تحاليلتونس

تونس: حتى لا تموت السياسة …

123-94

 

بو عجيلة حبيب : 

 

عندما نتأمل الصراعات الدائرة في  المشهد السياسي التونسي  الحالي لا نكاد نعثر على “السياسة” إلا نادرا.

 و السياسة بالمعنى “الاصطلاحي المعاصر”للكلمة هي:

الجُملة السياسية المكونة لمفردات مشروع  وطني قابل للفهم يجيب على الأسئلة الكبرى للمواطن حول سبل انجاح الانتقال الديمقراطي و مقاومة الفساد و بلورة منوال تنمية وطنية جديد و يؤسس لاستقلال القرار الوطني في دولة جديدة تنهي مع منظومة الفساد و الاستبداد .
كما تعني السياسة ايضا في مجتمع طامح للنهوض القدرة على صناعة “القدوة” أو “الزعامة” المعبئة حول ذلك المشروع بشكل يسمح بإعادة الثقة في الطبقة السياسية و انتقاء المواطن لمن يريد من قيادات يقف وراءها من أجل حلم جماعي بعيدا عن التمترس  “طائفيا” فقط على “قاعدة الضد” أو في مواجهة هذا الخصم او ذاك .
ان المشروع و الزعامات الحاملة لتلك المشروع هي التي تسمح  بنشأة “الأحزاب”  كأشكال تنظم معاصرة  لعدد من المواطنين المؤمنين برؤى مشتركة  يقترحونها على الناخبين كبرامج ممكنة لإدارة الدولة في جو من الصراع الديمقراطي السلمي .

سياسة التغالب بلا مشاريع …

تبدو السياسة في بعض بلدان “الربيع  العربي المهدور” صراع “قوى” عبر وسائل عنيفة  اثر اندلاع حروب  مدمرة على السلطة عبر توظيف رهيب  للغرائز الدينية و المذهبية و الطائفية و عبر تدخل فج و خطير للقوى و المخابرات و الجيوش الأجنبية دون أن يتمكن المواطن البسيط من تمييز هذه القوى المتناحرة بمشاريع “وطنية متمايزة”.

ورغم نجاة من هذا المصير بفضل حكمة بعض القوى السياسية التي تجنبت الذهاب الى المواجهات العنيفة إلا أن غياب “الصراع الديمقراطي” على مشاريع واضحة و بدائل متكاملة يُلجئ عددا من القوى الفاعلة في المشهد السياسي الى وسائل العنف الرمزي في الصراع حيث “تتغالب” اليوم أحزاب عديدة لا بما تقترحه من مشاريع بل بما تحوزه من قدرة على “توظيف” أجهزة الدولة في مواجهة  خصومها و بما تملكه  من مال رهيب توظفه في شراء الذمم  و تشغيل أدوات الدعاية المسماة إعلاما .

ان الصراع السياسي في تونس لم يستقر منذ سنوات ما بعد على قاعدة صراع المشاريع بل على قاعدة كسر متبادل للعظم وصل أحيانا الى تخوم الدم وهو ما جعل التسويات نفسها بين القوى المتصارعة لا تتم على أساس الالتقاء الطوعي على مشاريع وطنية و تقاسم أفكار مشتركة بل على اكراهات و التقاءات اضطرارية غامضة قوامها  المداورات و المقايضات دون أن يتمكن المواطن من التمييز بين الاحزاب  أو الائتلافات من خلال برامجها و مشاريعها و مدى نجاحها في ادارة شؤونه  و هو ما لا يجعل  الجمهور معنيا بالانخراط “الروحي” و “الرمزي” في “خيارات القوى السياسية” الا بقدر ما يتم إكراهه أو إغراؤه بالوسائل أعلاه لأنه لا يرى اصلا مشاريع يتعبأ حولها طوعيا كما كان في مراحل “التحرير الوطني” أو “بناء دولة الاستقلال” أو كما حدث ذلك منذ عقد و نيف في دول أمريكا اللاتينية أو شرق آسيا التي أنجزت مشاريع انتقالها المعاصر بزعامات و مشاريع و أحزاب كبرى.

