تونسدراسات

تونس: الإنتزاع من أجل المصلحة العامة في القانون التونسي

images-10

 

هدى الفرشيشي (*): 

 

مقدمة:
حق الملكية حق يكاد يرتقي إلى مرتبة الحقوق المقدسة ضرورة أنه تم إقراره صلب كافة التشريعات البشرية على مدى الحقبات التاريخية المتتالية.
فهو أساس إستقرار الإنسان وتخليه عن الترحال. وقد عبر عنه العلامة عبد الرحمان ابن خلدون بقوله :”لا قوام للإنسان إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل “فحماية حق الملكية واجب محمول على الدولة لضمان التصرف فيه في كنف القانون ودون أي شغب.
إلا أنه في إطار سعي الدولة إلى توفير المرافق العامة وتلبية حاجيات الأفراد فإنها تجد نفسها مجبرة أحيانا على الحد من حق الملكية أوحتى النيل منه.
في هذا الإطار، يتنزل موضوعنا الذي يتناول بالدرس مسألة الإنتزاع من أجل المصلحة العامة.
إن لفظ الإنتزاع يعني إفتكاك الشيء بالقوة والإكراه. وهو فعل مجرم قانونا نظرا لطابعه اللاشرعي. إلا أن هذا الفعل يصبح مشروعا بسبب الهدف الذي وقع من أجله وهو تحقيق المصلحة العامة.
لذلك، وجب تأطير هذا الفعل قانونا حتى يكتسب مشروعية تبرر حيف الدولة ونيلها من حق الملكية.
وهكذا، فإن موضوعنا هذا يطرح الإشكال التالي :
ما هو الإطار القانوني للإنتزاع من أجل المصلحة العامة في تونس؟
للإجابة عن هذا التساؤل نتعرض في مبحث أول إلى التطور التاريخي للنظام القانوني للإنتزاع من أجل المصلحة العامة.
لنتعرض في مبحث ثان إلى إجراءات الإنتزاع من أجل المصلحة العامة.

1- التطور التاريخي للنظام القانوني للإنتزاع من أجل المصلحة العامة:

