدغم بعد انتهاء التعاضد وسؤاله عن عمله هذا وتحميله مسؤولية إجباره تعميم التعاضد بأنه قام بهذا العمل وهو غير مقتنع، وقال بعد النزول من الجرّار: «ربّي يغفر ويسامح ” .
كما أنّ السيد علاّلة العويتي الكاتب الخاص لبورقيبة طلب منه أن يكاشف الرئيس عن حقيقة الأوضاع فأجابه: ” أنت تريد أن تسحب منّي كرسي الوزارة الأولى. ”
وصل الوضع في البلاد إلى الهاوية، وبدأت تظهر المعارضة وعمد بعضها إلى أعمال الاضطراب وتعدّت إلى قطع رافعات الخطوط الهاتفية. وجاءت تقارير سرّية من المجلس الاقتصادي الأوروبي بتاريخ فيفري 1968 ومن البنك العالمي منبّهين إلى حالة التردّي الاقتصادي في البلاد.
كما تجدر الإشارة إلى أنّه أثناء سياسة تعميم التعاضد بدأ التململ يشمل أوساط النخب السياسية وهياكل الحزب الحاكم نفسه. وفي الأثناء، في 04 مارس 1967، ألمّت بالرئيس بورقيبة أوّل أزماته الصحية الخطيرة التي كانت على إثر الصدمة التي تلقّاها في حفّوز بمنطقة خيط الوادي عندما عاين فشل سياسة التعاضد. وقد أثارت هذه الأزمة الصحّية الأطماع في خلافته وأصبح الجميع يفكّر في أنّ بورقيبة قد يغيب وفي من سيخلفه، وقد بدأت تتحرك الطموحات الشرعية وغير الشرعية وأصبح البعض يفكّر في اختيار موقع يوصله الى الخلافة.
وما لبث بورقيبة أن استردّ عافيته بعد فترة قصيرة، ولكن منذ ذلك اليوم أخذ أمر الخلافة يتصدّر اهتمامات الجميع حافزا أحمد بن صالح كي يدفع مخطّطاته بسرعة الى تطبيقها مهما كانت التكاليف حتى لا يقع التراجع عنها. وازداد تدهور الأوضاع سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيا وبدأ الناس في حيرة على مستقبلهم.
وكان أحمد المستيري، وزير الدفاع، اغتنم فرصة اجتماع المجلس الأعلى للتخطيط برئاسة أحمد بن صالح في 6 جانفي 1963 وانتقد بشدة سياسة التعاضد. ولم يكتف بهذا الأمر بل أبلغ وكالات الأنباء الأجنبية بموقفه المستند الى جهاز الدولة الذي أصبح لا يؤدّي دوره بشكل طبيعي واستقال من الحكومة ورُفت من الحزب.
كما تجدر الإشارة أيضا إلى التقرير الذي قام بإعداده سفراء بلدان المجموعة الاقتصادية الأوروبية والذي أقام الدليل على أنّ جميع كشوفات الميزانية الرسمية كانت خاطئة والإحصائيات مزيّفة وأنّ تونس مهدّدة بكارثة اقتصادية وبوضع سياسي خطير…
والقطرة التي أفاضت الكأس هي تقرير صدر عن سفير فرنسا آنذاك وكان سرّيا جدّا لكنّه سُرّب وأشعل النار في تونس وكانت الأزمة الكبرى التي اندلعت في 1969.وكان المسؤول الأوّل عن الاقتصاد يستهين بالأحداث التي كانت تتضاعف حدّتها يوما بعد يوم، ويستخفّ بغضب المواطنين وخاصة الفقراء ولم يعر اهتماما بالانتقادات الحادة الصادرة عن جامعة هارفارد الأميركية وأخرى من قبل البنك الدولى الذي تنبّأ بإفلاس البلاد وبأنه لن يوافق مستقبلا على منح أيّ دعم مالي.
ولكن ازداد ابن صالح تعنّتا وإصرارا. ففي 3 أوت 1969 بمناسبة عيد ميلاد بورقيبة وهو مريض وطريح الفراش بالحمامات، عرض عليه مشروع قانون يقضي بتعميم النظام التعاضدي على بقية القطاعات بعد القطاع الفلاحي فاندهش بورقيبة للأمر وذكّره بما اجتمعت عليه كلمة المؤتمرين في بنزرت من ضرورة إقرار ثلاثة قطاعات، وادّعى ابن صالح أنّ المشروع حظي بموافقة الجميع. وأمام هذا الإصرار طلب الرئيس من الباهي الأدغم دعوة مجلس الجمهورية إلى الانعقاد، كما حرص بورقيبة على أن يبيّن كلّ عضو موقفه كتابيا بنعم أو بلا وأن يوقّع على إجابته. ويقول الرئيس: “في الأثناء تقابل السيد الهادي نويرة صدفة مع السيدة وسيلة التي أبلغته عدم موافقة الرئيس على مشروع أحمد بن صالح فتنفّس الصعداء, ثم التأم مجلس الجمهورية وكان أعضاؤه على بيّنة من موقفي وسجّلت مداولاته وقد عبّر السيد الهادي نويرة وحسّان بلخوجة وبعض الأعضاء الآخرين عن معارضتهم الباتة فكانت لهم الأغلبية”.
وأعلن بورقيبة أنّه قرّر وضع حدّ للسياسة الاقتصادية التعاضدية الاشتراكية فقال: “انتهى بنا الأمر إلى التساؤل عن حدود النظام التعاضدي، فهو مقبول طالما لم يخلّ بالتوازن”. وبمقتضى بلاغ رئاسي موجز بتاريخ 8 ديسمبر أقيل أحمد بن صالح من المناصب الوزارية ما عدا وزارة التربية القومية.
وفي 22 سبتمبر إثر مرسوم جمهوري وضع حدٌّ للتجربة الاشتراكية الدستورية وقام كاتب الدولة للرئاسة بإبلاغ الولاة قرارا يخوّل استرجاع ممتلكات المتعاضدين المطالبين بسحب أراضيهم الخاصة من حيّز التعاضديات ووحدات الانتاج. لكنّ هذا القرار لم يأخذ طريقه لإدخاله حيّز التنفيذ شأن القرارات العادية ولم تبلّغ به السلط المحلية وخاصة بعض الولاة المتعاطفين مع ابن صالح لم يأذنوا بتنفيذه بل حاولوا تجاهله، من ذلك مثلا ما حصل بمعتمدية حفوز التي كنت معتمدا بها وكان على رأس ولايتها (القيروان) السيد المنجي الفقيه المتشيع لوزير الاقتصاد وكان من الفئة القليلة الرافضة التي تريد الإبقاء على سياسة التعاضد فأصدر التعليمات بوجوب التريّث في تطبيق قرار حلّ التعاضديات، وإزاء هذا اشتدّ غضب المواطنين الى درجة التمرّد والعصيان على السلطة في بعض المناطق واقتحموا الاسطبلات وافتكّوا أغنامهم وصدرت تعليمات لمنعهم ولو باستعمال القوة.
