
ما من شك أن الثورة الجزائريّة مثّلت ولا تزال أحد أهم الثورات في تاريخ البشرية جمعاء، سواء على مستوى البرنامج (بيان فاتح نوفمبر) أو تركيبة القيادة (التي أطلقت الثورة) أو موازين القوى ليلة الاندلاع، وحتّ ى سيرورة هذه «الثورة» من يوم انطلاقها إلى حين إعلان وقف إطلاق النار إثر مفاوضات «إفيان» الشهيرة.
طبعت هذه الثورة، سواء أثناء مسارها أو إثر انتصارها مجمل «الشخصيّة» الجزائرية، ممّا أسس «واقعا جزائريا» يقوم على قاعدتين:
أوّلا: شعور بما هي «العظمة» (التي يبلغ حد الشوفونية أحيانا) جعلت الشعب بأكمله يحس أو يعيش حالة من «الفردانية»، تظهر أثناء المحطات الهامة، مثل «كرة القدم»…
ثانيا: غياب «فكرة الزعيم» (الأوحد) كما هو في دول الجوار، بين «المجاهد الأكبر» وكذلك «صانع التغيير» في تونس مقابل «جلالة الملك» في المغرب.
هذا الواقع الجزائري منذ اندلاع الثورة ولّد نوعا من «الثقة بالذات» ترسخت بل تطوّرت أثناء «العشرية السوداء»، أي تلك «القدرة» على «الانطلاق» من الصفر أوّلا وثانيا (وهذا الأهم ) «انجاز المعجزات» ومن ثمة قلب المعادلة (مهما كانت الصعاب).
هذا الاحساس بما هو «الفخر» وكذلك «الحماسة» قاد ويقود إلى نوع من «الاسترخاء» وكذلك «الطمأنينة» سوى إلى قدرة «الجزائري» (الفرد في بعده الرمزي والجامع) وكذلك في قدرة «المؤسسة» (جيش التحرير في الماضي وكذلك الجيش الشعبي الوطني راهنا)، ليس فقط على قلب المعادلة بل كذلك على «صنع المعجزات» (دائما)…
يعود نوفمبر هذه السنة والجزائر محط أخطار معلنة وكذلك مكشوفة، أولها ما تشهده الحدود من أقصاها إلى أقصاها، من توتّر يتراوح بين «الجامد» مع المغرب إلى «الساخن» مع مالي، وصولا إلى الحدود مع تونس أو العلاقات مع هذا البلد (الشقيق) الحسنة بل الأخويّة (في الظاهر) مقابل توتّر شديد (في الواقع).
دفعت الجزائر على مدى العشرية السوداء ربع مليون بين قتيل وجريح ومفقود، لكنّها «ربحت» ما عجز عنه الجيران وكذلك مجمل الساحة العربية، المتراوحة بين «ثورات» (لم تنجح في معظمها) مقابل حالات من «ترقّب» الانفجار:
أوّلا: أقنعت هذه العشرية المؤلمة والتي أسالت شلالا من الدماء بما هي «عبثية» الحروب (الأهلية)، ومن ثمة يأتي مفهوم «الثورة» (في نسخة (ما يسمى) «الربيع العربي») مثيرة للكثير من «الريبة» بل الخوف وحتّى الاشمئزاز والتقزز.
ثانيا: غياب «تراث الزعيم» (الأوحد) جعل مفهوم «السلطة» في الجزائر «مجردا» (بالمفهومين الذهني والفلسفي)، ومن ثمّة تأسست شعارات «الرفض» (من الأقصى إلى الأقصى) على «فعل السلطة» وليس «شخصية رمز» كما جدّ في كامل الدول التي شهدت (ما يسمى) «الربيع العربي»….