كان أول بروز لمفهوم الإنتزاع من أجل المصلحة العامة من خلال الأمر المؤرخ في 30 أوت 1858 المنشئ لبلدية تونس الحاضرة الذي نص صراحة على الإنتزاع من أجل المصلحة العامة على أن يتولى المجلس البلدي وفقا لإجراءات دقيقة إقرار الإنتزاع.
ثم جاء إثر ذلك أمر 25 فيفري 1861 المتعلق بحقوق الراعي والرعية الذي أقر عشرة حقوق أساسية كان سادسها «أن سائر الرعايا لهم حق التصرف في أموالهم ومكاسبهم على إختلاف أنواعها وصناعاتهم المنزلة عند أربابها منزلة المال ،لاتقع على شيء من ذلك يد غصب أو إتلاف أو شيء ينقص قيمتها إلا لمصلحة عامة كتوسعة الطريق بقيمة المثل…»
وهكذا فقد أرسى هذا النص مفهوما متطورا للدولة العصرية بإعتبارها حارسا للحقوق الفردية يسهر على راحة وطمأنينة الشعب ليس له أي هدف سوى تحقيق المصلحة العامة مع ما يمكن أن يتطلبه هذا الهدف من وسائل وإمكانيات قد تضطرها أحيانا إلى النيل من حق الأفراد في التصرف في أموالهم ،وهو المفهوم الحالي للإنتزاع من أجل المصلحة العامة. ولكن هذا الأمر مشروط بتعويض الدولة لهؤلاء الأفراد بقيمة المثل.
من أجل ذلك جاء دستور 1861 لتقنين هذه المسألة.ضرورة أنه تضمن صلب فصله 89 أنه «لا توضع يد على كسب لأحد بأي وجه إلا بمصلحة عامة كتوسعة الطريق ونحوه بثمن المثل» فهذا الإجراء الاستثنائي ونظرا لطابعه القهري يجب أن يكون مقننا بضوابط وشروط لا تسمح للدولة بالتعسف في ممارسته.
وهو ما حصل فعلا سنة 1905 بصدور الأمر المؤرخ في 05 سبتمبر 1905 الذي تم بمقتضاه تقنين الإنتزاع من أجل المصلحة العامة ووضع إطار قانوني ملزم له. إذ اشترط صراحة أن يتم الإنتزاع بواسطة أمر وأن لا يتم تحويز الإدارة المستفيدة بالإنتزاع إلا بعد تأمين غرامة عادلة يضبطها القضاء.
وقد تواصل العمل بأمر 05 سبتمبر1905 إلى أن صدر أمر 09 مارس1939 المنظم للإنتزاع من أجل المصلحة العامة والمنقح بواسطة أمر 10 ديسمبر 1943 المتعلق برخص البناء اللذين وقع الإبقاء عليهما نافذين بعد الإستقلال إلى أواسط السبعينات تاريخ صدور القانون عدد (85) لسنة 1976 المؤرخ في 11 أوت 1976 المتعلق بمراجعة تشريع الإنتزاع للمصلحة العامة.
وقد تضمن هذا القانون (53) فصلا مقسمة ضمن ستة عناوين حاولت أن تستوعب جميع إجراءات ومراحل عملية الإنتزاع.
ويعتبر هذا النص القانوني بمثابة القاعدة العامة في مجال الإنتزاع ذلك أنه يتضمن العديد من الأحكام التي تهدف إلى ضمان حقوق صاحب العقار المنتزع.
وقد أرسى هذا القانون نظاما مزدوجا للإنتزاع الذي كان يتم وفقا لطريقتين:
الإنتزاع العادي الذي كان يستوجب من الإدارة إتباع جملة من الإجراءات المنصوص عليها بالفصل (11) قديم وما يليه وتتمثل أساسا في إعداد مثال تقسيمي وإيداعه بالولاية وإعلام المنتزع منه عقاره بنية الإنتزاع ومحاولة الإتفاق معه على التفويت بالتراضي. وفي صورة الإعتراض يقع إجراء بحث من قبل لجنة مع ضرورة الإستماع إلى المنتزع منه عقاره من طرف لجنة البحث.
وكان قانون 1976 ينص على ضرورة التنصيص ضمن أمر الإنتزاع على إتمام هذه الإجراءات.
الإنتزاع المتأكد وهو إجراء يعفي الإدارة من إتباع الإجراءات الأولية لإصدار أمر الإنتزاع، التي سنتعرض لها لاحقا في المبحث الثاني.
وهذه الطريقة الثانية تتسم بانعدام الضمانات للمنتزع منه عقاره.وهو ما نص عليه الفصل (17) حينما إعتبر أنه «في حالة التأكد المصرح في أمر الإنتزاع يمكن أن يتم التحويز بمجرد نشر أمر الإنتزاع».
وتبعا لذلك وسعيا لحماية المنتزع منه عقاره بتوفير ضمانات كافية له، بادر المشرع بالتخلي عن طريقة الإنتزاع المتأكد من خلال إصدار قانون 14 أفريل 2003 الذي أرسى نظاما موحدا للإنتزاع.
وقد أحدث هذا القانون لأول مرة في تونس لجنة الإستقصاء والمصالحة وذلك تماشيا مع الضمانات الدستورية لحق الملكية الفردية ولغاية إخضاع الإدارة إلى المراقبة القضائية.وقد تم ضبط تركيبتها ومشمولاتها من خلال المنشور عدد(01) لسنة 2005 الصادر عن السيد وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية بتاريخ 21 فيفري 2005.
كما تضمن هذا القانون ضمن فصله عدد(36) إجراء جديدا يهم حذف الجدول الإصلاحي المصاحب لأمر الإنتزاع وذلك في مرحلة ترسيم أمر الإنتزاع من طرف مصالح إدارة الملكية العقارية.
إذ يرسم أمر الإنتزاع بالسجل العقاري بقطع النظر عن عدم تطابق الأسماء بين بيانات أمر الإنتزاع وبيانات الرسم العقاري أو الرسوم العقارية المعنية.
على أن يتم إصدار الجدول الإصلاحي لاحقا عند الإقتضاء فلايتم رفض ترسيم أمر الإنتزاع بسبب عدم التطابق في أسماء المالكين وإنما يرسم الأمر المذكور ويقع في نفس الوقت إعلام الجهة المنتزعة بعدم التطابق الموجود حتى تقوم فيما بعد بإصدار جدول إصلاحي في الغرض.
وتواصل العمل بهذا القانون إلى غاية صدور القانون عدد (53) لسنة 2016 المؤرخ في 11 جويلية 2016 المتعلق بالإنتزاع من أجل المصلحة العمومية الذي ألغى لجان الإستقصاء والمصالحة وعوضها بلجنة إدارية قارة على مستوى كل ولاية تسمى «لجنة الإقتناء لفائدة المشاريع العمومية».
وسنتعرض إلى مميزاتها ومهامها ضمن المبحث الثاني من هذه الدراسة.