أمّا ما حصل في معتمدية حفوز، فقد بقيتُ بين الإقدام والإحجام إزاء تعليل أصحاب هذا التوجه الأخير وهم جماعة وزير التخطيط والاقتصاد من أنّ وحدات ولاية القيروان لا تدخل ضمن قرار الرئيس وكان تصرّفهم وتحرّكهم ينذر بالخطر. وكانت كل ساعة تأخير لها حسابها, وكان اندفاعهم جامحا كالسيل الجارف وكأنهم يريدون أن يقتصّوا لأنفسهم مما سلّط عليهم من ظلم وحيف. ولولا رصيد الثقة المتبادلة بيني وبينهم أثناء تركيز التعاضد الإجباري وقبله، وهي الوسيلة الوحيدة التي شفعت في كبح جماح اندفاعهم والتريث الى يوم آخر للاستجابة لطلبهم، لما انسحبوا بكل هدوء واقتناع. وعلى إثر ذلك أشعرت الوالي بخطورة الوضع، لكنه أصرّ على إبقاء الحالة على ما هي عليه لمفهومه ومفهوم جماعته، وخيرته بين أمرين، إمّا أن يتوجه الرئيس مرة أخرى الى مخاطبة الشعب ورفع الالتباس، وإما الإذن لي بتمكين المواطنين من أغنامهم لأنهم عازمون على افتكاكها بكلّ الوسائل وحتى إذا تبين من بعد أنّ قرار الرئيس لا يشمل هذا النوع من الوحدات أتعهد أنا شخصيا بجمعها مرة أخرى من أصحابها وأتحمل مسؤولياتي كاملة.
رغب السيد الوالي في إمهاله بعض الوقت حتى يصدر لي الأوامر، ولم يطل انتظاري حتى أعلمني هاتفيا بموافقته على الأمر الثاني بشرط الوفاء بما تعهدت به. وأصدرت التعليمات في إعادة مختلف الحيوانات الى أصحابها ولا تسأل عن فرحتهم وكيفية استقبالها فقد بلغ ببعضهم ضمّها إلى صدره وتقبيلها بشدة وهو يقول: “ع السلامة يا نعيجتي”، وكأنه استعاد قريبا عزيزا طال انتظاره.
هذا، ومما يجدر التعرّض إليه شهادة وقائع مفجعة منها أنّه وقع قلع ثمانية آلاف شجرة زيتون بزغوان فأصبحت هذه المنطقة خالية وكأنها صحراء… وما حصل فيها أدهى وأمرّ وقد اكتشفته أنا شخصيّا حين تمّ تعييني معتمدا بها إثر التراجع في التعاضد.
فقد كانت زغوان المركز والقاعدة التي أحكمت منها سياسة تركيز التعاضد الإجباري وخططت كل مرحلة واتخذها ابن صالح وجماعته المسؤولة مركز القيادة، فمنها تدرس وتنطلق كل مرحلة وعلى أراضيها تجرى مختلف المحاولات والتجارب. وإمعانا في المغالطة والكذب استقدموا الرئيس بورقيبة ليطلعوه على تلك المزاعم من خلال معرض وهمي أقاموه بها وجلبوا إليه مختلف الثمار والغلال الجيدة على اعتبارها من إنتاج تلك السياسة في حين تمّ اقتناؤها من سوق الجملة بالعاصمة وأطلعوه على مساحات تمّ تشجيرها ليلة الزيارة بأشجار البرتقال من أنواع مختلفة حاملة الثمار مدّعين أنّها باكورة الوحدات الانتاجية التي عوّضت الجزء الأول من تجديد الزياتين المسنّة والتي تمّ إحياؤها بمياه الآبار المحلّية حسب زعمهم، في حين أنّ المنطقة معروفة بانعدام الماء الصالح ونضوب آبارها القديمة التي حاولوا تزويدها بكميات من الماء ليلا بواسطة صهاريج. وأطلعوا الرئيس على تلك المكاسب التي تمّ تحقيقها، الأمر الذي زاد في قناعته بسلامة التوجه في تحقيق فرحة الحياة لمختلف الشرائح، ممّا زاد في دعم تلك السياسة وضاعف من نفوذ مسؤوليها.
كان ذلك والمواطنون على بيّنة من حقيقة الوضع وقد ضاقت صدورهم حتى أنّ بعضهم انتهز فرصة تواجد أقطاب هذه السياسة بمسجد المدينة بزغوان ليلة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف فهاجموهم ولم يجدوا وسيلة إلا في الفرار تاركين نعالهم، كل ذلك أبلغته شخصيّا لبورقيبة فأمر بتتبّع من كان له يد في هذه الخيانات قضائيا.
بعد هذا العرض هل يا ترى اقتنع السيد عبد الله بشير بحقيقة الأوضاع وغيّر من تفكيره في تبرئة المسؤول الحقيقي عن سياسة الاشتراكية عوض الزعم بأنّه “إزاء تصرفات بعض الإطارات واتجاهها الى الغلوّ في المسيرة دفع بعضهم الى إفشال مسيرة التعاضد والتوجه بها نحو ممارسات شيطانية جعلت الرأي العام يقابلها بالامتناع مثل ما حصل في بعض الجهات وأذكر مثلا ما حدث في الوردانين” ؟
المحور الثاني الذي سأتناوله بالتصويب يشمل الزيتونيّين ومنظّماتهم الطلاّبية ومظاهرة يوم 15 مارس 1954، وإصلاح التعليم وتوحيده:
أشار السيد عبد الله بشير في كتابه إلى بعض الملاحظات الخاطفة حول تلك المواضيع وكم وددت لو أنّه تبسّط فيها وتعمّق وهو خرّيج الجامع الزيتوني ومناضل من مؤسسي منظمة صوت الطالب الزيتوني ثم منظمة الكتلة الزيتونية. وأستسمحه في تناول بعض من جملة هذه المسائل المترابطة التي استعرضتها بشيء من التفصيل في كتابي: «بورقيبة ونويرة، ذكريات ومذكرات»:
لقد بدأ جامع الزيتونة ينشر في القرن الثاني للهجرة (الثامن للميلاد) رسالته وأصبح كعبة شمال إفريقيا العلمية، ومن أشهر العلماء الذين تخرجوا منه ودرسوا فيه الإمام ابن عرفة والعلامة عبد الرحمان ابن خلدون ومحمد الطاهر ابن عاشور، ومن أشهر الثوار الزيتونيين علي بن غذاهم الذي قاد الثورة ضد العائلة المالكة وطغيانها.