ثالثا: تحوّ ل «الإرهاب» (ضمن جميع صوره) أو بالأحرى انحداره، من «مشروع سياسي» كما هو قائم في المشرق، حين قامت لهذا الإرهاب «دولة»، إلى مجرّد «مشروع انتقامي» (في الجزائر) قادر على «تجسيد العنف» ومن ثمّة «احداث خسائر» لكن عاجز (وهنا الأهمية) على اسقاط السلطة وهدم الدولة، أو حتّى ازعاجها، بما في ذلك عجزه عن تحصيل «حاضنة شعبية» (في حدها الأدنى).
تحوّل الجزائر إلى «حالة خاصّة» في علاقة بالتهديد الارهابي، أوجد ذلك «الاطمئنان» المبالغ فيه (أحيانًا)، بل هو اليقين بالقدرة (قدرة الجيش والمخابرات) على «صنع المعجزات»…
أزمة الجزائر حقا سياسية، بل هي أزمة «فكر سياسي»، أي ذلك الاطمئنان الكلّي والكامل «الاستقرار القائم»، أشبه بعلاقة «الجنين» بالأم، من عجز الطبقة السياسية (الأحزاب والشخصيات) الانفصال عن «الدولة» وكذلك حاجة هذه «الدولة» (العميقة) ليس للسيطرة على هذه الأحزاب والتحكم فيها، بل في اللعب بها أشبه ما تفعل «يد» (خفيّة) بما أمامها من «قطع شطرنج» ذات استعمال واحد.
لا حاجة للسؤال عن «حياة سياسية» خارج «رحم السلطة» مع استثناء «أحزاب العقوق» التي هي الأخرى لا هوى لها سوى «محاربة» الدولة أشبه بما يفعل دون كيشوت، لكن هذا «الواقع» الذي أمّن «استقرارا» بلغ «العنف» (الشديد) أحيانًا، لم يعد قادرا، ليس فقط على «ضمان الاستقرار» بل تأمين الحد الأدنى من «فرحة الحياة» لسببين:
أوّلا: جيل (ثورة) نوفمبر، بصدد مغادرة السلطة، وهو الجيل الذي أسس لعملية «وضع اليد» المتراوحة بين العلنية والخفاء، على كامل الطبقة السياسية والحياة السياسية بصفة أعم، وهي «غريزة» تكوّنت وتأصلت وترسخت أثناء «حرب التحرير» وما تلاها من «حكم مركزي» وإن كان «متسربًا» بين مراكز عدة وشخصيات عديدة.
ثانيا: لم تعد المخاطر «استعمارية» (في شكلها التقليدي)، ولم تعد كذلك «ارهابية» (في شكلها التقليدي)، بل هي ومزيج من «حروب استعمارية» ذات «غطاء ارهابي»، اختار ساحته من لعب على «العمق الشعبي الجزائري» وكذلك «عمليات» (ارهابية) نوعية…
يكمن الرهان في الجزائر (راهنا) في إعادة صياغة الطبقة السياسية وكذلك مجمل الآليات الحاكمة للفعل السياسي، بما يضمن انتقال «سلس» وفي الآن ذاته «صاحب فاعلية ومردود» على المستويين الاجتماعي (بمعنى الاستقرار) ومن قبله «الاقتصادي» (بمعنى الرخاء للجميع)…
هو رهان حقيقي، صعب وشديد الأهمية، حين يمكن فهم «جيل نوفمبر» الذي لا يريد في الآن ذاته «التفريط» في الجزائر التي يراها «ملكا له» وكذلك لا يريد أن يبدل من «عقلية الحكم»، لكن وجب التأكيد في تجاوز للأحزاب وكذلك للشخوص وحتّى الأجيال، استحالة أن تسير «تسير القافلة» (في المستقبل) وفق «برمجيات» قديمة، ربّما تكون ذات فاعليّة في زمانها، لكنّها عاجزة بل ذات مردود عكسي راهنا…
وجب على الجميع أن يعي في الجزائر أنّ «عقدة الحكم» تكمن في قراءة مشهد المخاطر متراوحا بين (ما يسمّى) «داعش» مقابل «على نفسها جنت براقش»….
المصدر: الجدل