
عبد السلام الزبيدي:
الملخص :
هيمن الجدل حول الاستحقاق الدستوري المتعلق بالمصادقة على مشروع الميزانية وقانون المالية للسنة القادمة على النقاش السياسي والإعلامي والمنظماتي بل والمجتمعي خلال الأسابيع الأخيرة ، ووجد الإئتلاف الحاكم برئاسة يوسف الشاهد نفسه أمام اختبار من الصعب – حتى لا نستعمل عبارة مستحيل أو شبه مستحيل – الخروج منه دون أضرار . فمشروع قانون المالية 2017 تضمن أحكاما أغضبت الأجراء ولم ترض المؤجرين وكذلك المشتغلين في المهن الحرة كالمحامين والأطباء ، واحتوى إجراءات وصفتها أحزاب المعارضة بأنها إملاءات من صندوق النقد الدولي ، و نصّ على توجهات وسياسات انتقدها خبراء اقتصاديون وماليون بعضهم برتبة وزير مستشار في الحكومة ذاتها وبعضهم في مواقع قيادية بأحزاب الإئتلاف الحكومي.
وبغض النظر عن طبيعة الأوصاف الملحقة بمشروع قانون المالية من أنصار الإئتلاف الحاكم على غرار الإكراهات أو الاضطرار أو الخيار الصفر أو من المعارضة السياسية وكذلك المنظمات المهنية من قبيل الإملاءات أو الأمر الواقع أو الارتهان الى الخارج أو الإفلاس الحكومي ، فإننا أمام قانون مالية محفوف بكل المخاطر سواء تم تمريره في مجلس نواب الشعب بصيغته الأولية أو بعد التعديل . فالحفاظ على الإجراءات الجديدة الأربع والخمسين سيدفع الاتحاد العام التونسي للشغل ( العمال) لإعلاء منطق المواجهة والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ( الأعراف ) للإحتجاج عبر الإحجام عن الإستثمار ، وإذا تراجعت الحكومة عن القرارات أو الإجراءات ” غير الشعبية” فإن التوازنات المالية ستختل مما سيضطرها الى إعلان سياسة التقشف في أقرب الآجال علاوة عن إمكانية سحب صندوق النقد الدولي ثقته في الحكومة وإيقافه للتفاهمات الثنائية وما سيترتب عنه من ارتفاع كلفة الاقتراض الخارجي من حيث الشروط والفوائض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقدمة:
حدّد دستور الجمهورية التونسية العاشر من ديسمبر من كل سنة أجلا أقصى لمصادقة مجلس نواب الشعب على ميزانية الدولة للسنة المقبلة . ولهذا الموعد خصوصيات استثنائية هذه السنة ، فهو يتزامن مع الموعد الرمزي لتقييم أداء الحكومة الجديدة أي 100 يوم بعد تسلّمها السلطة ، مما يعني أن مناقشة مشروع قانون المالية لن تكون للمصادقة من عدمها بل ستتمحور حول الحكومة وأدائها نجاحاً أو فشلاً ، والمطلّعون على طبيعة المشهد السياسي بتونس يدركون أنّ الرياح لا تجري في اتجاه سفينتها. والأجل الأقصى للمصادقة يأتي كذلك عشرة أيام فقط بعد مؤتمر الإستثمار الدولي الذي تسعى كل مؤسسات الدولة التونسية الى الارتقاء به الى مستوى الحدث والمراهنة على أن يكون محطة لاستقطاب كبار المستثمرين دولاً ومؤسسات وأفراداً ، ومن المفترض أن يكون قانون المالية وأحكامه وإجراءاته عوامل جاذبة للإستثمار لا طاردة له ،لكن عديد الخبراء بمن في ذلك المقربين من الحكومة وأحزابها فضلا عن قيادات منظمة الأعراف لا يشاركون الحكومة توجهها ويلفتون انتباهها إلى أن إجراءاتها تتناقض مع أهدافها .