ومن أشهر رموز الوطن الزيتونيين العظام الشيخ محمد السنوسي والشيخ المكي بن عزوز والشيخ النخلي والشيخ سالم بوحاجب والخضر بن حسين والشيخ محمد الطاهر بن عاشور وعبد العزيز الثعالبي ومحمد بيرم الخامس ومحي الدين القليبي ومحمد الفاضل بن عاشور وراجح ابراهيم ومحمود شرشور وغيرهم. وأدّى جامع الزيتونة دورا كبيرا منذ تأسيسه في تثبيت الهوية العربية ودعم الثقافة العربية الإسلامية وإليه يرجع الفضل في بناء الحضارة الإسلامية وعظمة أمته عبر العصور والدهور، وخرّيجو الجامع الأعظم يمثلون النسبة الكبرى بين المثقفين على اختلاف شرائحهم، أمثال سالم بوحاجب وقبادو وبيرم الخامس والخضر بن الحسين، وإليهم يرجع الفضل في قيام النهضة الإصلاحية في تونس. كما أنه يمثل الطوق المنيع ضد كل تدخل أجنبي، فهو بحق الحارس الأمين على التراث الوطني والحضاري العربي الإسلامي، فكان في كل المحاولات التي استهدفت البلاد من محاولات مسخ التراث كالمؤتمر الإفخارستي والتجنيس يحتل الصفوف الأولى في المجابهة والذود عن حياضها ولا أبالغ إذا اعتبرت أنّ كلّ عمل نضالي ضد قوى الاستعمار الأجنبي بشتّى صنوفه تمتدّ جذوره الأولى إلى جامع الزيتونة بصفته حامي حمى الدين والوطن.
إلاّ أنّ جامع الزيتونة لم يواكب التطور في المناهج الدراسية والانفتاح على النهضة العلمية والفكرية الحديثة في أوروبا في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر مما جعله يفقد مكانته كجامعة للعلوم والمعارف تزاحم الجامعات التي بلغت شأنا عظيما من العلم والتطور والمعرفة.
ولئن عُرف خرّيجوه بوطنيّتهم وبتعلّقهم بأمجادهم وبما لهم من المعرفة بعلوم التراث وبما يحملون من أعباء النهضة المعاصرة إلاّ أنّهم سرعان ما وقفوا عاجزين في مواجهة المشاكل التي تسبب فيها التطور العلمي في العالم الآخر، ولعلّ ذلك ما جعل بعضا من رجال الزيتونة دائما في الصفّ المعادي لكلّ ما هو أجنبي وفي موقف الحذر الخائف فكان منغلقا على نفسه وعلى تراثه، ولهذا لم يعوّل عليه في المسؤوليات والمناصب ذات التسيير والقرار واقتصر دوره على بعض الخطط المحدّدة التي لا تتجاوز ثقافته التقليدية وخاصة إذا قورنت بأصحاب الثقافة الغربية ممّن تشبّعوا بروح المعاصرة.
وحافظ جامع الزيتونة على طابعه الخاص ولم يُدخل في مناهجه التعليميّة العلوم الحديثة عدا محاولات قليلة متأخّرة في ميدان الرياضيات والعلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا أو اللغات الحيّة. ورغم ذلك فإنّه لم يمنع من أن يتزعّم الحركة الوطنية الإصلاحية ويقود الانتفاضات الشعبية والوطنية، ففي سنة 1920 التفّ الطلبة ومدرّسوهم حول الحزب الدستوري القديم، ثم سنة 1932 قاموا بمناهضة قانون التجنيس ولكنهم قاموا أيضا بمناهضة البعض من روّاد حركة الإصلاح الاجتماعي والثقافي أمثال الطاهر الحداد وأبي القاسم الشابي.
وتأسّس الاتحاد العام التونسي للشغل بسعي من عناصر تنتسب إلى الزيتونة. وعند انشقاق الحزب لم يتخلّف الزيتونيّون عن مساندة الجناح الجديد «الديوان السياسي» ولم يجاهروا بالعداء بل انضمّ أغلبهم إلى صفوفه وائتمروا بأوامره. كما أنهم شاركوا في المواجهات والمصادمات والمظاهرات الكبيرة إلى جانب الحزب منها يوم 09 أفريل 1938 واستشهد وسجن منهم الكثير. كما أعجبوا بالزعيم الحبيب بورقيبة وانقادوا لزعامته لما كانوا يأملون فيه من إصلاح جدّي ولما كانوا يرون فيه من بعد نظر، ولم يتوانوا في مقاومة الحزب الدستوري القديم رغم أنّ أغلبيّة قادته من خرّيجي جامع الزيتونة.
كما شارك الزيتونيّون في المؤتمر الوطني الكبير الذي عُرف بمؤتمر ليلة القدر مشاركة فعّالة، هذا المؤتمر الذي نادى بالاستقلال التامّ والانضمام للجامعة العربية والمنظمات الدولية والذي ترأسه أحد خرّيجي الزيتونة القاضي الرئيس العروسي الحدّاد ونشط فيه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور. كما تعرّض عدد كبير منهم للاعتقال ووجّهت لهم تهمة التآمر على أمن الدولة.
إنّ مختلف الحركات الوطنيّة كانت نشأتها زيتونيّة ووجدت من الزيتونة كلّ الدعم والانضمام والتأييد، وتحمّلت في سبيل ذلك كلّ أعباء النضال وواجه شيوخها وطلبتها الذين كانوا في القيادة أو من عناصر المكافحة التعسّف والتهديد والإرهاب وحتى الاختطاف والاغتيال بصبر وجلد يندر مثيله.
وكان نشاط الطلبة الزيتونيّين وحماسهم يثير خوف السلط الاستعمارية وكانت تقرأ له الحساب. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل أصبح يمثل تخوّف بعض زعماء الحركة الوطنية من الحزب الدستوري الجديد إمّا من توجهّهم المشرقي أو لصعوبة احتوائهم وفرض سيطرتهم عليهم وجعلهم يدورون في فلك الحزب لأنهم قوة يجب الاستحواذ عليها أو العمل على إضعافها خاصة عندما يغلب عليها التطرف الديني.
وفي الأربعينات شعر الطلبة الزيتونيّون بالحاجة إلى منظمة تنظّم صفوفهم وتدافع عن حقوقهم في الحياة المعاصرة وتتفتح على الحضارة والحداثة فأسسوا سنة 1944 جمعية «مكتب التلميذ الزيتوني» ثم «جمعية التوادد الزيتوني» وأصبحت فيما بعد تسمى «الإخوان الزيتونيين». وفي يوم 16 ديسمبر 1950 أنشأت منظمة طالبيّة سمّيت «لجنة صوت الطالب الزيتوني» غايتها الدفاع عن مصالح وطموحات الطلبة وكان تسييرها بطريقة ديمقراطية لا يرأسها رئيس ولا كاتب عام بل يتولى شؤونها برلمان متكوّن من ممثلي «الطرق» أي الأقسام الدراسية، وكان يجتمع كلما دعت الحاجة الى ذلك لإصدار القرارات المهمة.
كانت أهداف المنظمة طلاّبيّة بحقّ وهي السهر على إصلاح برامج التعليم وتعصيره وإقامة مبان للتدريس والسكنى والاعتراف بشهادات الجامعة الزيتونية وتنظيرها بغيرها وفتح باب البعثات إلى الجامعات بالمشرق وغيرها من المطالب والاصلاحات التي نادى بها طلبة الجامع منذ أمد طويل وخاصة إصلاح التعليم، فلقي هذا التنظيم تقديرا في مختلف الأوساط الشعبية والحزبية واكتمل بها عمل ما بذله المصلحون الأقدمون والمحدثون وتأسست الهيئات لمساندة الطلبة وتحسين ظروف حياتهم مثل بناء المبيت الطلاّبي الذي سمّى بالحيّ الزيتوني، وأعيد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في سنة 1945 إلى رئاسة مشيخة الجامع الأعظم الذي استطاع أن يقوم بأعباء النهضة الاصلاحية الزيتونية فانتشرت الفروع التعليمية في مختلف أنحاء البلاد إلى جانب إحداث فروع التعليم الزيتوني للبنات.
لكنّ الحزب الحر الدستوري الجديد قرأ لهذا النشاط حسابه وما أصبح عليه الزيتونيّون شيوخا وطلبة من قوّة يجب ضمّها إليه بكل الأشكال لدرجة المصادمة فأجبرت المنظّمة على أن تكون في صفّ المعارضة وانخرط البعض في المعارضة المتطرّفة وجاهروا بعدائهم وتخلّصوا من بعض العناصر المؤسسة للمنظمة والقياديّة المعتدلة والتي قد يكون لها صلة قرابة وانتماء للحزب أمثال عبد الله بشير والحبيب نويرة وعمر شاشيّة والعجمي السايب وهذه خسارة كبرى للحزب وللمنظمة.
وجاءت مظاهرة 15 مارس 1954 الدامية التي نظمها جامع الزيتونة ودعت اليها منظمة صوت الطالب الزيتوني في هذه الأجواء المتوترة بين الحزب وحركة جامع الزيتونة.
لكنّ قيام المظاهرة لم تكن بتعليمات أو توصية أو إيحاءات من أحد كما جاء في كتاب السيد عبد الله بشير التي أوعز بها إلى الأستاذ حسن البرقاوي وهو الذي لم يتخلف عن مناهضة وعنف مليشيات الشعبة الدستورية له حينما كان يقود النضال الطالبي بفرع الجامع الزيتوني بالمنستير ذلك لاعتباري عضوا بالبرلمان ومطلعا على خبايا الأمور التي كانت محل نقاش بيني وبين شقيقيّ أحمد ومحمد الحبيب وهما العضوان البارزان ومن قياديّي المنظمة.
ولم تأت مظاهرة 15 مارس من فراغ فقد كانت نتيجة تراكمات سياسات الحكومات السابقة التي اعتمدت المماطلة والتسويف وخاصة من وزير الدولة للأوقاف والمؤسسات الدينية في حكومة مزالي وما قبلها، حتى بلغ الأمر بوزير الدولة إلى رفض استقبالهم وأصبحوا لا يشعرون منه بأيّ اهتمام. ومن أهمّ القضايا التي كانت تشغل الطلبة ومنظمتهم هو بناء مقر الجامعة الزيتونية.
وسبق المظاهرة اجتماع مفاجئ في الساعة الرابعة عصرا دعت إلى عقده الهيئة المسيرة في مدرسة جامع الجديد وحضره من انتهى إليه خبره في الإبان آنذاك وكنت أنا «محمد الهاشمي عباس» من بين الحاضرين كممثل عن طلبة طريقتى (أي القسم). ولم يطل اجتماع مجلس البرلمان (حسب اصطلاح الحركة الطالبية) ولا اتسع لأكثر من إبلاغ الحاضرين قرار تنظيم المظاهرة إثر دروس ذلك المساء والالتحاق العاجل وفي كنف السرّية بمعاهدهم بدعوة زملائهم للمشاركة في المسيرة والسهر على إنجاحها.
وفي ذلك الاجتماع الطارئ اصطبغ العمل بصبغة جديدة. فلأول مرة يتخلّى النواب في مجالسهم عمّا اعتادوا من جدل في لقاء من هذا النوع بشعور منهم أو بإيحاء من هيئتهم، فقيمة الوقت وحراجة الموقف ودقة الاختيار والهيئة التي ليس لها رئيس ولم يكن أحد منهم يحمل توصية كما ادّعى الغير، والمسيرة نفسها احتاطت هي أيضا أن يظلّ اجتماع أعضائها الذي سبق اجتماع مجلس البرلمان في كنف السرية المطلقة وبالأحرى أن لا يعرف ما اعتزمت القيام به حتى توفر للقرارات الخطيرة حظوظ النجاح أهمها أن تباغت السلطات الاستعمارية بمسيرة لا تستطيع لها رداّ.
وبلغت المفاجأة حدّ إفلات زمام السيطرة على الموقف من أيدي المستعمر قبل استفحال المسيرات إلى صدام عنيف ولم يكن بدّا من مواجهة تيّار المتظاهرين الزاحف بالعنف ولا إلى ردع المتمردين بلا إثارة الثوائر ولا هز لأرجاء البلاد الساكنة. لقد تحرك تلاميذ كل معهد بُعيد الخامسة من مساء ذلك اليوم العصيب في اتجاه ساحة الحكومة في حماس منقطع النظير تهتف بإصلاح التعليم وبناء مقر الجامعة، وما لبثت أن تطورت لتصبح استنكارا ورفضا لإصلاحات 4 مارس المخزية وكانت المواجهات بين أعوان السلطة الاستعمارية والطلبة وسقط الشهيدان حمزة والمرزوقي وانقضّ الجند اللفيف بقسوة مستنفرة فتفاقمت الجلبة واشتدت الفوضى واستبيحت الدماء ولعلع الرصاص في أفواه الرشاشات فأصيب تلاميذ كثيرون وعدد من المارة.
كانت المطلبية الطلاّبيّة في هذه المظاهرة هي الأولى ثم جاءت المطالب السياسية على عكس ما أرادوا من توظيفها في وجهة سياسية خاصة. فكانت بمثابة الشرارة التي أشعلت من جديد جذوة الكفاح الوطني وانطلقت المقاومة على أشدها لمّا أدركت خبث المقيم العام الفرنسي «فوازار» وتواطئ الوزير الأول مزالي وضعف الباي وتصميم بورقيبة على رفض الإصلاحات المغشوشة ومواصلة الكفاح وبدأ تصاعد عمليات المقاومة.
وخلاصة القول إنّ الحزب في غياب قائده المجاهد الأكبر وقع في الانحراف رغم تحذيره من منفاه بجزيرة جالطة.
إذا طوينا في عجالة نتائج المعركة التحريرية وما حققته من نصر مبين وتحقيقها الاستقلال الداخلي نصل إلى الخلاف الذي نشب بين شقّي الحزب أو ما عُرف فيما بعد بالديوان السياسي والأمانة العامة، حيث استؤنف التراشق بالتهم ودبّ الخلاف وانطلقت المصادمات وكان جانب هامّ من الزيتونيّين مع الأمانة العامة وضدّ الديوان السياسي لا محبّة في صالح بن يوسف الذي كان خصما لدودا وإنما لأنّ الديوان السياسي توخّى سياسة الضغط عليهم ومحاولة احتوائهم.
ومع ذلك بقيت مجموعة هامة مؤمنة بسياسة الحبيب بورقيبة وتقرّ بنجاحها. لكنّ الديوان السياسي دخل في متابعة كل الزيتونيين حتى المتشيّع لبورقيبة والذي وقف إلى جانبه وعمل جهده في مؤتمر صوت الطالب لفرض الاعتدال اتّهم بأبشع التهم من ذلك أحمد عباس العضو البارز في لجنة صوت الطالب والذي له مواقف في المؤتمر ومعه ثلة قليلة من بينهم شقيقه محمد الهاشمي عباس فقد استطاعوا أن يسيطروا على المؤتمر وتوفقوا إلى التخلص من العناصر المتطرفة في اللجنة الجديدة.
ولم نسلم من معاناة مليشيات الحزب فقد استهدف شقيقي بملاحقته بمدرسة عنق الجمل وتمّ جلبه إلى سباط الظلام ليلا وهو مكان يستجلب إليه كل عنصر مشكوك في ولائه وله ميوله لابن يوسف، إمّا لسجنه وتعذيبه وإمّا لاستنطاقه وتهديده وتحذيره وإطلاق سراحه بعد أن يقضّي ليلة أو ليلتين أو أكثر هناك. وكان ما حدث له من الصنف الثاني. ولم ترحمنا بعض النفوس الحاقدة والحاسدة من أبناء جلدتنا ولم تعتبر جهودنا السليمة فأشاعوا عنّا ترّهات مختلفة واتهمونا بالانحياز إلى صالح بن يوسف فلم نسلم من مضايقات الشعبة الدستورية بالمنستير وكثيرا ما استهدفنا من مليشيتها التي يطلق عليها اسم (الفرطّس) من تهديد ومضايقات وحاولوا تعنيفنا لولا وقوف بعض المسؤولين وتوضيح سلامة انتمائنا.
ومما أذكره بكل مرارة أنّ البعض من أبناء بلدتنا كانوا يقطنون بالحيّ الزيتوني حيث كنا نقطن أنا وشقيقي الحبيب وهؤلاء ينتمون إلى المنظمة الطالبية الثانية (الكتلة) التي تعمل ضدّ منظمة صوت الطالب ومتحالفة مع الحزب وأعدّوا لائحة تستنكر عمل صوت الطالب وترميها بشتى التهم وتنعتها بالخيانة وبالانحياز للأمانة العامة، وكانت تروّجها سرّا لإمضائها من طرف تلاميذ مبيت الحيّ الزيتوني. ولمّا شعرت بذلك حاولت منعها من الترويج ولم أفلح فقمت وفي ساعة متأخرة بمخاطبة مدير المؤسسة الشيخ محمد الشاذلي بلقاضي بمنزله وطلبت منه الحضور حالا لأمر خطير واستمر بحثنا إلى ساعة متأخرة من الليل وتبيّن أنّ اللائحة وقع تهريبها خارج بناية المبيت فتعهّد المدير بأخذ التدابير اللازمة حيالهم.
وفي الغد تطالعنا جريدة الحزب تروي قصة اللائحة وما سبّبته لأصحابها مع التعرّض لتهديد المدير للشخص الذي قام بالتبليغ وإلى ما زعمته الجماعة من أنّ الحيّ الزيتوني أصبح تحت تصرّفي لانتمائي إلى صوت الطالب أي إلى الشقّ المعارض لبورقيبة حسب زعمهم.
وبعد مضيّ بضعة أيام تطالعنا جريدة الصباح ذات الانحياز اليوسفي آنذاك ببلاغ يحمل توقيعي مزيّفا كعميد للشبيبة الدستورية بالمنستير لتعلن انسلاخها من الديوان السياسي والانتماء إلى الأمانة العامة. ومنذ ظهورها اتصل بي بعض الأصدقاء المخلصين من المنستير يشعرني بهذا البلاغ وخطورته. وحاولت نشر بلاغ تكذيب في نفس الجريدة فلم تقبل إلا بعد جهود كبيرة. كما اتجهت إلى إدارة جريدة العمل لسان الحزب التي كان مديرها السيد محمد بسباس الذي يعرف جيدا العائلة وتوجّهها السياسي وانتماءها فتسلّم نص التكذيب وتولّى نشره أكثر من مرة، ومع ذلك فبعض العناصر المغرضة بشعبة المنستير لم تصدّقه. ولمّا نزلت بالمنستير في زيارة اعترضتني جماعة من المليشيات التابعة لها وكادوا يعنّفونني لولا وقوف السيد عبد السلام غديره معتمد المنطقة إلى جانبي وقد تخاطب مع السيد عبد الله بشير رئيس الشعبة التي تتبعها المليشية وأقنعه ببراءتي. ولكنّهم لم يتخلّوا عن نقل بعض المزاعم عنّي وعن شقيقي أحمد إلى الرئيس الحبيب بورقيبة إلا أنه فاجأهم بتبرئتنا من أكاذيبهم ونفى عنّا هذه المزاعم والتّهم.
أخيرا، لقد كثر الحديث عن إصلاح التعليم وتوحيده وحول إصلاح التعليم الزيتوني وقد تبرّأ بعض المسؤولين والوزراء من المسألة وكلّ واحد منهم ظلّ يرمي المسؤولية على الآخر. وأبرز هؤلاء محمد مزالي والطاهر بلخوجة شعورا منهما بوزر المسؤولية الثقيلة، وقد أصبحا يتأسّفان على القضاء المبرم على التعليم الزيتوني وكأنهما بريئان من ذلك، وهو ما أتفق فيه مع ما جاء بكتاب السيد عبد الله بشير وهو صادق فيما أبداه.
ولم ينكر السيد محمد مزالي أنه عندما كان شابا في مدينة المنستير ما سعى إليه ومن معه للاستحواذ على جمعية الشباب الأدبي بالمنستير وهم يمثلون الشق الآخر الذي كان في خلاف مع بعض أعضاء الجمعية من أجل إيديولوجيات ومن وراء ذلك يناصب كل طرف العداء للآخر وتحمل صورة مشوهة عن ثقافته وانتمائه الوطني.
وقد وقف السيد الطاهر بلخوجة نفس الموقف إذ ادّعى بجريدة الشروق – حينما قيّم تلك الفترة، وهو مجانب للحقيقة- أنّ الأجواء بين الطلبة الزيتونيين والمدرسيّين كانت كما وصفها متضامنة (« لم تكن هناك خلافات جوهرية أو اشتباك أو صدام بين هؤلاء وأولئك بل عرفنا تضامنا في بعض الأحيان…» ) وهذا الكلام عار عن الصحة فقد بلغت الأوضاع حدودا كارثية في داخل البلاد وفي صفوف الشقين.
وبالرجوع إلى تأليف الأستاذ الحبيب نويرة «ذكريات عصفت بي» يدرك القارئ ذلك جيدا.
وقد استجابت لجنة صوت الطالب الزيتوني لدعوة الرئيس للوحدة مع الاتحاد العام للطلبة وتنازلت حتى اندمجت في الاتحاد هيكلا بدون روح.
ثم إنّ الزيتونيّين ما فتئوا يتظلّمون من أجل إصلاح التعليم وأقبلوا عليه وإن كان باحتراز لما كانت عليها عقليّة أصحاب هذه الدعوة من ميل للغرب ولا يحملون عن التعليم الديني أو التقليدي أيّ مفهوم. وقد نشأت عن ذلك الاختلاف ردود فعل خطيرة، فالزيتونيّون كانوا يساندون الإصلاح على مراحل وقدم طلبة هيئة التدريس الزيتوني دراسة في هذا الشأن واقتراحات تتجه إلى بعث شعبتين: شعبة «أ» التي كانت بحكم طبيعة برامجها تدرس بها نخبة من تلاميذ الجامع الزيتوني وتدّرس بها جميع العلوم الحديثة باللغة العربية ومعظم أساتذتها مدرسيّون. وقد نجحت هذه الشعبة وعُدّ خرّيجوها مثالا لإصلاح التعليم وتوحيده بشهادة هؤلاء الأساتذة. وقد ذهبوا في البداية في هذا التوجه ونحو تعميمها في جميع المعاهد الثانوية واقتنع الجميع بصلوحيّة برامجها وتفوّق طلبتها على جميع زملائهم في المعاهد الأخرى ممّن كانت برامجهم في العلوم وفي غيرها من المواد باللغة الفرنسية. واعتبرت هذه غير قادرة على تأمين فكرة توحيد التعليم وإصلاحه بعد الاستقلال ولا تحتمل إلحاق جامع الزيتونة بوزارة التربية القومية.
إلاّ أنّ الزيتونيّين اعتبروا بعد ذلك أنّهم خُدعوا وغُرّر بهم وأبدل سير الإصلاح إذ انحرفوا به فزيدت ساعات اللغة الفرنسية، وحذفت شعبة «أ»، وجاء قانون 4 نوفمبر 1959 ليعلن أنّ التعليم أداة نهوض المجتمع الأولى، وقد تأثر توجيه هذا القانون بتوجّه النخبة الحاكمة وبعضها خرّيج المعهد الصادقي وجميعهم خرّيجو الجامعات الفرنسية فوقع تعميم النمط الصادقي مع بعض التحويرات التكميلية وحافظت اللغة الفرنسية على مكانتها وزيدت في ساعات حصصها مع الاهتمام النسبي باللغة العربية ولم تبق من التعليم الزيتوني إلاّ عبارات التحسّر والبكاء التي طالعنا بها محمد مزالي والطاهر بلخوجة.
أمّا موقف طلبة ومشائخ الزيتونة ورجال الدين فقد احتجّوا وثار غضبهم وطالبوا بإعادة النظر في هذا الإصلاح على أساس ما يسبّبه من ضعف المستوى التعليمي، وهكذا اختفت دراسة العلوم باللغة العربية وتقهقر مستوى المعلّمين والأساتذة والمتعلّمين.
ويبدو أنّ الأستاذين مزالي وبلخوجة تناسيا مظاهر التهميش التى جعلت أكثر مشائخ الزيتونة علما وشهرة يفتقدون إلى أبسط مقوّمات العمل وإلى إطار علمي معرفي ينتمون إليه فعاشوا في مرحلة معينة خارج المؤسسات الرسمية للدولة وهو ما كشفه الأستاذ الشاذلي العيّاري الذي تحمّل أعباء وزارة التربية القومية سنة 1970 فقال في حديث أجرته معه السيدة آمال موسى (انظر كتابها: «بورقيبة والمسألة الدينية»، ص 177): « في سنة 1970 كنت وزيرا للتربية القومية، وعندما جئت إلى الوزارة وجدت أن وضع أساتذة الزيتونة والفقهاء غير معقول، فهم لا يملكون أي اعتراف بوجودهم كأساتذة أمثال الفاضل ابن عاشور ومحمد العربي العنّابي وآية الاخوة، ورغم أن تكويني العلمي غربي ولا أمتلك خلفية زيتونية فقد استأت للوضع كثيرا، وقلت للحكومة بأنّه لا يُعقل أن يكون وضع علماء تونس هكذا، وهم المعترف لهم دوليا؛ ووصل إشعاع جامع الزيتونة والفقهاء التونسيين إلى أقاصي الدنيا. وقررت آنذاك أن أمنحهم مكانة جامعية، وأعددت النصوص القانونية لذلك. واصطدمت بمعارضة شديدة في الحكومة بدءا بالوزير الأول وأساتذة الجامعة الزيتونية المتخرجين من السربون، وقالوا لي: «كيف تمنح الزيتونيين مكانة جامعية؟» وجدت نفسي بمفردي، ولكن نجحت وتمكنت من تمرير قرارات بتسميتهم كأساتذة جامعيين. وذلك عام 1970 في مجلس الأمة. كما كوّنتُ في الوزارة مجلسا استشاريا جامعيا وشعبة إسلامية في الدراسات الإسلامية في التعليم الثانوي، وبعد خروجي من الوزارة، خلفني محمد مزالي الذي رغم أنه معروف بعروبته وإسلامه أكثر منّي إلاّ أنّه أوّل شيء قام به هو إلغاء الشعبة الإسلامية في التعليم الثانوي ومساندة التيار الموجود ضد الزيتونيين ” .
ولست أدري ما قول الأستاذ الطاهر بلخوجة بعد بكائه على الأطلال وقد أبدى تأسفه الملون لكسب التعاطف وطمس التاريخ وقلب الحقائق وكأنّه أصبح وفيّا للزيتونة ولماضيها كما زعم في جريدة الشروق: « إنّ عددا من الأساتذة المدرّسين سواء عندنا في الصادقيّة أو في الزيتونة كانوا على قدر كبير من التأثير فينا بشكل متشابه فقد كان تأثّرنا واضحا بالشيخ الفاضل ابن عاشور الذي كان يأتينا من الزيتونة إلى الصادقية “.
المحور الثالث: الذي سنتناوله بالتصويب والتصحيح لبعض المواضيع التي تعرض إليها كتاب السيد بشير منها أحداث قصر هلال- تهيئة مدينة المنستير -وكلية العلوم بالمنستير- الطاهر بلخوجة وأدواره التي لعبها – التواجد في سليانة مواقف سعيدة ساسي ومنصور السخيري- أحداث الخبز ومواقف وزير الداخلية إدريس قيقة-حول موقف الدكتور عمر الشاذلي- السيد صلاح الدين فرشيو والأدوار التي لعبها في المنستير- دعوة رئيس التحول في خصوص نقلة الزعيم بورقيبة للمنستير. وقد تعرضت إلى هذه المسائل بالتفصيل في كتابي: «بورقيبة ونويرة ذكريات ومذكرات « .
فأما أحداث قصر هلال سنة 1977 فقد كانت حلقة من مسلسل الخميس الأسود لسنة 1978 التي كانت ترمي إلى التآمر على الحكم وافتكاك الخلافة وتعجيز الوزير الأول الهادي نويرة. وللوصول إلى ذلك هان عليهم زعزعة النظام من داخله وكان ثمنه باهضا وعظيما ذهبت ضحيته أرواح أبرياء سوف يتحمل مسؤوليتهم التاريخية المناوئون والمنافقون والانتهازيون والمتخاذلون والمجازفون ممن يدّعون الوطنية لكن بئست مزاعمهم وأطماعهم الملوثة والمغشوشة.
وكان من واجب السيد عبد الله بشير عند تعرضه لهذه القضية أن يتعرّض إلى أكثر أبعادها السياسية وألاّ يلمّح إلى دور الوالي السلبي والمتخاذل والمتواطئ مع الطاهر بلخوجة وجماعته وألاّ يمرّ مرور السحاب على مثل هذه القضية كما اعتاد في غيرها من القضايا.
ومن ذكريات السيد عبد الله بشير يقول: «إنه كان عرضة لسوء معاملة بعض المسؤولين منهم السيد إدريس قيقة وزير الداخلية. ونتساءل: لماذا الموقف من السيد إدريس وما هي أسبابه رغم أنّي احترمه وأقدّر جهوده وكفاءته ونضاله الوطني؟ لأنه ذهب في اعتقاده أنّ ما حدث له في أفريل 1976 كان وراءه عبد الله بشير الكاتب العام للجنة التنسيق الحزبي بالمنستير. وللتاريخ فإني أوضح أنّ ما جرى له نشأ بينه وبين السيد الهادي عطية والي المنستير نتيجة الاتفاق معه بمحضري ومساندتي على تركيز بعض الكليات للتعليم العالي في المنستير ووقع إنجاز الكلية الأولى أما الثانية فلم يقع إنجاز المشروع. ولمّا أدّى السيد إدريس قيقة وزير التربية آنذاك زيارة إلى المنستير للإشراف على اجتماع عام بزرمدين وفي طريقه إليها سأله السيد الوالي متى سيشرع في بناء كلية العلوم فأجابه السيد الوزير أنّ هذا الموضوع من مشمولاتي وعليك الاهتمام بإدارتك وبالعقد الاجتماعي. وعاد السيد إدريس قيقة إلى العاصمة. قلت للأخ الوالي إنّ كلية العلوم بصدد الإنجاز في سوسة وكان في ظنّي أنّه على علم بذلك، وقد تأثر بهذا الموقف وكان بينه وبين والي سوسة منافسة. وصادف أن حلّ فخامة الرئيس بالمنستير في تلك الآونة بعد زيارته لولاية سيدي بوزيد فأشعره الأخ الوالي بأنّ السيد وزير التربية نكث تعهده ببناء كلية العلوم في المنستير وشرع في إنجازها بسوسة فقال له: من أين لك بهذه المعلومات؟ أجابه من عند الكاتب العام للجنة التنسيق. أكدت له الأمر ثم سألني مرة ثانية في الموضوع لمّا كان في نزل النخيل. وفي اليوم الموالي قبل أن يتّجه إلى تونس قام السيد منصور السخيري والي سوسة بزيارة المنستير وأدّى التحية لفخامة الرئيس، وفي طريقه إلى المطار سألني سيادته حول موضوع الكلية للمرة الثالثة، ذكرت له ما قلت له سابقا، وكان ذلك بمحضر السيد منصور السخيري. وما كان منه لمّا وصل إلى العاصمة إنهاء مهام السيد وزير التربية في مساء ذلك اليوم وعيّن آخر مكانه وطلب منه أن تفتح الكلية أبوابها في السنة الجامعية القادمة. وتمّ ذلك ووقع تشييدها بالبناءات الجاهزة. وهذا الموقف سبب لي تلك المشاكل التي عرفتها من طرف السيد إدريس قيقة الوزير والسيد منصور السخيري الوالي التي استهدفتها طيلة عملي في السلك الإداري مع دعم بعض الأطراف الأخرى « .
وأضاف في كتابه قوله إنّ ما اتخذه السيد وزير التربية من محاولات تحويل كلية العلوم لم يكن إلا بطلب من السيد منصور السخيري والي سوسة وبدفع من السيد الهادي نويرة الوزير الأول. وهذا افتراء من السيد ادريس قيقة وهو معروف بسوء علاقته مع الوزير الأول.
والشيء الذي أضيفه لما قاله السيد عبد الله بشير هو أنّه ادّعاء لا يستقيم مع ما جبل عليه السيد الهادي نويرة الوزير الأول إذ أنّني كنت شاهد عيان على أنّه اهتم ببناء هذه الكلية وتذمّر من الظروف المالية وكان ذلك في جلسة خاصة حضرتها بمعية شقيقي الحبيب عباس السفير في العراق آنذاك الذي اغتنم أوّل فرصة لطرح الموضوع مع الدوائر الحكومية العراقية التي استعدت لتتولى بناء هذه الكلية التي اعتمدت فيها طريقة البناءات الجاهزة، كما أشار إليه السيد عبد الله بشير. كما قامت الحكومة العراقية بطبع كمية هامة من الكتب الدراسية للمرحلة الثانوية من التعليم الثانوي.
وكان السيد الهادي نويرة على خلاف ما يشيعه خصومه من أنّ له ميولات لمدينة سوسة دون مدينة المنستير فهذا غير صحيح فهو طالما عبّر عن أنّه مدين لمسقط رأسه ويذكر باعتزاز أنه تتلمذ بالمدرسة القرآنية وحضر في حلقات الدروس التي كان ينضمّ إليها المشائخ في علوم الفقه والنحو والتوحيد والتجويد وفي بعض الزوايا والمساجد ولهم يرجع الفضل في تكوينه في اللغة العربية وحفظ للقرآن الكريم تلاوة ودراية، ويرجع فضل ذلك خاصة للشيخين محمد الصالح سفطة ومحمد الصالح عباس. وكذلك تحمل السيد نويرة أعباء بلدية المنستير في أول تشكيلة في عهد الاستقلال وكان رئيسها الزعيم بورقيبة وكان هو المساعد الأول والسيد الشاذلي قلاله المساعد الثاني. ويحسب له معارضته في عملية تهديم البناءات وخاصة السكنية منها وذلك في نطاق تهيئة المدينة التي من أجلها ضجر المتساكنون لعدم توفير مساكن بديلة مما اضطر إلى إسكانهم بالزوايا والمساجد المهجورة فأوقف نويرة عملية الهدم حتى تقام المساكن البديلة مسبقا، الأمر الذي أزعج الرئيس بورقيبة وأذن بمواصلة عملية الهدم إلى أن تفاقم الوضع واحتدّ واعتصم الأهالي بمساكنهم ولم يتركوها رغم شروع آلات الهدم فيها آذاك فرجع الرئيس لتخطيط الهادي نويرة. ومن ذلك التاريخ أمسك السيد الهادي نويرة عن التدخل في أوضاع المنستير. وممّا رواه لي سي الهادي قوله: « سألني الرئيس ذات مرّة: لماذا لا تتردّد بالزيارة على المنستير؟ قلت له: أين أذهب وليس لي محل؟ « فقال لي: « أين دار أبيك؟ «، قلت له:» لم أجدها في إحدى زياراتي السابقة فأين أذهب بعد هدمها؟ «. ثم قلت له: ” إنّي لم أجد غير قبر أبي لأقرأ عليه فاتحة الكتاب»، فسكتَ (بورقيبة) ”
ومما جاء في كتاب السيد عبد الله بشير عند استعراضه الإنجازات في ميدان الثقافة وفي خصوص انتشار المكتبات العمومية وبالخصوص مكتبة المنستير التي كانت تضم 5957 كتابا وهي مجموعة من الكتب كانت لدى جمعيات الشباب مضافا إليها المكتبة المحدثة من طرف البلدية، وكان من واجب السيد عبد الله بشير أن يدخل في التعداد ما أهداه الأستاذان محمد الصالح الصيادي ومحمد الحبيب عباس بالإضافة إلى المكتبة الإلكترونية التي قدمها واقتناها من ماله الخاص محمد الهاشمي عباس والمكتبتان القيّمتان تعتبران من أهمّ وأندر ما يكتسبه العلماء.
ومما ذكره سي عبد الله بشير أنّه «أقيم معرض لأول مرة بصورة محتشمة في قاعة البلدية بالمنستير في أوت أواسط الستينات ثم أخذ يتطور». والصواب ما ذكرته في كتابي «بورقيبة ونويرة ذكريات ومذكرات» في الجزء الثالث كما يلي: « كان السيد والي قفصة «محمود بلحسين» طموحا للغاية ولم يترك وسيلة إلا سلكها. كان يتقرب من الرئيس ومن القصر بشتى الوسائل. كان يهتم بشدة لكي تشارك ولايته في احتفالات عيد ميلاد الرئيس بصفة ملفتة. وكانت له عدة مبادرات، فهو أول من أقام المعارض والمخيّمات لشتّى الشباب المشتركين في الاحتفالات وكان مكانها موقع المعهد الصناعي ومنطقة الأمن وإدارة شركة المياه ببرج خفشّة الآن بالمنستير. وقد استقطبت اهتمام الرئيس وكلّ المسؤولين والمواطنين حتى أصبحت سنّة سنوية تنسج على منوالها بقية الولايات والمؤسسات. وكان ذلك في سنة 1962 بجهود مضنية من طرفي ومن طرف بعض المتحمّسين الشبّان فنقضي الأسابيع في إعدادها وتجسيمها على أرض الواقع، فكانت مبعث إعجاب وأسهمت بالتعريف بقفصة وبالجماعة التي أقامته ” .
المصدر: الشروق