
منصف السليتي :
يحظى مشروع ميزانية الدولة لسنة 2017 باهتمام كبير وبشعبية غير عادية ولا حديث هذه الأيام إلا على هذا المشروع وكثر الجدل والضجيج حول هذه المسألة حتى من الذين ليست لهم لا دراية ولا معرفة لا بالميزانية ولا بالاقتصاد ولا بصندوق النقد الدولي ولا بالتوازنات المالية ولا بآي أمر من هذا القبيل وأصبحت لهم فتاوى في هذه المسائل مع ان هذا المشروع تضمن عدة إجراءات وإصلاحات جبائية تتعلق باسترجاع نسق النمو عبر دفع الاستثمار والتشجيع على المبادرة الخاصة ومقاومة التهرب الجبائي والعديد من القرارات المتعلقة بتوسيع الأداءات ورفعها على الشركات ويمكن لحكومة يوسف الشاهد بان تتباهى بأنها الوحيدة التى جعلت من هذه المسالة التقنية الفنية مسالة تناقشها وتتابعها وتهتم بها ليس فقط اجزاء من النخب والقطاعات المهنية والموظفين الذين يهمهم الامر بشكل مباشر بل حتى جمهور الفايسبوك و الجمهور الواسع أصبح يتابع ما يقال ويدلو بدلوه في القراءات والمقاربات المتفاعلة والشارحة و المفسرة لمشروع الميزانية في انتظار النيران الصديقة والغير صديقة تحت قبة البرلمان و الحقيقة انه أمر مفيد وجميل ان يهتم المواطن بالشأن العام ويتابعه و وله الحق في النقد والمراجعة و المشاركة في أعطاء رأيه و تصويب المسار وفي المقابل الحكومة مدعوة للترفيع في منسوب الاتصال والتواصل والرد للتفاعل مع الرأي العام و لمواكبة هذا الحراك السياسي و الإعلامي والاقتصادي.
ودخول الإتحاد بمختلف مؤسساته وهياكله على الخط في عدم قبوله “بتأجيل الزيادات الواردة في اتفاقات والصادرة بالرائد الرسمي اعطى لهذه العملية بعدا شعبيا وعمقا جما هريا أضف اليه الحراك “المتميز” الذي تنتجه اصحاب المهن الحرة وخاصة المحامون في رفضهم للإجراءات التي تضمنها مشروع قانون المالية بما اقره من توظيف معلوم جبائي على كل أعمالهم من قضايا وعقود يحررونها وإلزام الأطباء بواجب التنصيص على معرفهم الجبائي في كل الوثائق المتعلقة بالعلاج إلى جانب الزام المصحات بالتنصيص صراحة على المعرّف الجبائي ضمن الفواتير على كل العلميات الداخلة في الخدمات الصحية.
و لسنا بصدد التطرق الى مشروع الميزانية ككل-فالبعض قال انه صيغ بصفة محاسبية وهو بلا روح وهزيل والبعض الأخر قال بأنه يفتقد الى رؤية للمستقبل ويفتقر الى نظرة سياسية شاملة ورأيا ثالثا يعتبره غير مستوعب لمستجدات المشهد الاجتماعي والحراك المجتمعي ومقتضيات العدالة الاجتماعية وقد يكون كل ذالك صحيحا وقد يكون جزء من ذالك غير مخالف كثيرا للحقيقة لكن ليس هذا محور حديثنا في هذا السياق بل نريد ان نهتم بجانب واحد وهو تقاسم أعباء الجباية بين كل المواطنين ودفع الضرائب المستحقة ولا بد ان نتفق على ان هذه المسألة لازالت لم ترتقي الى حد الآن الى مستوى الاقتناع التام والإجماع فكلنا يدرك بان البيروقراطية المخيمة والفساد الشائع وراء إحجام شرائح واسعة من المجتمع عن دفع الضرائب و تشجعهم على الاحتيال عليها…والمسألة ليست فنية او تقنية فاذا وجد اتفاق سياسي على تمشي عام يدعم مسلك الدولة في تطبيق جباية عادلة لا يتحمل وزرها الأجراء وعموم الشعب فقط فستوجد الحلول المناسبة لهذا التمشي ويتم تنزيلها بيسر عند التطبيق ولذالك لا بد ان يتم تشجيع حكومة الشاهد ومساندتها -وهو امرا يتطلب الكثير من الشجاعة وسعة الصدر –على السير في في هذا الاتجاه الداعم للخيارات المحتضنة لمقومات المواطنة والعيش المشترك و للمزيد من النجاعة والعدالة في توزيع الثروة وفي تثبيت وتنفيذ جباية متوازنة، ولا بد من الإدراك والوعي لدى الفئات المهنية في تونس بان الضريبة واجب وأنها ضرورية لحياة الدولة واستقامة التوازنات المالية العامة مع الوعي بان كل هذا الأمر له تأثير محدود إذا لم يسترجع الاقتصاد بصفة عامة عافيته ونموه..
والحكومة مدعوة في هذا السياق الى استنباط اجراءات وصيغ وأنماط عملية مفهومة ومقبولة من الجميع بعد ان تكون أمنت لها على الاقل مع المنظمات الممضية على وثيقة قرطاج و التحالف الحزبي المكون لها الحد الأدنى من الدعم السياسي ففي الهند عندما وجد رئيس الوزراء الجديد المنتخب في سنة 2014 السيد نارندرا مودي 2.5 بالمائة فقط من السكان يدفعون الضرائب من مجموع مليار ومائتي مليون نسمة أدرك ان هناك اخلالات عديدة في تقاسم أعباء الضرائب وأخذ مجموعة من القرارات من جملتها اعفاء المتهربين من الضرائب من سداد الديون السابقة والإعلان عن ارصدتهم الحقيقية والقيام بدفع الضرائب الحالية المستحقة عليهم و عند انتهاء المهلة المحددة لهم بأربعة أشهر لتسوية ملفاتهم : حدثت مفاجأة. ذلك أن 64275 شخصا أعلنوا عن ثرواتهم الحقيقة التى لم يكن معلنا عنها من قبل. وقدرت تلك الأصول بمبلغ يعادل 9.8مليار دولار وكانت له انعكاسات ايجابية على ميزانية التنمية فهذا اجراء واضح ومبسط وطبق بشكل نزيه وعام
فلا بد من مراعاة مصلحة البلاد والتسلح بالوعي التام وتحمل المسؤولية :كاملة وعدم زرع الياس والإحباط والتشوهات والندوب والنظرة العدمية في كل ما تنتجه الحكومة ونشر خيارات اخرى مسكونة بشرور كثيرة لا هى فى مصلحة السلطة ولا هى فى مصلحة الوطن ومن المفروض ان ترتفع أصوات العقلاء بعدما حجبها ضجيج أصوات المزايدين الذين تصدروا المشهد وأصبحت أصواتهم مرتفعة وجدالهم أبلغ ضررا في غلق اية افق لاحتمالات الإصلاح السياسي والاقتصادي في بلادنا.
المصدر: صفحة الكاتب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: نشر المقال بجريدة الشارع المغاربي بتاريخ بت24 اكتوبر 2016