وحتى نقف على مدى مصداقية هذه الأحكام وتلك المخاوف والهواجس من الضروري عرض أهم ملامح الميزانية وتقديم الإشكاليات التي تثيرها ومواقف أحزاب الإئتلاف والمعارضة وكذلك المنظمات المهنية منها.
معطيات الميزانية …وإجراءات ضد الأهداف:
لن نجد أفضل من وزيرة المالية لمياء الزريبي لتشخيص الوضع الإقتصادي الذي تم على أساسه إعداد الميزانية وقانون المالية بدءًا بحكومة حبيب الصيد السابقة ووصولا لحكومة يوسف الشاهد الحالية . وزيرة المالية أكدت أن الوضع صعب ويبعث على الانشغال ،فنسب النمو خلال السنوات الأخيرة ضعيفة ودائما أدنى من التوقعات المبرمجة ونسبة الاستثمار انخفضت خلال السنة الجارية بــ19 بالمائة مع انخفاض الإدخار بــ8 نقاط وتفاقم عجز الميزانية والتراجع الهيكلي لمداخيل النفط ( تراجع بـــ123 مليون دينار) والتراجع الهيكلي لمداخيل الفسفاط والسياحة والفلاحة، وعرجت على الصعوبات التي تعرفها المؤسسات العمومية حيث تراجعت مرابيحها بــ 292 مليون دينار . كما تفاقمت المديونية وارتفع حجم كتلة الأجور إلى أكثر من 60 بالمائة من المداخيل الجبائية وحوالي 14 بالمائة من إجمالي الناتج الوطني الخام . كل هذه المعطيات المرقمة جعلت من هامش تحرك الحكومة محدودا وضيّقا .
ورغم هذا التشخيص السلبي بل القاتم لم تنزع الحكومة نَحْو التقشف بل قامت بالترفيع في الميزانية المخصصة للعام القادم لتصل إلى 33400 مليون دينار أي بزيادة بنسبة 11 بالمائة وبواقع 3300 مليون دينار مقارنة بالميزانية المبرمجة للسنة الحالية.هذه الزيادة في الميزانية تعتبر الأرفع من حيث القيمة في تاريخ تونس منذ الإستقلال إلى الآن ، وهو ما جعل بعض الخبراء على غرار الأستاذ الجامعي والمدير السابق لمركز الدراسات الإقتصادية والإجتماعية الحكومي رضا شكندالي يصفون هذه السياسة الحكومية بغير الرشيدة وغير المعقولة ، واعتبروا أن الترفيع في الميزانية غير ذي جدوى ، من ذلك أنه لا معنى لبرمجة حوالي 6 مليارات دينار للتنمية في حين أن السقف الأقصى لقدرة الدولة على استهلاك مخصصات التنمية لا يمكن أن يتجاوز الــ 4800 مليون دينار في أحسن الحالات .
حكومة الشاهد وضعت فرضية نسبة نمو بـــ 2,5 بالمائة والحال أنه خلال السنتين الأخيرتين لم يتجاوز النمو نسبة الواحد وبعض الأعشار ولا توجد أية مؤشرات يمكن الإعتماد عليها لتحقيق النسبة المفترضة مما يجعلها غير واقعية،ولذلك من غير المستبعد الاضطرار لتخفيض سقف التوقعات على غرار السنوات السابقة . مع الإشارة إلى أن المخطط الخماسي توقع نسبة نمو بـــ 4 بالمائة خلال السنة القادمة ، وهنا نجد أنفسنا في تعارض وتضارب جديد بين ما رسمته الدولة من أهداف في المخطط وما حددته في مشروع الميزانية .
من الأرقام أو المعطيات ذات الدلالة في مشروع الميزانية إعتماد فرضية متوسط سعر برميل النفط بــ 50 دولارا أي بالسعر المتداول حالياً مما سيؤدي حتما إلى عجز إضافي عند تسجيل إي ارتفاع في أسعار البترول، إضافة إلى إعتماد فرضية سعر صرف الدينار مقابل الدولار بـــ 2,250 وهي فرضية لم تراع نسق الانهيار الكبير لقيمة الدينار التونسي خلال الأشهر الخمسة الأخيرة .
الحكومة برمجت للسنة القادمة زيادة في المحاصيل الجبائية بحوالي 3 مليار دينار في حين أن النتائج المسجلة إلى الآن تؤكد تراجعا مقارنة بالتقديرات ( برمجة تطور بــ 11,4 للمداخيل الجبائية في حين أن التطور الفعلي لم يتجاوز الـــ 1,9 بالمائة ) ، وعليه يمكن الإستنتاج بكل يسر أن السلطة التنفيذية لم تستخلص العبر من الواقع وأنها ستجني ذات ثمار السنوات العجاف خاصة وأنها لم توفر شروط إمكان تحسين المداخيل الجبائية على غرار إصلاح إدارة الجباية وتعزيزها بالموارد البشرية .
وسعيا منها للتقليص في نسق تطور كتلة الأجور ،ضمّنت الحكومة مشروع قانون المالية قرارا بتأجيل صرف الزيادات العامة أو الخصوصية في الأجور المبرمجة السنة القادمة إلى سنة 2019 مما سيحصرها( اي كتلة الاجور)في 13700 مليون دينار ،وبهذا الإجراء ت ستتمكن الدولة من ادخار ما لايقل عن ألف مليون دينار ،لكن إتحاد الشغالين رفض أن يدفع العمال فاتورة ما اعتبره سوء تخطيط الدولة وتخبطها، وبذلك تجد الحكومة نفسها في مأزق الخيار بين الحفاظ على التوازنات المالية أو الحفاظ على السلم الإجتماعية.
حال الحكومة مع اتحاد الأعراف لم يكن بأفضل من حالها مع الشغالين واتحادهم . فلتعبئة موارد إضافية للميزانية اقترح قانون المالية فرض ضريبة استثنائية على المؤسسات بنسبة 7,5 بالمائة من أجل تحصيل مبلغ ألف مليون دينار ، وقد كان الرد بأن في ذلك تكبيلاً للمؤسسات وإثقالاً لكاهلها وجعلها تعزف عن الاستثمار ولو بالتوسعة فضلا عن بعث رسالة سلبية للمستثمرين قبيل انعقاد المؤتمر الدولي الخاص بهم .
هذا الإجراء حصد نقد خبراء الحكومة قبل غيرهم ، من ذلك ما جاء على لسان فيصل دربال مستشار رئيس الحكومة للمالية والجباية الذي اعتبر أن فرض هذه الجباية الاستثنائية سيحد من طلبات الاستثمار وسيكون عائقا دون تحقيق نسبة النمو المفترضة . ذات الموقف عبر عنه الوزير الأسبق للاستثمار والقيادي بحركة النهضة رياض بالطيب مضيفا بأن القرار ان تمت المصادقة عليه سيتسبب في انحسار عملية خلق مواطن شغل جديدة . وهكذا يشهد ” الأهل” على الثغرات والنقائص وعلى أن الإجراءات تتناقض مع الأهداف ، فإذا كان الوضع كذلك فأي معنى لحكومة الوحدة الوطنية وللإسناد الحزبي للحكومة ؟
مجرد هشاشة الإسناد الحزبي أم أزمة حكومة وحكم ؟
تكفي المتابعة اليومية لتصريحات قادة الأحزاب المؤلفة للحكومة حتى نقف ليس فقط على تباينات ليست باليسيرة في المواقف بل وكذلك على وضع إشكالي للحكومة والأحزاب في آن واحد . فالحكومة برئاسة يوسف الشاهد تبحث عن دعم سياسي من الأحزاب المشكِّلة لها وكأنها تتحدث عن كيانات سياسية لا علاقة عضوية ومؤسساتية وهيكلية بها ، وأحزاب الإئتلاف بقدر ما تعمل على عدم ترك الحكومة بلا سند في مواجهة عموم المواطنين والمنظمات المهنية بقدر محاولتها النأي بنفسها عن الأضرار المُحتملة التي قد يلحقه بها مشروع قانون موازنة العام القادم والَّذي لم تساهم في إعداده ولم تكن فاعلة في تحديد سياساته وخياراته الكبرى فضلا عن إجراءاته البالغ عددها أربع وخمسون .
مثل هذا الوضع الإشكالي والقٓلِقِ يكشف في الظاهر ضعف السند الحزبي وهشاشة الإئتلاف ، ولكن في الحقيقة يُؤشّر على ما هو أخطر وأعمق و يتمثل في أزمة حقيقية للحكومة وإدارة الحكم . فالعلاقة بين الحكومة ومكوناتها الحزبية على وجه الخصوص لا تحكمها أرضية عمل مؤسساتي مشترك ولا آليات تنسيق واضحة مما يجعل هذه الكيانات السياسية بحكم الواقع – ومشروع قانون المالية أحد الأدلة – ليست شريكة في القرار ولكنها شريكة في المسؤولية .
ولتأكيد ما ذهبنا إليه سنقوم بتقديم عينات من تصريحات قيادات من أحزاب الإئتلاف الحاكم ومواقفهم . فعندما نستمع إلى الفاضل بن عمران الرئيس السابق لكتلة حزب نداء تونس البرلمانية أي حزب الرؤساء الثلاثة للدولة والحكومة والبرلمان ونقده للخيارات التي تضمّنها مشروع قانون المالية ووصفها بعدم الواقعية وأنها ستثير إشكاليات جديدة وتبعات خطيرة نتساءل ماذا ترك القيادي في الحزب الأساسي في الحكم للمعارضة .
ونظرًا للوضع الخاص الذي يعيشه نداء تونس كحزب من صراعات وانشقاقات وتباينات في المواقف سواء في الأطر الحزبية البحتة أو في الكتلة التي لحقتها شظايا الإنشطار، فإننا لم نلمس اهتماما خاصا بمشروع قانون المالية ماعدا ندوة تم خلالها التعبير عن دعم الحكومة في خياراتها، وهنا من المشروع التساؤل هل أن ذلك الموقف يعبّر عن الحزب ككل أو عن بعض تمظهراته .
أما حزب حركة النهضة فقرر تأجيل القول الفصل والنهائي له إلى دورة خاصة لمجلس الشورى ،وهو ما يشير إلى أمرين أولهما أن الحزب صاحب العدد الأرفع في المقاعد البرلمانية لم يكن شريكا في إعداد الميزانية وثانيهما وعيه بالانعكاسات المُحتملة لقانون المالية على صورته كحزب في علاقة بالناخبين وعموم المواطنين وفي علاقة أيضا بالمنظمات النقابية والمهنية وما يمكن أن ينجر عنه من ردود فعل قد تمس من الاستقرار السياسي والاجتماعي ، فصعوبات الانتقال الاقتصادي لا ينبغي أن تكون لها آثار مجرورة وربما ناسفة لمكاسب الإنتقال السياسي .
النهضة ، رغم ذلك، عبّرت عن موافقتها من مشروع الميزانية في خطوطه العريضة حيث دعا قياديوها إلى تقاسم التضحيات أو ما أسماه النائب البرلماني سليم بسباس بتعاقد تاريخي قوامه تبادل الالتزامات بين الحكومة واتحادي الشغالين والأعراف ، في حين دعا رئيس الحزب راشد الغنوشي الجميع إلى ترجمة قبولهم بتقديم التضحيات عبر التخلّي عن منطق ” الأنفس الشحّ ” بالمعنى القرآني والتحلّي بمنطق ” حِمْل الجماعة ريش” بالمنطق الشعبي التونسي وتأكيده على أن العقل التونسي الذي صنع ثورة سلمية وأبدع مفهوم التوافق السياسي وجسّده غير عاجز عن إيجاد حلول على قاعدة التوافق الاقتصادي . علما وأن هذه المواقف لم تمنع خبراء النهضة الاقتصاديين من انتقاد عدم واقعية بعض الفرضيات وعدم التلاؤم بين الإجراءات والأهداف .