2 ـ إجراءات الإنتزاع من أجل المصلحة العامة:

إن الإنتزاع من أجل المصلحة العامة من أهم وأخطر إمتيازات السلطة العامة. فهو أسلوب إستثنائي وقهري تنفرد به الدولة يتم بمقتضاه نزع الملكية الخاصة من أصحابها وإسناد العقارات إلى الهيئات العامة التي يحددها القانون.

وتتمثل هذه الهيئات إما في الدولة أو مجالس الولايات أو البلديات أو غيرها من الجماعات العمومية أو حتى المؤسسات العمومية وذلك عن طريق الدولة طـبقا لأحكام الفصـل الأول من القـانون عـدد (85) لسنة 1976 المـؤرخ في 11 أوت 1976.
وهذا الأسلوب الذي يتم بمقتضاه إكراه الخواص على التخلي عن عقاراتهم يجب أن يتم إحاطته بجملة من الضمانات والقواعد الإجرائية حتى لا يترتب عنه حيف من طرف الدولة للنيل من حقوق المنتزع منه.
وفي إطار إستعراض إجراءات الإنتزاع التي تم تحديدها بكل دقة صلب القانون عدد (85) لسنة 1976 المؤرخ في 11 أوت 1976 كيفما تم تنقيحه بالقانون عدد (26) لسنة 2003 المؤرخ في 14 أفريل 2003 وبالقانون عدد (53) لسنة 2016 المؤرخ في 11 جويلية 2016 نميز بين الإجراءات الأولية أي تلك السابـقة لإصدار أمر الإنتزاع وبين الإجراءات اللاحقة لإصدار أمر الإنتزاع .

الإجراءات الأولية:

تتمثل هذه الإجراءات في الأبحاث والإشهارات ومحاولات الصلح التي يتعين على الإدارة إتمامها قبل الإنتزاع.
وقد ألزم قانون 14 أفريل 2003 الإدارة بالقيام بالأبحاث والإستقصاءات اللازمة في خصوص العقار موضوع الإنتزاع ومالكيه وذلك بواسطة لجنة قارة أحدثت بمركز كل ولاية وتسمى «لجنة الإستقصاء والمصالحة».
هذه اللجنة أحدثت بموجب الفصل (10) جديد من القانون المؤرخ في 14 أفريل 2003. وهي لجنة إدارية تتمتع بصلاحيات واسعة قصد التعرف على المستحقين في تاريخ تعهدها ودرس الحالة القانونية والمادية للعقار على ضوء ملف تعده الجهة التي تعتزم القيام بالإنتزاع .
ولأجل ذلك فإنه من بين أعضاء هذه اللجنة ممثل عن إدارة الملكية العقارية يقوم بمدها بمعطيات حول الوضعية القانونية والإستحقاقية للعقار المزمع إنتزاعه وذلك بالنسبة للعقارات المسجلة.
وتقوم اللجنة كذلك بالسعي للتوصل إلى إتفاق بين صاحب العقار والجهة الإدارية المنتزعة.
وتدعو اللجنة المالكين أو المعتبرين كذلك قصد التوصل معهم إلى إتفاق حول قيمة العقار بناء على تقريرين يعدهما خبير من أملاك الدولة وخبير يعينه المستحقون.
وتكون القيمة التي تقترحها لجنة الإستقصاء والمصالحة ملزمة للإدارة .فهي قيمة دنيا لا يمكن أن يقل عنها مبلغ التعويض.
ومن بين صلاحيات لجنة الإستقصاء والمصالحة أنها تنظر في الإعتراضات المقدمة من أصحاب الحقوق حول مدى توفر المصلحة العامة أو حول الإستحقاق.
وفي هذه الحالة تقوم اللجنة بالأبحاث والتحريات اللازمة وذلك مع إحترام مبدأ المواجهة .فهي ملزمة بأن تستمع لمختلف الأطراف وهو ما يفسر رئاسة اللجنة من طرف قاض.
إثر ذلك ،تأذن اللجنة بإنجاز المثال النهائي من قبل ديوان قيس الأراضي والمسح العقاري أو خبير مختص. وتعد محضرا في الغرض.
والملاحظ في التشريع التونسي ،أن المحاكم وقع إستبعادها في مرحلة الإجراءات الأولية السابقة لصدور أمر الإنتزاع وذلك على عكس القانون الفرنسي الذي أعطى للقضاء دورا مهما فيما يتعلق بتقدير مدى توفر ركن المصلحة العامة في المشروع الذي وقع من أجله الإنتزاع.
وبصدور القانون عدد (53) لسنة2016 المؤرخ في 11 جويلية 2016 تم إلغاء هذه اللجنة وتعويضها بلجنة الإقتناء لفائدة المشاريع العمومية. وهي لجنة لها نفس صلاحيات لجنة الإستقصاء والمصالحة .إلا أنها تختلف عنها من حيث التركيبة والطبيعة القانونية.
فهي لجنة إدارية يترأسها الوالي على عكس سالفتها التي يترأسها قاض.كما أنها من الممكن أن تقوم بمهامها عبر إجراء بحث على عين مكان العقار موضوع الإنتزاع وذلك في صورة وجود إعتراض على تشخيص العقار ومحتوياته وبطلب من المعترض.
وتدون هذه اللجنة بدفتر الإستقصاء هوية كل من قبل بعرض الإدارة وتشرع في تجهيز الملفات الضرورية لإتمام عملية التعاقد معهم.ليتولى فيما بعد رئيسها إحالة نسخة من دفتر الإستقصاء إلى المنتزع مرفوقا بتقرير معلل حول الإعتراضات ومختلف الطلبات وشهادة تثبت التعليق والإشهار.
وبمجرد توصله بالملف يقوم هذا الأخير بإعداد مشروع أمر الإنتزاع.

الإجراءات اللاحقة لصدور أمر الإنتزاع:

إثر قيام لجنة الإقتناء لفائدة المشاريع العمومية بالإجراءات الأولية فإنها ترفق أمر الإنتزاع بمثال التجزئة النهائي أو بالمثال النهائي للعقار حسب الحالة لينشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية رفقة أمر الإنتزاع مع ضرورة التنصيص على إتمام الإجراءات السالف ذكرها.
وبصدور أمر الإنتزاع تكون السلطة المنتزعة ملزمة بالقيام بإجراءات إشهارية ضبطها الفصل (24) جديد من قانون 11 جويلية 2016 وتبليغ المستحقين بأمر الإنتزاع مصحوبا بالأمثلة الهندسية والتقارير وخاصة ضبط قيمة العقار.
ويقوم الوالي بدور بارز خلال هذه المراحل الإجرائية اللاحقة لصدور أمر الإنتزاع.إذ يقوم بإشهاره عبر تعليقه بمقر كل من الولاية والمعتمدية والبلدية والإدارة الجهوية لأملاك الدولة والشؤون العقارية.
كما يتلقى حجج ملكية المنتزع منهم للعقارات المزمع إنتزاعها ويتم تدوين هذه التصريحات بدفتر مرقم وموقع عليه من قبل الوالي يفتح للغرض بمقر الولاية.
ويرسل أمر الإنتزاع إلى إدارة الملكية العقارية قصد ترسيمه بالسجل العقاري.
ويرسم أمر الإنتزاع بقطع النظر عن عدم تطابق الأسماء بين بياناته وبين بيانات الرسم العقاري.
وقد ألغى القانون الجديد بصفة نهائية شكلية الجدول الإصلاحي وذلك ضمن فصله (26) معفيا بذلك ضمنيا إدارة الملكية العقارية من واجب التحقيق في هوية المالكين بالرسم العقاري موضوع الإنتزاع.
وإثر ترسيم أمر الإنتزاع يتم صرف غرامة التعويض إلى مستحقيها بعد أن تم تأمينها بالخزينة العامة للبلاد التونسية.
ويسقط حق المطالبة بغرامة الإنتزاع بمضي خمسة عشر سنة من تاريخ صدور أمر الإنتزاع .

 

المصدر: الشروق 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)-  متفقد مركزي للملكية العقارية بالإدارة الجهوية للملكية العقارية ببن عروس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق