وليفييه روا عن «الجهاد والموت»: الدين ليس السبب الوحيد لانخراط الشباب الأوروبي في الحركات الجهادية

سمير ناصيف:
طرح المفكر والباحث الفرنسي “اوليفييه روا “نظرية متطورة حول دوافع انخراط الشباب الأوروبي المسلم في الحركات الجهادية الإسلامية وإزاء تطلعاته بالنسبة لما سيحققه نتيجة لعمليات عنيفة قد يرتكبها مشككاً في أن الدين والتدين هما العنصران الأساسيان والوحيدان في هذا الخيار أو في تنفيذ العمليات الجهادية العنيفة.
اوليفييه روا احتل مناصب هامة في مراكز الأبحاث السياسية والاجتماعية في فرنسا بينها منصب مدير «المركز الوطني الفرنسي للدراسات العلمية» وحاضر في أبرز معاهد فرنسا كمعهد «مدرسة الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية» و»معهد دراسات العلوم السياسية» في باريس، وعمل كمستشار لوزارة الخارجية الفرنسية ولمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية، وله مؤلفات عديدة عن الإسلام والشرق الأوسط وعن التدهور الأمني في فرنسا وانتشار العنف والحركات الراديكالية فيها.
اما نظريته المذكورة أعلاه فوردت في كتاب له صدر هذا العام بالفرنسية بعنوان: «الجهاد والموت».
ومما لاحظه روا في هذا الكتاب ان مرتكبي العمليات الجهادية العنيفة بين الشباب الأوروبي المسلم أو المتأثر بالإسلام الجهادي لا ينظّمون ولا يحضّرون لعمليات هروبهم بعد ارتكابهم عملياتهم. ففي كثير من الأحيان يبدوا انهم يفضلون الموت كشهداء على العرب بعد هذه العمليات. وبالتالي، يرى روا ان عملياتهم الاستشهادية تختلف في هذا المجال عن عمليات المقاومين الجزائريين والفلسطينيين وغيرهم من أبناء الأجيال السابقة في خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينات القرن الماضي.
ويشير روا إلى ان الإسلام وبرغم تأييده للمقاومة في سبيل التحرير من الطغيان والدفاع عن الدين والوطن فانه لا يشجع الإنسان المسلم على ارتكاب أي عملية متعمدة الموت مسبقاً، وتسعى سعياً إلى الموت، لأن ذلك يخالف مبدأ القضاء والقدر ومذهب الجبرية وقضاء الله الأبدي. فأمر الحياة والموت في الإسلام بيد الله وحده ولا يحق للإنسان ان يسلبه من الإرادة الإلهية.
وبالتالي، فان روا يرى ان الظاهرة المنتشرة حاليا بين الشباب الذي يرتكب العمليات التفجيرية أو الاغتيالات ضد المدنيين في أوروبا والعالم ربما هي حركة جهادية شبابية من خارج التوجه الديني. وهي ظاهرة تواجدت لدى شباب آخرين سابقا في بلدان أخرى من العالم ولم يكن الإسلام دافعها بل كانت لديها دوافع أخرى. (مثلا حركة نمور التاميل في سري لانكا التي ارتدى شبابها الأحزمة الناسفة مدركين ان مصيرهم الموت، وكذلك الأمر لدى الخمير الحمر في كمبوديا وبعض المنظمات الصينية العنيفة).
ويشدد روا على ان هذا التوجه الجهادي الشبابي في أوروبا والعالم يكون في العادة جزءا من ثقافة شبابية تتجاوز الايمان الديني كما يراه أهل هؤلاء الشباب ولكنه يندرج في رؤية «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، إذ أن «داعش» ومثيلاتها في العالم تسعى إلى هدم حضارة الأهل وتراثهم، وليس فقط القتل الجسدي لخصومها، كما ان الحلول التي تطرحها هذه المجموعات والأفراد التابعين لها شبه مستحيلة التحقيق.
وفي المقابل، فان طروحات المقاومين في الثورتين الجزائرية والفلسطينية وشبيهاتهما، ممكن تحقيقها. كما ان مقاوميها يسعون إلى البقاء أحياء، إذا كان ذلك ممكنا، للقيام بعمليات مقاومة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك فهم لا يهدمون المعالم الحضارية والتراثية لبلدانهم وللحضارة عموماً بل على العكس يتجنبون ذلك في كثير من الأحيان.