أما حزب آفاق تونس الشريك الثالث في الحكومة فقد دعا على لسان القيادي هشام بن فضل- وهوأحد خبرائه الإقتصاديين -إلى الحذر من الانعكاسات السلبية لهذا القانون محذرا من موجة احتجاجات إذا تم تبنيه وتمريره ومن اختلال التوازنات المالية إن تم تعديله. والحل عند حزب آفاق تونس ليس ادخال بعض التعديلات وإنما تغيير منوال التنمية برمّته في اتجاه تكريس الخيار الليبرالي الحقيقي بتخلّي الدولة عن الانتاج في القطاع التنافسي وبيع عدد من المؤسسات العمومية والتخلص من عبئها وتحرير المبادرة .
ولم يخرج موقف الحزب الجمهوري كذلك عن هذا المنحى ، فالتوجه العام نقدي والحل عنده عقد جلسات حوار ومفاوضات بين الأحزاب والمنظمات الموقّعة على وثيقة قرطاج التي انبثقت عنها الحكومة لإعادة النظر في الميزانية وإيجاد حلول توافقية.وهنا من حقّنا التساؤل مجدّدا عّما تركته أحزاب الحكم لأحزاب المعارضة؟
أحزاب المعارضة والتهرئة في انتظار الانتخابات:
يمكن القول بكثير من الإطمئنان أنّ الحكومة قد أهدت المعارضة صَيْدًا سهلا. وبغض النظر عن مدى معقولية مبررات واعتذاريات الإئتلاف الحكومي وبغض النظر كذلك عن الضرورات أو مايسمى بالإكراهات ، فإنه من حق أحزاب المعارضة دستوريا وسياسيا أن تُمارس دورها النقدي قبل أن تتقمّص دور قوة الاقتراح .
القول الجامع والخيط الرابط بين جلّ مواقف المعارضين أحزاباً وشخصيات يتمحور حول ثلاث نقاط ،الأولى أن الحكومة لا تمتلك رؤية شاملة لإخراج البلاد من الأزمة ولذلك عجزت عن تقديم البدائل للخروج منها واكتفت في أحسن الحالات بإدارتها( اي الأزمة) ، والثانية أن أغلب الإجراءات الجبائية والمالية تعتبر خضوعاً لإملاءات صندوق النقد الدولي وغيرها من القوى والمنظمات الدولية وقبولًا بانتهاك السيادة الوطنية مما سينتج عنه مزيد تفقير الشعب واهتراء الطبقة الوسطى ، والثالثة أن الحكومة ضربت عرض الحائط مبدأ الشراكة في اتخاذ القرار ليس مع الأحزاب فقط وإنما كذلك مع المنظمات الوطنية حيث أعدّت مشروع الميزانية خلف الأبواب الموصدة للإدارة .
الجبهة الشعبية باعتبارها الكتلة البرلمانية الأكبر في المعارضة حذرت في أكثر من تصريح لقياداتها من الآثار الكارثية إجتماعيا لتمرير مشروع قانون المالية . فالإجراءات في مجملها تتميز بأنها عبارة عن وصفة من صندوق النقد الدولي وتنفيذ لرسالة الضمانات التي وجهها شَهْر ماي الماضي كل من سليم شاكر وزير المالية في حكومة الحبيب الصيد السابقة والشاذلي العياري محافظ البنك المركزي إلى صندوق النقد والتي تضمنت تعهدات بالتقليص في كتلة الأجور والتوقف عن الانتداب في الوظيفة العمومية وعدم تعويض المتقاعدين والشروع في خوصصة بعض المؤسسات العمومية . والنتيجة المزدوجة لهذه الإجراءات هي مزيد الخضوع للخارج ومزيد منسوب الاحتقان الاجتماعي في الطبقتين الفقيرة والوسطى واحتمالات تطورها الى احتجاجات تمسّ الاستقرار .
الجبهة قدَّمت حزمة من البدائل والمقترحات على لسان أبرز قياداتها من بينهم حمة الهمامي وأحمد الصديق على غرار تعبئة الموارد الجبائية المهملة وغير المستخلصة من كبار رجال الأعمال أي مقاومة التهرّب الضريبي ، إضافة إلى مقاومة التهريب والمهربين ،ومكافحة الفساد ، وتبنّي خيار تأجيل دفع الديون إلى حين التدقيق فيها . وعلى هذا الأساس يمكن الخروج من الأزمة بإمكاناتنا الذاتية ودون أن نلحق الأضرار بالطبقات الضعيفة . كما أكدت الجبهة أنها لن تكتفي بالنقد الكلي للمشروع بل لها تصورات واقتراحات حول مجمل الفصول .
أما حراك تونس الإرادة بقيادة محمد منصف المرزوقي فقط اعتبر أن مشروع القانون يتميز بغياب الرؤية وعدم الإستجابة للتحديات الكبرى إضافة إلى أنه يُثقل كاهل الطبقات الوسطى ويضاعف مخاطر الإنكماش والتداين الخارجي ، كما اتهم الحكومة بتجاهل مقترحات الأطراف الإجتماعية والسياسية.
حزب التيار الديمقراطي لم يخرج عن هذه الدائرة من التقييم والقول ، من ذلك أن أمينه العام غازي الشواشي ووصف المشروع بالهزيل ودعا رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى الإستقالة إذا لم يقع تمرير القانون بصيغته الأصلية ، وحجته في ذلك أنه على رئيس الحكومة تحمل مسؤوليته عند الفشل نافيا عن الحكومة صفة الوحدة الوطنية. مجمل هذه العينات من المواقف تتقاطع في جزء كبير منها مع مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض القطاعات المهنية ، وهو ما يعطي للمعارضة قوة ارتكاز كبرى.
” حزب الإدارة ً” لحبيب الصيد وتفخيخ وثيقة قرطاج وحكومتها:
يمكن الاكتفاء في مسألة مواقف المنظمات الوطنية النقابية للشغالين ورجال الأعمال وكذلك المهن الحرة من مشروع قانون المالية واستتباعاته بالتطرق إلى مسألة فقط وهي تجميد الزيادة المبرمجة في الأجور وتأجيلها سنتين . فقد نصّ مشروع قانون المالية على تأجيل الزيادات في الأجور والزيادات الخصوصية والمنح المبرمجة للسنة القادمة إلى سنة 2019 وذلك من أجل تخفيف العبء عن الميزانية بواقع ألف مليون دينار والتخفيض من كتلة الأجور إلى ما دون الــ 14 بالمائة تنفيذا لتعهدات والتزامات الحكومة السابقة التي ترأسها الحبيب الصيد مع صندوق النقد الدولي .
نفس الحكومة التي تعهدت في ماي 2016 للمؤسسة النقدية الكبرى بالتقليص من كتلة الأجور ضمن حزمة موصوفة بالإصلاحات كانت قدأمضت اتفاقا مع الإتحاد العام التونسي للشغل حول زيادات في أجور الموظفين العموميين تمتد على ثلاث سنوات وذلك لضمان سلم اجتماعية كشرط إمكان لمزيد جذب الإستثمارات وتوفير مناخ أفضل للتنمية. ومعلوم أن حكومة الصيد تكونت من تحالف أربعة أحزاب لكن التنسيق بينها كان ضعيفا ليس فقط بسبب أزمة حزب النداء وعدم تناغم التوجهات بين الرباعي ، وإنما كذلك بسبب تمسك رئيس الحكومة السابق بصلاحياته وانكبابه على تقوية ما أطلق عليه الملاحظون اسم ” حزب الإدارة” .
