
أحمد قعلول:
يطلق وصف التكفيريين على فئة من الإسلاميين الذين يعتبرون أن الاختلاف في العقيدة يشرع لقتل المختلف. وعادة ما تصدر هذه المجموعات أحكام بالتكفير على الأفراد أو الجماعات وربما لمجتمعات لإكساء مشروعية دينية على العنف والإرهاب الذي يمارسونه.
وهنا يمكن القول أن عملية التكفير هي في النهاية تشريع للقتل بحسب طريقة تفكير هؤلاء ورؤيتهم للكون. تلتقي هذه الفئة من المسلمين مع فئتين أخريين أو منظومتين للتفكير تبدوان مختلفتين من حيث العناوين إلا أنها تلتقي على نفس الأرضية، وأقصد هنا منظومة التفكير الكنسي ولا أقصد هنا الديانة المسيحية بل المنظومة الكنسية التي تطورت في إطار المسيحية التي بنتها الإمبراطورية الرومانية ضمن مسار تحريفي للجهد الإصلاحي والتجديدي الذي قام به سيدنا المسيح عليه السلام، ومن وراء هذه المنظومة التحريفية منظومة التفكير اللائكي ولا أقول العلماني.
وذلك أن الكنيسة طورت مفهوم “الحرب المقدسة” بينما طورت المنظومة اللائكية منظومة “الإستعمار” ومفهوما عنصريا للعقلانية والحضارة والذي على أساسهما تشرع الكنيسة لنفسها وأتباعها قتل المختلفين وتكسي قدسية على عمليات الذبح كما تشرع المنظومة اللائكية قدسية وشرعية على عمليات القتل التي تقترفها على الشعوب “الغير متحضرة والعنيفة (بحسب منظورها)” وذلك من أجل إحلال السلم والحضارة وربما الديمقراطية والحقوق الكونية إلى غير ذلك من القدسيات المحرفة في إطار الامبراطوريات الجديدة.
كل هذه المنظومات الثلاثة تلتقي على أرضية استباحة القتل على أرضية الإختلاف الفكري والعقائدي ومن هنا فإن أولى الأحكام أو“الفتاوى” المطلوب استصدارها من قبل هؤلاء هي فتاوى التكفير، فليس هناك فرق إذا بين فتاوى التكفير الداعشي وفتاوى التكفير الكنسي وفتاوى التكفير الحداثوي فكلها في النهاية تشريع للقتل.
يختلف الإسلام عن هذه المنظومات في مسألة مهمة بخصوص الإذن بالتشريع للاعتداء على النفس البشرية التي هي نفس مقدسة في ذاتها والتي هي ملك خاص لله، إذ كل الأحكام المشرعة للقتل الفردي أو للتقاتل الجماعي تعتبر الأعمال سببا لها فالقاتل يقتل في الإسلام والظالم يقاتل ويمكن أن يقتل
(وهنا من المهم الانتباه لكون لفظ الدين المتعلق بهذه السياقات في القرآن لا يستعمل في الغالب المطلق للدلالة على هيمنة العقيدة بل للتدليل على هيمنة السلطان).
يحتكر الله في الإسلام شرعية إكساء الإيمان والكفر كما يحتكر شرعية السلطان على قلوب الناس، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية تعتبر الفتنة التي هي السعي للإكراه في مجال العقيدة مشرعة للحرب، ففتنة الناس في عقائدهم مجرم في الإسلام كما أن حرية الإعتقاد مضمونة فيه، وهو الأمر الذي دفع القرآن في خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من أنصار المدينة رضوان الله عيهم، لما أرادوا استعادة أبنائهم الذين ربوهم عند يهود المدينة وإخراجهم من اليهودية للإسلام للإعلان عن قاعدة عامة في قوله تعالى: ” لا إكراه في الدين”.
وفي هذا السياق فإن الذين يسعون لتشريع قتل الدواعش من خلال البحث عن استخراج الفتاوى في تكفيرهم لا يختلفون عنهم في الحقيقة.
إن الرد الذي قدمه الشيخ راشد الغنوشي في الحوار الذي أريد منه توريطه في ممارسة دور الفتوى، الفتوى بالتكفير وبالتالي التشريع للقتل، هو رد أصيل ضمن منظومة الإسلام التي تعتبر أن العقاب من حجم الجرم المقترف وأن العقيدة وحريتها مكفولة في الإسلام وفي دستور البلاد فلا يقتل الرجل بسبب عقيدته ولا يضيق عليه بسببها فهذا حق مطلق لله وهي مجال الحرية المطلقة التي ركزها الله في أصل الخلق.
لا شك أن الحرب ضد الدواعش حرب شرعية وأن قتالهم واجب ولكن ذلك لا يعود للأفراد ولا للجماعات بل لولاة الأمر أي الدولةبمنظومتها القانونية وترسانتها التشريعية.
ما هي الصورة التي يريدها هؤلاء للشيخ راشد؟
هم يريدون منه أن يكون أحد أمرين:
فهو إما أن يكون تكفيريا، ورئيسا لحزب ديني بحسب فهمهم الكنسي للدين، أو أن يكون إرهابيا.
وعليه فلو كانت إجابته بالتكفير فهو تكفيري ورئيس حزب ديني وإن امتنع عن التكفير فهو إرهابي.
والشيخ راشد رئيس لحزب مدني يعتمد الإسلام مرجعية وأرضية له والإسلام كدين هو في جوهره دين مدني ولذلك اعتبرته الكنيسة دينا دنيويا أو علمانيا، كونه يميز بين المجال الفردي والمجال الجماعي وبين المجال الاعتقادي ومجال المعاملات والعبادات.
هناك نوعان من التكفيريين عندنا في تونس وهم في النهاية يعملون على مشروع حرب أهلية “مقدسة” تحمل فيها الصلبان لصلب المسيح أي الشعب التونسي. جزء من هذه الفئة يحملون صليب الحداثة واللائكية والجزء الآخر يحملون صليب الدين أو لنقل الإسلام المحرف.
إن المشروع الذي يحمله الشيخ راشد الغنوشي ومن وراءه حركة النهضة هو مشروع دين مدني يقوم على مبدإ العدالة والمساواة والمدنية وعلى مبدإ قدسية النفس البشرية وقدسية مجال الاعتقاد وتحريم وتجريم الاعتداء عليه.
فالذي يعتدي على عقائد الناس مجرم والذي يعتدي على أنفس الناس مجرم.
وإن الآخذ على يد هؤلاء هو ولي الأمر أي الدولة ولا حق للأفراد ولا للجماعات في هذا المجال كما أن الحكم في هذا المجال لا يكون بالفتوى بل من خلال مؤسسات إقامة القسط والمساواة أي القضاء والعدالة.
المصدر: ” T24″