ان أخطر ما أصاب السياسة في بلادنا الطامحة الى انتقال سياسي و اقتصادي و ثقافي يؤسس للدولة الوطنية و الديمقراطية و الاجتماعية المنشودة هو تحولها الى مجرد “مناورات قوى” و “مغالبات تموقع” و استقواء فئوي متبادل بلا مشاريع .

 انكشاف الفراغ …

حمل الصراع الذي عرفته البلاد بعد الانتخابات التأسيسية الاولى غداة الثورة  عنوان الصراع بين جبهة الانقاذ التي اصرت على صفتها “الديمقراطية التقدمية” و قوى و انصارها التي اطلقت على نفسها صفة الشرعية و التمسك بآلية الانتخاب في مواجهة الانقلاب و نسب اليها خصومها صفة الرجعية و تهديد “مدنية” الدولة و “نمط ” المجتمع و هو ما كان يوهم بأن الأمر يتعلق فعلا بصراع “مشاريع”.

لكن و بعد جريان مياه كثيرة في أنهار الحوار الوطني ثم انتخابات 2014 و تصدع جبهة الانقاذ و النداء و تكاشُف “الشقوق” ثبت ان اعتبار الصراع سابقا بين “تقدميين و رجعيين” او بين “وطنيين و عملاء” في المطلق أو بين “أكفاء” و “هواة”  كان مجرد فخ او تكتيك اعتمده الخط السائد في جبهة الانقاذ و هو خط المتضررين من الثورة ممن لم يكونوا أصحاب مشروع جديد لوضعه على طاولة التنافس فاعتمدوا الاستقطاب لتفريق صف القوى الجديدة من يسار و وسط و يمين و التي تفرقت بين الانقاذ و الترويكا و عجزت في الحقيقة عن ادارة خلافاتها و بناء وحدتها الوطنية نظرا لاختراقات او خلافات و توجسات ايديولوجية موروثة و تخطيط ماهر من قوى مخابراتية لعبت على الجهتين.

بعد انكشاف الحقيقة منذ سنتين تمت مراجعات لدى هذا الطرف او ذاك و لاشك ان قوى الترويكا قد شهدت نصيب الاسد في هذه  المراجعات و قد ذهبت النهضة الحزب الأكبر في الترويكا الى حدود الشراكة مع خصمها السابق بقطع النظر عن مبررات هذا القبول.

كتب انصار عديدون للشرعية في نقد طبيعة الصراع و غموض برامجه و في سوء اداء بعض مسؤولي الترويكا في احزابهم و حكمهم و سوء تقديرهم للأوضاع الاقليمية و الدولية  ما يبين أن الصراع في السنوات الماضية لم يكن كما زعم البعض بين ديمقراطيين و رجعيين او بين ملائكة و مجرمين بل انه كان صراعا صنعته بالأساس قوى معادية للانتقال الثوري الديمقراطي و خاضه مخطئون من الجهتين كان بإمكانهم حسن ادارة الاختلاف لو توفر متشبعون برؤية استراتيجية وطنية متعمقة في فكر وحدة الكتلة التاريخية العربية على مشروع تحرر ديمقراطي وطني بدأ اسلاميون و قوميون و يساريون عرب في بلورته قبل ،،ايام الربيع العربي،،و لكن تم اجهاضه و التراجع عليه بمجرد بدايات الربيع في تونس ليستعيد العالم العربي اردأ مظاهر صراع الايديولوجيات الميتة و ابشع المذهبيات و الطائفيات القاتلة.