وإذا أخذنا بعين الإعتبار نتائج سياساته ( وتقييم السياسة ينبني على النتائج) نخلص بيسر إلى التناقض الكبير بين الإلتزام الداخلي والتعهد الخارجي ، وهنا علينا أن نضع الإصبع على أصل الداء اليوم وهو في نظري أزمة الحكم وإدارته وليس مجرد أزمة حكومية عابرة. فكما أشرنا أعلاه إلى ملامح أزمة الحكومة الآن مع حكومة الشاهد فإنه علينا الإقرار بأزمة الحكم في عهد الصيد والمتمثلة في ضعف الأحزاب الساندة ( وليس ضعف المساندة) وعجزها عن أن تضطلع بدورها الأساسي في اتخاذ القرار ورضائها بدور التابع والمتحمل للمسؤولية في ذات الوقت . وتكشف تلك الأزمة كذلك أكذوبة” حزب الإدارة” التي أراد من خلالها رئيس الحكومة السابق أن يتموضع سياسيا رغم سجله الصفر في هذا المجال فكان إخفاقه في مكمن استقوائه( بالطبع للإخفاق عوامل أخرى).
إن مقاربة قانون المالية وتحديدا قرار تجميد الأجور من الزاوية التي طرحناها يعطي لموقف الاتحاد العام التونسي للشغل معقولية كبرى ، فأصل الأزمة ليس سوء الوضع الإقتصادي ولكن سوء إدارته بل والتسبب في انحداره إلى هذا السُّوء . فنحن نريد تسليط الضوء على أزمة الحكم وإشكالية الحكم وأدواته وآلياته ومدى كفاءة القائمين على السلطة التنفيذية ،أما قسط مسؤولية هذه المنظمة النقابية أو المهنية أو تلك تعتبر مسألة أخرى جديرة بمبحث مستقل .
إن تمسّك اتحاد الشغل بموقفه الرافض لبعض إجراءات مشروع قانون المالية مبني على مبررات وحجج عديدة من بينها عدم تحميل الأجراء إخفاقات سوء إدارة الملف الاقتصادي وعجز الدولة عن جمع الجباية من المتهربين من كبار رجال الأعمال والتزاماتها الذاتية مع المؤسسات الدولية المانحة ، كما تتمسك المنظمة الشغيلة بوثيقة قرطاج التي على أساسها انبثقت الحكومة والتي أكدت على البعد التشاركي في اتخاذ القرار وعلى تحسين المقدرة الشرائية للمواطن ،لكن يبدو أن الوثيقة مفخخة قبل الإعداد ومنتهكة خلال التجسيد ، وهو ما يحتّم العودة إلى ذات الطاولة والنظر في ذات الوثيقة إيمانا بأن الحوار هو المدخل للحل .
الخاتمة :
إن المكسب الأكبر من الجدل الحاصل اليوم حول مشروع قانون المالية ( في الواقع هذا الجدل الموسمي عمره ثلاث سنوات) هو خروج ملف التصرف في ميزانية الدولة جمعاً وإنفاقاً من كواليس المكاتب وقبة البرلمان إلى موضوع جدل مجتمعي بإمتياز . هذا التطور يمهّد الساحة السياسية التونسية إلى اقتحام معركة الانتقال الاقتصادي بصراعاته وتجاذباته ، كما يفتح المجال أمام ذات الساحة لخروج الأحزاب من دائرة الصراع الايديولوجي الى دائرة التنافس حول البرامج .
تلك بعض الآثار الجانبية الإيجابية لمشروع قانون المالية رغم علاّته التي تعترف بها الحكومة ومسانديها قبل معارضيها ، لكن استثمار تلك ” الفائدة” يتطلّب توفير مناخ من الاستقرار والسلم الإجتماعية . وهذا الأمر اي السلم لا يمكن أن يتوفّر إلا بحسن إدارة الأزمة التي طفت على السطح إثر الكشف عن مشروع الميزانية ويثبت أننا أمام أزمة عابرة وليس أزمة حكم ، فالحكومة الحالية أمام امتحان أحد مآلاته تثبيت نفسها أو الدخول في دوامة قد تعيدنا إلى مربعات من المفترض أنّ البلاد قد تجاوزتها.
المصدر: مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية