عن عشق الثورات أتكلّم

هاجر عمّار سليمان (*):
أطلّت برأسها من وراء الباب استجابة لنداء والدها إثر استدعاء أرسل من منطقة الحيّ، وهي المركز الرسمي لكلّ المخافر، رئيس المركز نفسه سلّم بيديه ورقة الاستدعاء إلى والد الفتاة، ولم تكن تجاوزت العاشرة حين تحجّبت وحين وصلتها هذه الورقة.
المشهد من تناقضه كان مضحكا مبكيا؛ فما الذي جلب مدير الأمن بالمنطقة ليقف على باب أحدهم ويأخذ البنت الصغيرة، في الصفّ الخامس الابتدائي، والتي جاءت ضدها شكوى من طرف مجهول “قوّاد” بلهجتنا واشيا، فقط لأنّها وضعت شالا على رأسها.
بل منظر الرجل حين فغر فاه يلخّص حجم المأساة، “امشي، امشي” غادرت العربة لا تلوي على شيء وأنا أتخيّل الحوار الذي يدور بينه وبين عون الأمن الذي يقودها.. أي مسخرة وضعونا فيها “تبّا لهم”.
كانت هذه البداية لمرحلة عشتها وعاشتها محجّبات تونس فترة التسعينيات وأوائل الألفين؛ كان الأمن يلاحقنا في الشوارع، قرب معاهدنا وداخلها طيلة فترة دراستنا، ولا ننسى خططنا الصباحية أن نغيّر طريقنا الذي اعتدنا أن نسلكه يوميا لكي ننجو من الصعود في سيّاراتهم المدرّعة ليحملونا نحن الصغيرات إلى مراكز الأمن وحتى المنطقة.
نُحجز ثمّ لا يكفيهم ذلك، بل يُستدعى آباؤنا لكي يضغطوا عليهم ويهدّدوهم، وكم هدّدنا بالسجن، بل تصل وقاحة عون الأمن الذي لا يرتدع أن ينزع حجابك أن يهدّدك بوقاحة بالخروج من مخفر الأمن عارية ليس من حجابك فقط، بل من ملابسك، خاصّة إذا طالهم لسانك بردّ أو مقاومة.
الجدار المحطّم من قبل البعض في زاوية من المعهد المترامية أطرافه كان ملاذنا الذي ندخل منه خفية لفصولنا بعد أن أصبح باب المعهد حاجزا أمنيا لمنع أي محجّبة للدخول، الأمن رفقة المدير والكاتب العام يقفون يوميّا في الصباح لتلقف من تقع يدهم عليها وتحوّل إمّا إلى المركز أو إلى مكتب المدير، أو تنزع شالها ثمّ تدخل إلى صفها.
فكيف لا نثور وقد تحوّل موظّفو التعليم ليد بطش مع الأمن نفسه؟ وكيف يبقى اسمه أمنا وهو يروّع ويفتكّ بحريّة كفلها لك دستور بلادك؟ وهلّ يظلّ تعليما حين تهدّد فيه بمستقبلك العلمي؟
وكم حرمنا من تسلم شهاداتنا وجوائزنا بالمعهد أنّا درسنا لأنّنا “محجّبات”، بل أذكر كيف زوّرت نتائج علامات صديقتي وأعطاها المعهد نتائج مزوّرة لتمنع من إكمال تعليمها. “الحجاب” أو أحد أفراد عائلاتنا ربّما كان “مجرما” في نظرهم لأنّه متديّن أو مقاوم، هذا كان ذنبنا.
فتونس ثارت على نظام قمع منعنا فيه من أبسط حقوقنا. أذكر كيف أرجعوني من الباب الخارجي لوكالة الأخبار الرسمية، ولم يسمح لي حتى بالصعود مع زملائي للمصعد، فقط لأنّ السلطات كانت أصدرت أوامر ومراسيم بمنع “اللباس الطّائفي” -حسب قولهم- من كلّ المؤسسات، بل من التدريب كصحفيّة في أي مؤسسة إعلامية رسميّة.
المشاهد عينها حدّثتنا عنها أخواتنا التركيّات، وكيف كان الأمن والجيش خاصّة يمنعهم من الدخول إلى المعاهد والجامعات، وكم خلعوا حجابهم بأياد آثمة، وكم عذّبن في سبيل التمسّك بمعتقداتهن، فكانت تركيا قريبة ممّا عشناه أو شهدناه أثناء فترات القمع، وكم كانت الأمور متشابهة هنا وهناك.
عون الأمن والجزيرة:
وأذكر كيف لاحقني عون الأمن وقتها من لحظة لمح تصويري المشهد العنيف وهو يلوّح بيده “متحشمش (أي لا تستحي) متديّنة وتصوّري”. لجأت يومها إلى أقرب باب اعترضني عرفت بعدها أنّه بنك من البنوك.
ولعلّ البعض يدرك معنى أن يلاحقك أمن الدولة بلباسه الأسود ووجهه المنقّب إلاّ من عينين الموت يتطاير منهما قبل الشرر ومدجّجا بسلاحه البارز يمينا وشمالا رغبة في افتكاك سلاحك “كاميرتك” التي نجت ونجوت. كلمته القامعة يومها أشعرتني بأنّ أياد خفية ومعلنة ما زالت تعشّش في البلاد، ورغم ذلك أملي لم ينقطع في ثورتنا التي خلّصتنا من أشياء ولا زالت الرواسب تبذر كالفقاع، ولأنّ ما عشناه حريّ بأن يكتمل للنهاية المبهجة مثلما وقع بتركيا.
عديدة هي الصور التي ذكرت والتي نُسّيت، إنّما هي قطعة من الفؤاد، وهي كفيلة لتجعل أي ثورة وأي انتصار شعبي هو انتصار أعيشه بمهجتي قبل قلمي ومصدحي. وكيف لا تستشعر الانتصار وأنت قد عشت قساوات الأمن المسلّط على رقاب المواطنين قبل المجرمين، وشاركت بإسقاط قلاع الظلم ثمّ وجدت لتشارك إتمام المشهد في تركيا.
العشق هو “إشك” بتركيا:
فتونس جمعتنا وتركيا حضنتنا ونحن الآن نمشي حثيثا نحو الحبّ الأكبر فلسطين؛ وهذه الثلاثية الرائعة لم يكن لها معنى لو لم تكن تونس شعلة الثورات وتركيا معقلها المنيع ووجهتهما القدس بعد تشرّب أمجاد محمد الفاتح والسلطان عبد الحميد.