الغريب ان القوى الديمقراطية حقا و اليسارية فعلا و التي وظفتها قوى الردة التي كيفت و جيرت مكاسب جبهة الانقاذ لنفسها و اقصتهم تصر الى حد الآن على عدم الاعتراف بهذه الحقائق و تواصل اعادة نفس السردية و تجريم كل من انحاز الى الشرعية و رفض الانقلاب الانقاذي

في اللحظات الراهنة التي يتجه فيها الفرز الى استعادة حقيقته في مواجهة الفاسدين و بقايا الاستبداد يصر ،،يساريون،،و ،،ديمقراطيون،،و ،،تقدميون،،على الاضطلاع بوظيفة قطع الطريق امام كل التئام وطني واسع و يتطوعون من اجل استعادة استقطابات الانقاذ و الترويكا و تفويت الفرصة على التونسيين للارتقاء بالصراع السياسي الى صراع المشاريع و البدائل و بناء التوافقات حول المشروع الوطني المنشود لإنقاذ البلاد فعلا لا زعما من أعداء الديمقراطية و لوبيات الفساد .

كيف نبني السياسة ؟

لا شك أن لا بديل للسياسيين الوطنيين في الأحزاب المختلفة إلا التفكير في سبل الدفع بالمشهد السياسي الى أن يصبح صراعا بين مشاريع و أفكار و بدائل متكاملة من أجل بناء السياسة الفعلية التي قتلتها عقود من الاستبداد و التفرد بالرأي . و لكن لابد ايضا من الوعي بصعوبات حقيقية تواجه هذه الرغبة البناءة  نُجملها في مشكلتين اساسيتين :
أولا: انهيار الطبقة الوسطى باعتبار أن “السياسة” هي “مشروع” أو “ايديولوجيا الطبقات الوسطى” تماما مثلما أن “الحاجة الى الفلسفة هي حاجة الرغبات المشبعة” .ان مجتمعا تنهار طبقته الوسطى تتحول فيه  السياسة الى  “شغل لوبيات” من طبقات أثرياء طفيلية نشأت بفضل الدولة الاستبدادية الزبائنية سابقا و استولت بعد الثورة على ساحة الفعل السياسي و الاعلامي  عبر “تعبئة” “البروليتاريا الرثة”  من المحرومين و المحتاجين و عبر تعبئة  “المتضررين من الثورة” من اعلاميي و مثقفي  المنظومة القديمة حول مشاريع “تحيل” تمتلك قدرات مالية و دعائية دون حاجة الى مشاريع “شاملة” ترقى الى مستوى “العقائد المعبئة على أهداف وطنية مشتركة ” و هو ما سماه الفيلسوف “آلان دونو” بحكم الرثاثة.و لا سبيل الى الخلاص من هذا الخطر الا بمزيد مراجعة القوانين المنظمة للحياة السياسية و الاعلام بتحصينها من أموال الفاسدين و مؤامرات اللوبيات حتى لا يبقى في المشهد إلا من ينافس بمشاريع و بدائل .

ثانيا: ضمور السيادة الوطنية في عصور العولمة و بروز سياسة “تصنيع” رموز و مشاريع و أحداث و أحزاب في  الدول المُولى عليها بما في ذلك تصنيع الصراعات و انتاج “صناع الرأي و قادته” في مجال الاعلام و السياسة اعتمادا على ما يسمى  برامج “التنمية السياسية” التي تقررها مراكز الدراسات الاستراتيجية و صناديق النفوذ السياسي العالمي للقوى الدولية المتصارعة على بلداننا عبر برامج  “التكوين “و “التنمية البشرية” و نقل “خبرات الانتقال الديمقراطي” مما يحول الساحة السياسية الى صراع “تكنوقراط مهرة” أذكياء يحسنون خوض العمليات الانتخابية و الانتصار على الخصم بقطع النظر عن المشروع الذي يتشابه عادة لدى جميع المتنافسين باعتباره قد تم توريده معلبا للتنافس حول “تطبيقه” بين “الخريجين المحليين” لمدارس “التكوين الدولي. و لا سبيل الى حماية الساحة السياسية من “المناولة الدولية” إلا بتشديد الرقابة المجتمعية على استقلالية الأحزاب و الشخصيات السياسية تجاه كل التدخلات و المحاور الدولية المتربصة بشعوبنا و اختراق نخبنا .”

 

المصدر: “الشاهد” 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق