
محمد علي الحباشي:
في ظرف ثلاثين سنة، تعاقب على قصر الحكومة بالقصبة خمسة وزراء أوّل دون احتساب الفترة التي تولى فيها الحبيب بورقيبة رئاسة الحكومة بعد ثلاثة أسابيع من الاستقلال من 18 أفريل 1956 الى 25 جويلية 1957 تاريخ تولّيه رئاسة الجمهورية.
من عشرية الى أخرى، مرّت تونس بأزمات حادة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وفي كل مرة يذهب الوزير الأول كبش فداء ليتحمّل وحده وزر كل الأخطاء والانحرافات. كان ذلك خاصة حال الباهي الأدغم الذي ذاق مرارة الاذلال والاهانة عندما حمّله بورقيبة مسؤولية فشل التجربة التنموية التي كانت انتهجتها الدولة طيلة الستينيات، وتهجّم عليه علنا في خطاب نقلته التلفزة، نعته فيه بأبشع الأوصاف.
وكاد الأمر يتجدد مع الهادي نويرة لولا الجلطة الدماغية التي أقعدته وأنهت علاقته بالوزارة الأولى.
وحسب ما جاء في مذكرات محمد مزالي فإن بورقيبة لم يتمالك عن اهانة وزيره الأول وهو على فراش المرض في إحدى المصحات.
أما مصير مزالي فقد كان أكثر مأساوية اذ اضطرّ الى مغادرة البلاد خلسة خوفا من بطش الرئيس وتمّت محاكمته غيابيا وملاحقة البعض من أفراد عائلته والمقرّبين اليه بتهم ملفّقة. وتولى من بعده الوزارة الأولى رشيد صفر على أمل انقاذ الاقتصاد الوطني الذي كان في حالة انهيار لكنه لم يصمد طويلا في جوّ المكائد والدسائس التي كانت تحاك في القصر عندما كانت حرب الخلافة على أشدّها.
ورغم احترازه المعروف من العسكريين فقد أقدم الزعيم الحبيب بورقيبة على تعيين عسكري وزيرا أوّل وسط ضجيج دعائي مفاده أن الوضع الأمني في البلاد كان في حاجة الى قبضة من حديد فإذا بتلك القبضة تضرب أول من تضرب بورقيبة بالذات بالتواطئ مع البعض من أقطاب البورقيبيين.
لا هو نظام رئاسي ولا برلماني:
تعود الاشكاليات التي حصلت في العلاقة بين الرئيس ووزرائه الأول الى ضبابية المهام الموكولة دستوريا الى الوزير الأول ومحدودية مجالات سلطته وتداخلها مع المهام الرئاسية واعتبار الوزير الأول مكلّفا فقط بالسهر على تنفيذ سياسة الدولة العامة التي يضبطها الرئيس ثم تحميل المسؤولية للوزير الاول كلّما ظهر خلل في هذه السياسة العامة.
إذا كان دستور غرة جوان 1959 لم يكرّس مؤسسة الوزير الأول فإنه تم القطع مع أحادية السلطة التنفيذية سنة 1969 وذلك بإحداث خطة الوزير الأول بمقتضى أمر 7 نوفمبر 1969 وأصبح بذلك النظام السياسي ثنائي السلطة التنفيذية.
وتكريسا لهذا التحول اصبح أعضاء الحكومة يلقّبون بالوزراء بينما كانوا يلقبون بكتّاب الدولة، كما أصبحوا يخضعون لرئاسة الوزير الأول.
ولم يقع تكريس مؤسسة الوزير الأول تكريسا تاما إلا مع التعديلات التي أدخلت على الدستور في 8 أفريل 1976 والأخذ النسبي بأسلوب النظام البرلماني دون القطع مع النظام الرئاسي.
ويتضح من خلال علاقة الوزير الأول برئيس الجمهورية منذ إحداث هذه الخطة في 7 نوفمبر 1969 وتكريسها دستوريا في 8 أفريل 1976 أن تبعية الوزير الأول الى رئيس الجمهورية هي من الثوابت التي اتسمت بها ثنائية السلطة التنفيذية في تونس.
ومن مظاهر هذه التبعية ان تعيين الوزير الأول وإنهاء مهامه هو اختصاص مطلق لرئيس الجمهورية لا يشاركه فيه أحد وهو ما لا يتطابق مع ضوابط النظام البرلماني.
زعيم الأغلبية البرلمانية:
ففي بريطانيا مثلا يخضع اختيار الوزير الاول الى قواعد اللعبة الديمقراطية فيكون الوزير الأول دائما زعيم الأغلبية في البرلمان ومعنى ذلك ان الوزير الأول في بريطانيا يعيّنه الناخبون وإن كان بطريقة غير مباشرة.
وفي ألمانيا رئيس الحكومة يقترحه رئيس الدولة على البرلمان الذي يُقرّ هذا الاختيار ثم يتدخل رئيس الدولة من جديد لتعيينه وهي نفس الطريقة المعمول بها في إسبانيا.
أما في بلجيكا واللوكسمبورغ يعيّن الملك رئيس الحكومة الذي يجب عليه الحصول على تزكية البرلمان في حين ان رئيس الوزراء الايطالي يعيّنه رئيس الجمهورية وله عشرة أيام للحصول على ثقة المجلسين. وفي كل هذه الحالات يختار رئيس الجمهورية أو الملك زعيم الأغلبية في البرلمان.
وعلى خلاف النظام البرلماني كان تعيين الوزير الأول في تونس يخضع الى إرادة رئيس الجمهورية وما يتمتع به من سلطة تقديرية مطلقة فكان يضع الشخص الذي يراه هو مناسبا على رأس الحكومة وعيّن بمقتضى ذلك الباهي الأدغم وزيرا أول (7 نوفمبر 1969 الى غاية 2 نوفمبر 1970) والهادي نويرة (2 نوفمبر 1970 ـ 23 أفريل 1980) ومحمد مزالي (23 أفريل 1980 ـ 8 جويلية 1986) ورشيد صفر (8 جويلية 1986 ـ 2 أكتوبر 1987) وزين العابدين بن علي (2 أكتوبر 1987).
وبالنظر الى حالات إنهاء مهام وزرائه الأول مع اشتداد الأزمات يتبيّن ان من العوامل التي ساهمت في إحداث خطة وزير أول هي حماية رئيس الجمهورية من الهزّات السياسية، فيكون بذلك الوزير الأول وكأنه الدرّع الواقي للرئيس.
المصدر: الشروق، 8 جويلية 2016، ص 4.