
مختار صادق:
تقرأ بعض التحليلات والتعليقات التي تفتي وتزيّن لحركة النهضة تحالفها مع الشقّ المتبقّي من النداء! فيذكرك بعضهم بوثيقة الحديبية التي قبل فيها الرسول الكريم (صلّى الله عليه وسلّم) بشروطها القاسية رغم غضبة عمر لأنّ موازين القوى لم تكن في صالحه. يذكّرك البعض الآخر بنتائج الصندوق والمشهد السياسي الذي تفوح منه رائحة الاستئصال الجاثم علي الأنفاس قبل أن يضيف آخر بأنّه علينا أن نحمد الله علي سلامة الوطن فالقوى العظمى بصدد إعادة رسم خرائط المنطقة بالأحمر القاني وليس بأنامل المستلقين علي الأرائك يزرعون التشكيك من وراء الحواسيب ! القائمة من الأعذار والتحاليل طويلة جدّا ولكن نكتفي بهذا القدر.
ما أخافه أنّ حركة النهضة في تعاملها مع المشهد السياسي تستحضر تجربة التسعينات المرّة زيادة على اللزوم وتحلّل الواقع الحالي بأدوات التسعينات في حين أنّ الوضع تغيّر تماما ليس في تونس فحسب ولكن في العالم بأسره وأصبحت المقاربات الكلاسيكية في تعاطي السياسة متخلّفة ولا تفي بالحاجة.
فمن كان يظنّ أنّ غالبية البريطانيّين سيصوّتون لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي في خطوة اعتبرها الملاحظون أقرب إلى الجنون منها إلى الانتحار السياسي؟ لكن وكما نعلم الآن فإنّ الصندوق نطق على لسان الملايين من البريطانيّين الذين ذاقوا ذرعا بسياسيّيهم وخطاباتهم الجوفاء ودعواتهم المشبوهة ولذلك ورغم اتّفاق الحزبين الأعرق على عدم خروج بلادهم من الاتّحاد الأوروبي وإنفاق الملايين من “الأوروات” (أو الدولارات) في سبيل ذلك فإنّ الشعب سفّههم وأسمع الطبقة السياسية كلّها صرخته العالية احتجاجًا وعقابًا. من كان يصدّق أنّ رجلاً أحمق مثل “دونالد ترامب” هو الذي سيكون مرشّح الجمهوريّين في الانتخابات الرئاسية الخريف القادم ورئيس أمريكا المقبل علي الأرجح ؟ فالرجل كان واحدا من سبعة عشر مترشّحا أغلبهم من السياسيّين المحنّكين الذين يتقنون الخطابة والإقناع ولا تنقصهم الخبرة أو إدارة الحملات الانتخابية. نقطة قوة “دونالد ترامب” أنّه استطاع التواصل مع شريحة مهمّة من الأمريكيّين الغاضبين تجاه سياسة بلادهم من قضايا يعتبرونها مصيرية أفقدت الكثير من الأمريكيّين أعمالهم ونمط حياتهم مثل الهجرة غير الشرعية أو الاتفاقات التجارية مع الدول النامية في أمريكا اللاتينية أو آسيا. وقد بلغ هذا الغضب مدًى لم تنفع معه الطرق التقليدية في استمالة الناخب مثل الاقتراب من الوسط الانتخابي وحسن التكلّم والخطابة والخبرة والوعود الفارغة وغيرها من المصائد الانتخابية المحروقة.
ورغم أن العديد من شركات سبر الآراء تعطي “هيلاري كلينتون” مرشّحة الديمقراطيّين أسبقية على “دونالد ترامب” تفوق عشر نقاط كاملة إلاّ أنّ العارفين بخبايا الساحة السياسية لا يخفون تشكيكهم في مصداقية هذه النتائج ليس لأنّ هذه الشركات تتعمّد التضليل ولكن لأنّ هناك شريحة هامة من الأغلبية الصامتة قد كفرت بالسياسة وبسبر الآراء فهم لا يشاركون فيها ولكنّهم عاقدون العزم على التصويت في الخريف القادم لفائدة المرشّح الذي يقطع مع الواقع التعيس (من وجهة نظرهم) ويعد بتغيير جذري في تمشّي البلاد كما فعل ويفعل “دونالد ترامب” رغم هفواته المتكرّرة كما ورد في تصريحاته السابقة من عنصرية بغيضة سواء ضدّ المرأة أو المسلمين أو اللاتينيّين (المكسيكيين بصفة خاصّة).
هذا الغضب الجماهيري في كلّ البلدان الديمقراطية يترجمه الصندوق إلى نتائج تكفر بالتفكير الوسطي المتوازن.
تونس ليست استثناء بل على العكس قد تكون خير مثال لهذه الموجة من السخط على السياسة وأهلها نظرا لعدّة أسباب يراها ويلمسها ويعيشها المواطن التونسي كلّ يوم بل كلّ ساعة من فساد ينخر كلّ القطاعات وتدنٍّ في المقدرة الشرائية للمواطن وسقوط مريع للدينار ونقص في الإنتاج والمردودية وتكاثر في الديون وفوائدها.
لكلّ هذا على النهضة أن لا تستهين بردّة الفعل الانتخابية الانتقامية الآتية لا محالة. فالنهضة لم تعد ذلك الحزب الطاهر ذا النهج الإصلاحي الحازم والرسالة الواضحة السهلة الالتقاط بل إنّ مخالطتها للفحّام الندائي جعلتها تنال سواده الفاسد الذي دنّس صورة الحركة النقيّة وأظهرها في صورة المتكالب على السلطة والكراسي والامتيازات سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد.
المواطن العادي الذي طحنه الفساد والتجويع والحيف الاجتماعي لا يهمّه كثيرًا دافع النهضة للتحالف مع نداء الفساد سواء كان ذلك لتفادي الاستئصال أو لاكتساب الخبرة أو لافتكاك موطئ قدم فكلّ ما سيراه المواطن هو تحالف بين الحزبين الحاكمين لاقتسام غنائم السلطة والتطبيع مع الفساد والفاسدين دون الاهتمام بالفقراء و”المستضعفين”. بعد هذا التورّط السياسي الذي وجدت (أو أوجدت) النهضة نفسها فيه قد يكون الحلّ في فك الارتباط مع حزب المتحيّلين والزهد في السلطة ومغرياتها والالتصاق من جديد بالشعب وهمومه ورفع شعار محاربة الفساد بلا هوادة.
ما قد يغيب على ذهن البعض أنّ الزمن تغيّر ولم يعد ذاك الزمن فحكاية الاستئصال لم تعد ممكنة في تونس في هذه المرحلة لعدّة أسباب لعلّ أبرزها ضعف القوى الاستئصالية الآن ونأي الجيش الوطني بنفسه عن التدخّل في السلطة وغياب الوزن الاستراتيجي للبلاد في الحسابات الكونية كما هو الحال بالنسبة لمصر على سبيل المثال. فلو كان بإمكانهم الدخول في معركة استئصال جديدة في ظلّ وضع البلاد الهشّ في هذه المرحلة لفعلوها أيّام “الروز بالفاكية” عندما كانت كلّ الظروف مواتية. لكلّ ذلك فمسألة الاستئصال الكامنة في وجدان كلّ نهضاوي يجب أن لا تحجب الرؤية عن سائق القاطرة النهضاوية بل على العكس قد تكون مخلّفاتها التوافقية سببًا في عودة الاستئصال من جديد.
في المرحلة القادمة ستعيد سياسة “التوافق” لحزب النداء المتشقّق التوازن وتربحه مزيد الوقت والإسناد السياسي من حركة مناضلة ليستردّ عافيته وقوّته ثمّ يلتفت بعد ذلك إليها عندما يشتدّ عوده ويستتبّ له الأمر كما فعل بن علي من قبل… حينها سيجد النهضاوي ظهره مكشوفا فالشعب الغاضب قد يكون ولّى وجهته نحو أحزاب أخرى تعارض الحكومة بشراسة والخيبة الكبرى للنهضة وسياستها “التوافقية” هي أن تكون الجبهة الشعبية مقصد أصوات المحتجّين الغاضبين !
.
المصدر: أقلام حرّة
.