ويقول روا ان من يريد مسبقا ان يموت (متحدياً سلطة الله) ليس لديه أي شيء يريد التفاوض حوله أو ابقاءه في هذا العالم للأجيال المقبلة. كما ان العمليات «الجهادية» في أوروبا وخارجها لا تخسر المنظمات الجهادية التي تقف وراءها عناصرها فحسب بل تنشط الكره ضدها في المجتمعات الغربية ولدى المجموعات المسلمة في العالم التي تتشوه صورتها وثقافتها. فعندما يكون العنف غاية وليس وسيلة لتحقيق غاية ممكن تحقيقها يصبح، في رأي روا، عنفاً مرضياً تجب معالجته.
وشدد روا في مراحل مختلفة من كتابه على احترامه ومحبته للإسلام مؤكداً ان هذا النوع من الإرهاب المسمى «جهاديا» لا يأتي من الإسلام بل يسميه روا «أسلمة الإرهاب». وينتقد مفكرين فرنسيين آخرين على شاكلة فرنسوا بورغا وجيل كيبيل وغيرهم اعتمدوا تفسيراً احادياً بان هذا الإرهاب دوافعه تاريخية وناتج بشكل رئيسي عن التعامل السيء تاريخياً للدول الغربية الاستعمارية مع الإسلام والمسلمين.
كما يشير إلى ان هؤلاء الشباب «الجهاديين» الذين يسكن معظمهم أوروبا وبقاعاً أخرى من العالم ليسوا هم الضحايا الفعليين للممارسات القمعية ضد المسلمين، وان راديكاليتهم تنضج وتصُقل وتتطور في بلدان أخرى يسافرون إليها ولديها قواعد تدريب على العنف «الجهادي». وبالتالي، يعتبر روا ان الراديكالية العنيفة، غير الواضحة الأهداف استخدمت الدين وليس العكس، أي انه ليس الدين الإسلامي هو الذي دفع إلى العنف.
ففي الصفحتين 20 و21 من الكتاب يقول: «ممارسوا الإرهاب في أوروبا (وغيرها) ليسوا فقط ضحايا غزة وليبيا وأفغانستان أو فقراء هذه الدول من الطبقات المسحوقة بل عدد كبير منهم اعتنقوا الإسلام بشكل سطحي». ويضيف في الصفحة 22: «ربما يعود فهمهم للقضية الفلسطينية والمدافعين عنها إلى كونهم يعيشون في عالم خيالي غير واقعي وليس ادراكاً لوقائعها». كما انهم فهموا الجهاد، حسب المؤلف، فهماً خاطئاً إذ تم تحوير مفهوم الجهاد لديهم إلى جهاد العنف فقط وتم جعله، كما يرونه هم، فرضاً على المسلمين وكأن العنف الركيزة السادسة للإسلام، وذلك بدلاً من اعتناق المعنى الأوسع للجهاد والذي يرفض القتل والتنكيل بالمسلمين الآخرين والأبرياء لاثارة الفتنة.
ويذكر روا ان عدداً من الراديكاليين الشباب في الغرب الذين يدعون الدفاع عن الإسلام لا يتقنون اللغة العربية المكتوبة ومنهم من لا يتقنون اللغة العربية المتكلمة، ومعظمهم من الجيل المهاجر الثاني أو الثالث، وعدد كبير منهم عاشوا حياة صاخبة قبل تحولهم إلى «الجهاد»، ارتكبوا خلالها تجاوزات للقانون قادتهم إلى السجن حيث تأثروا بتعاليم سجناء آخرين منهم من ارتكب عمليات سابقا أو قُبض عليهم قبل ان يرتكبوا هذه العمليات، ويعطي أسماء في هذا المجال.
روا يرى ترابطا بين عملية تفجيرية أو قتل جماعي وأخرى تليها بين أبناء الجيل الجديد من الجهاديين الذين يرفضون نظرة الآباء والجدود للأسلام ويعتبرونها نظرة تركها الاستعمار في عقول أبناء البلدان المستعمرة من الأجيال السابقة.
ويفسر زواج عدد من هؤلاء الشباب وانجابهم الأطفال قبل تنفيذهم عملياتهم بانهم يعتبرون الاستشهاد غايةً ويسعون إلى الموت الاستشهادي. كما يفسر انتساب الاناث إلى المنظمات الجهادية المسلحة في أوروبا وغيرها بكونهم اما فقدوا ازواجهن او اخوتهن في عمليات استشهادية، وليس لأهداف أخرى تركّز عليها وسائل الإعلام المعادية لهم.
كما يوضح ان الشباب الراديكاليين الجهاديين في أوروبا لا يختلفون في ملبسهم وعاداتهم وممارساتهم اليومية عن الشباب الأوروبيين الآخرين، كالممارسة الرياضية وعشق المنافسة الرياضية والميل إلى الموسيقى. كما يختلف مع آراء المنظّرين الذين يعتبرون ان الانتماء إلى «حركة الإخوان المسلمين» يشكل الخطوة الأولى للانتقال إلى العمل الجهادي العنيف لدى شباب أوروبا مشيراً لعدم وجود أي اثبات حول هذه النظرية. وأبرز تفسير حول هذا الخطأ هو قلة عدد الشباب المجاهدين الأوروبيين بالمقارنة مع عدد المنتسبين إلى الحركات الإسلامية السلمية عموماً كالإخوان المسلمين. كما يرفض روا الفكرة القائلة بأن معظمهم مصاب بأمراض نفسية، ولكنه يشير إلى ان بعضهم عانى من حياة عائلية صعبة كما كان الوضع لدى سائق الأوتوبيس في مدينة نيس الفرنسية الذي اجتاح وقتل العديد من الأبرياء.
المنظمات «الجهادية» العالمية، في رأيه، قد تحاول اختيار منفذي العمليات من هؤلاء ولكن في كثير من الأحيان يختارون هم بأنفسهم القيام بعمل «جهادي» تفجيري كما ان منهم من يختار القيام بعملية بسبب حادث عنصري فردي تعرض له.
إذن، فروا يدعو إلى معالجة الأسباب الداخلية في المجتمعات الأوروبية والعالمية التي تؤدي إلى اعتناق الشباب الأوروبي الحركات الجهادية الإسلامية العنيفة، وتنفيذ العمليات التفجيرية والاغتيالات الجماعية.
وربما كان من المفيد ان يشير أيضا إلى الأسباب الخارجية، أي سياسات بعض دول أوروبا وامريكا الخارجية إزاء النزاعات في الشرق الأوسط، وانحياز معظمها إلى إسرائيل في النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ومع انه يقول في الصفحة (69) من الكتاب ان بعض هؤلاء الشباب الجهاديين ربما تأثر بأحداث الشرق الأوسط ومنهم من كان راديكالياً بسبب السياسات الأوروبية والأمريكية المجحفة في هذا المجال، قبل ان تحركه أيد خارجية، فانه فضّل اعتماد المقاربة المختلفة عن مقاربة محللين آخرين وضعوا اللوم بكامله على انحياز السياسات الخارجية الامريكية والأوروبية ضد العرب والمسلمين في الماضي والحاضر.
وعلى الرغم من ذلك فان آراء روا جدية بالاحترام، أولاً، لانها مبنية على دراسات وخبرة عارمة في شؤون الشرق الأوسط، وثانيا، لأنه من الكتاب القليلين الذين يفهمون الإسلام فهماً عميقاً ويرفضون «الإسلاموفوبيا» رفضا باتاً.
ففي الفصل الختامي من كتابه يقول أن اللعب على مخاوف الأوروبيين والأمريكيين والغربيين عموما من الإسلام سيكولوجياً وإعلامياً سيساهم في تقوية الحركات المناهضة للإسلام في الغرب وبالتالي في تصعيد مواقف المنظمات الجهادية والشباب المجاهد في أوروبا والعالم. وهذا أمر مفيد للمنظمات الجهادية العنيفة الساعية إلى خلق حرب أهلية بين المسلمين والآخرين، حسب قوله، والتي تتخيل انه بإمكانها استخدام المسلمين المقيمين في الغرب كطابور خامس في حربها مع دول هذا الغرب وشعوبه. ولكن هذا الأمر، في رأي روا، هو وهمٌ، وهذه المشاريع فشلت وستفشل إلى درجة أكبر، إذ يتواجد تباعد كبير بين مسلمي الغرب والمنظمات الجهادية الإسلامية العنيفة في العالم.
فقيادات مسلمي الغرب تطالب بإصلاحات في الإسلام، برأي روا، وبصعود نخب إسلامية جديدة في الدول الغربية بإمكانها التعايش مع الشعوب الغربية وقيمها. ومن أجل ذلك، تسعى إلى إيجاد وتدريب أئمة مسلمين شباب بإمكانهم التفاعل مع الشباب المسلم في أوروبا وامريكا والعالم، واقناعهم بخيارات أفضل من أجل حياة أفضل من دون غسل أدمغتهم ومحاولة دمجهم بالكامل ودفعهم للتخلي عن قيمهم ومعتقداتهم.
Olivier Roy : Le Djihad et la mort
Seuil, Paris 2016
Pages: 176
المصدر: القدس العربي