
أمين عثمان:(*)
…إن ما يتحدثون عنه ليس مشروعا في الحقيقة، بل هو نوع من ضدّ المشروع لأنه يمثّل حالة نكوصية تردّ على تحديات العصر بإرادة الظهر لها واستدعاء أشباح الماضي لتبرر بها موقفها السلبي هذا. وبديهي أن العودة إلى الماضي ليست بريئة ولا محايدة، مطلقا، بل هي عودة بعيون وأهواء ورغبات قوى سياسية واجتماعية في الحاضر لا تريد للحاضر أن يكون كامل الحضور وصحيح الهيئة والمضمون. لذلك تستعين عليه بأشباح الماضي مضى ولا يمكن استحضاره، فإنّ ما ينتجونه بدلا منه هو نسخة مشوّهة من الحاضر ينسبونها زورا وبهتانا إلى الماضي.
و يجدر بنا هنا القول إنّ المسألة ليست كلها نتاجا محليا بحتا، بل ثمّة آياد خارجية ساهمت بإنتاجها، ولتأكيد كلامنا هذا، نذكر بالأحضان التي نشأت فيها المجموعات التكفيرية وترعرعت في سبعينات القرن الماضي في أفغانستان وبالأيادي التي رعتها وحدبت عليها وتعهدتها التي حوّلت ذلك البلد الصديق من دولة نامية إلى دولة فاشلة. ونذكّر، كذلك بمن احتضن المجموعات التكفيرية في يوغسلافيا السابقة إلى أن ساهمت بتحويلها من بلد كبير مستقل إلى أشلاء متناثرة؟ مثلما نذكّر، أيضا، بمن رعى التكفيريين وساندهم في سوريا وليبيا وسواهما؟
هذا، في الواقع حلف موضوعي ثابت (كثيرا ما أصبح مباشرا ومعلنا) مثلما كانت الحالة في أفغانستان، ويوغسلافيا، وسوريا(الآن). فعدا عن الأهداف السياسية الآنية والتفصيلية المشبوهة، التي تحققها المجموعات التكفيرية، بقصد أو بغير قصد، لمصلحة الاستعمار والاستغلال والهيمنة، من خلال الحروب الكثيرة التي خاضتها وتخوضها بالوكالة عن تلك القوى، فإنّ أفضل ما تحقق لها أيضا هو تشويه وعي الشعوب لعربية بالأفكار الظلامية والاتهامات السطحية، كي تصبح أمتنا في غيبوبة تامة عن العصر والحضارة، وتنحرف عن المطالبة بحقوقها الأساسية في التحرر الوطني والحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. ولذلك، فالمشروع الظلامي الذي تتبنّاه هذه الجماعات هو بالفعل مثلما وصفه سمير أمين قبل عقدين من الزمان (مشروع انتحار أمّة أو نحرها). وأكبر دليل على ذلك، هو مشهد الخراب والويلات والمآسي والكوارث الماثل أمامنا الآن، وفوقه إشاعة الخطاب الطائفي المذهبي البغيض الذي إذا قيض له الوصول إلى خواتيمه الطبيعية فسيؤدي إلى تقسيم الأمة إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل، لينتهي وجودها كأمة وتصبح مجرد مجموعات متناحرة من السنّة والشيعة والعلويين والمسلمين والمسيحيين… الخ. والأسوأ أن أصحاب هذه الدعوات الذميمة ما عادوا يستحيون فيستترون وهم يقترفونها. بل أصبحوا ينفثونها علنا وبالفم الملآن. وكما أنه لم يعد نادرا أن نرى أشخاصا موتورين يتنادون علنا، الى قتل مواطنيهم (بمسمّى الجهاد) لمجرد أنّهم يختلفون معهم في الرأي أو المعتقد أو الدين أو المذهب. وتؤجج هذه النوازع الغريزية البدائية (فتاوى دينية غير مسؤولة وغير نزيهة). وليس مصادفة أن يحدث هذا كله في الوقت الذي أصبحت فيه إسرائيل تتحدث علنا عن تحويل كيانها الغاصب إلى كيان يهودي خالص، وتطالب دول العالم بالاعتراف بحقها الشرعي بالقيام بذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الباحث الإسرائيلي ”شاحاك” كان قد كشف في أواخر سبعينات القرن الماضي، تفاصيل خطة أعدتها الدوائر الحاكمة في إسرائيل لتفتيت الدول العربية المحيطة بها إلى دويلات مذهبية وطائفية صغيرة لكي تكون الدولة الطائفية الأكبر بينها.
أليس ما يجري تنفيذه هو-الآن-باسم الإسلام والمسلمين؟وهنا أيضا لا يملك المرء إلاّ ان يعود الى الماضي القريب (قبل ستّ سنوات أو سبع فقط). ليتذكّر كيف شرعت بعض الدوائر الاستعمارية والصهيونية بالحديث، علنا، عن ضرورة خلق انقسام مذهبي (سني شيعي) لحرف المشاعر العربية عن وجهتها الصحيحة إلى إسرائيل ورعاتها، وإعادة توجيهها لتكون بين العرب أنفسهم، بل وبين مختلف شعوب المنطقة، فيما عدا إسرائيل طبعا. ومن نسي هذا أو لا يعرفه، فإنّه يستطيع أن يعرفه، عبر الشبكة العنكبوتية والى استيفاء الأخبار والدراسات والتحليلات وفي الصحف والمنابر الإعلامية المختلفة، لكي ينعش ذاكرته ويعرف مواضع رأسه وقدميه.
عوامل الدعم والمعاضدة لتنامي الكيان التكفيري وتضخّمه في جسد الأمة: في السنوات الأخيرة، أحكمت جماعات متطرفة قبضتها على المنابر العامة مستخدمة شعارات التهييج العاطفي والتكفير، وسخّرت فهمها الضيق للدين والعرق ووّجهت تفسيرات النصوص المقدسة حسب أهوائها ومطامعها ، وحققت بذلك نموّا مطّردا واكتسبت أتباعا في جميع أنحاء العالم، خاصة بين فئات الشباب وصار انتشارها يقاس بمدى انتشار التفسيرات الخلافية للحقوق والواجبات ، وللمقدّس وغير المقدس، وكلما تشددت هذه التفسيرات وتطرّفت المواقف أكثر، واضطربت المجتمعات، زادت الصراعات.
والمثير للقلق، مع ذلك، هو عدم استجابة مؤسسات التوجيه المعروفة لما يهدّد سلامة المجتمعات وقيم العيش المشترك فيها، وبطئها في العمل على نشر قيم الوسطية والاعتدال لمواجهة حركات التشدد والغلوّ والتطرف، عنصرية سياسية أو دينية كانت، التي تنحدر بالمجتمعات إلى ثقافة التكفير والعنف الفوضوي والتّفتّت والتجزئة والخراب الشامل. وهذا ما يلقي على كاهل كل العقلاء والحكماء مسؤولية المساهمة في كبح جماح كل ما يتّصل بالتوّجهات المعادية للعقلانية والفهم الصحيح لمنطق العيش مع الاختلاف، ولجمال الوحدة مع لتنوّع، ولرسالة الأديان الداعية إلى سلام والمحبة بين الناس، جميع الناس. وهنا يتردد علينا السؤال الذي ظلّ يشغل عقول لكثيرين ردحا من الزمان. كيف يمكن أن نتأكد من أنّ جراحات المجتمعات العربية الإسلامية لا تستمر أكثر ممّا كانت ألاّ تبقى حالة الفوضى مسألة مفتوحة؟ وقد لا تتأتّى لنا الإجابة بكامل متطلباتها الآن، إلاّ أنّنا مضطرون عاجلا أم آجلا، إلى الدخول في حوار عقلاني وموضوعي جاد مع أنفسنا ومع الآخر المتفلت المستمر والمغالي المتطرف، لأخذهم بالحسنى إلى جادة الصواب، مع التأكد من العدالة والمساواة هي الالتزام السائد، وهي ديدن الحكم الرشيد في مجتمعاتنا. ورغم أنّ الحوار ليس أداة من أدوات المتطرف المعتادة، الأمر الذي يوجب الصبر والأناة، مثلما يوجب اليقظة والمراقبة لمكر مرتقب قد يدبّر بليل وفي غفلة من أمرنا من قبل بعض الجماعات المتطرفة التي يمكن أن تعصف بمكاسبنا المجتمعية والحضارية وتحصد تراكمات من جهود تأسيسية مرتسمة من الأمدية البعيدة. وعلى مؤسسات الدولة التعامل المقنع، سمة واستيعابا، مع القوى المشاركة حتى لا يكون التضييق والإقصاء سببا في زيادة وتائر التوتر وتفاقم حدّة الحساسيات السلبية.
ملاحظة:
نريد أن نسوقها وهي أنّ جلّ الدول العربية الإسلامية إلاّ ما ندر لم تقدّر حق التقدير خطورة المسألة الدينية ومدى تأثيرها على النجاح في إدارة الشأن العام، فالدين في مجتمعاتنا العربية الموسومة بالتديّن هو الذي يحقق الأمن الروحي فيها والإمام الخطيب هو قائد ديني على ثغر من أهم الثغور يساهم في استتباب الأمن والدفاع عن البيضة. إنّ تدّني الحالة الاجتماعية والمادية للإمام هي التي قد تجعله جزءا من توتير الأزمة لا جزءا من الحل فقد يستحيل لسان حال من يمنحه المال ويفسح له فرصة العيش المرفّه. ثمّ إنّ انتساب وزارة الشؤون الدينية للحكومة يجعل الدين مطيّة يتصرف فيه ويطوّع ثوابته كل حزب سياسي أو من يقف وراءه من أصحاب المصالح الاقتصادية أو الفئوية أو الحزبية الضيّقة بمجرد اعتلائه سدّة الحكم. لذلك لا بدّ أن تظلّ المؤسسة القائمة على رعاية هذا الشأن قائمة على حماية ثوابت البلد وخياراته التي اتفق عليها أهل العلم منذ قديم الزمان وتفاعل معها الخلق وصارت جزءا من المعيش اليومي.
نذر الصراع:
إن التعاطي النفعي مع مسألة التنوع المذهبي والديني والعرقي، أو الطائفي أو الاثني جعلنا نعيش اليوم حالة من التكفير والصراع والتجييش العاطفي، الذي يستنزف الطاقات العربية والإسلامية، ويشيع البغضاء والإقصاء، في امتداد فصولنا الأربعة. واليقين الراسخ هو أن صراع، عرقيا كان أم دينيا، ليس قدرا محتوما ولا حتمية تاريخية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إذ أن الإرادة الواعية والعقل الحصيف قادر على معرفة القضايا الكبرى، التي تتخفّى وراء ظلال التكفير والتجييش العاطفي للمشاعر المنحرفة. ولكن مع ذلك لابدّ ن المراجعة والتقييم، اللذان يعدّان من الضروريات الأساسية للمراجعات والقرارات الصائبة لكل مجتمع يبحث عن السلم والاستقرار. ومن أهم تلك المراجعات إعادة النظر في المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا، ومدى اتساقها مع التنوع الديني والعرقي والثقافي الراهن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وعلاقتها بوجودنا الجمعي ضمن الأسرة الإنسانية. لهذا لا بدّ من الحثّ على فكرة التعايش، لأن الاختلافات بين الناس ظلّت موجودة قبل الصراع وبعده، ولم تكن حال الناس ساكنة عند حدث معيّن ومثل كل البيئات الاجتماعية، فإن بيئتنا العربية الإسلامية إنّما تجدّد كيانها بمستوى التفاعل بين مكوناتها، لأن العيش المشترك يوجد في الحالات التي يوجد فيها الأفراد والمجتمعات على استعداد نشط لقبول التنوع واجتهاداته، أو ما يسمى بالتعايش النشط.
طريق السلامة:
لا بدّ لإرساء قاعدة صلبة للعيش المشترك من محاولة التوصل إلى حلول في عدة جوانب، مثل التعليم والتنمية البشرية والتنمية الاقتصادية والصحة العامة، من خلال مستويات متعددة تستوعب جهود القاعدة الشعبية السياسية. وهذا النهج الواسع والشامل أمر أساسي في عملية الانتقال من العيش المشترك وخلق السلام المستدام.
مقترح:
إننا نقترح فكرة الحوار الدائم والتواصل حول موضوع العيش المشترك، ونجيب من خلاله عن سؤال المستقبل، وينبغي أن نجدد الدعوة إلى ممارسة هذا الحوار بوصفه أداة لبناء الثقة وإقامة علاقات الصداقة والموّدة، مع احترام حدود المغايرة والاختلاف، واعتماد اللغة الهادئة والحوار الحصيف الرصين، ينبذ العنف ويرفض التطرف ويدين الإقصاء وكل أشكال التمييز، باعتبار المعيار الفصل للممارسة الديمقراطية السليمة. علما وأنّ التواصل هو الهدف الأسمى من الحوار لأنّ الآخر بوصفه طرفا أساسيا في الحوار جزءا لا يتجزأ من هوية الأنا، فهو يعني قبول الآخر، ولكن التواصل لا يقف عند هذا المعنى بل يزيد، فهو عبارة أخرى يتأسس على فكرة ”تعظيم الجوامع واحترام الفوارق”. كما يحدونا الأمل أن يعكف العلماء والمفكرون على تصويت الاجتهاد، ليؤكدوا من خلاله أهمية تجديد الخطاب الديني، والانتقال من تخويف الإنسان إلى تطمينه، ومن استعباد الإنسان إلى تحريره ومن احتقار العقل إلى تكريمه واستنفار طاقاته، ومن قداسة المباني إلى جلال المعاني، ومن شكلية الطقوس وعبادة النصوص إلى روح الإشراق والاجتهاد والتنوير وعبادة الله، تحقيقا لكرامة الإنسان ومبدأ العيش المشترك.
التكفير والتفجير:
إذا كان الفكر صحيحا سليما أنتج مردودا إيجابيا صالحا والعكس صحيح، وليس هناك فكر على وجه الأرض لا مردود له في الواقع العملي. فالتكفير على سبيل المثال لا بدّ له من مردود عملي يتبعه التفجير أو القتل سواء تمّ ذلك مباشرة أو بعد سنين، ولم يحدث في وقت من الأوقات من تاريخ المسلمين كله ان اعتنقت مجموعة أو جماعة أو فصيل فكر التكفير دون أن تقتل من تكفرهم ولعل أبرز مثال الخوارج وهم أول من اعتنقوا فكر التكفير وكفّروا كبار الصحابة سيدنا علي وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية. ولذلك لا تصاب مجموعة بلوثة التكفير إلا وقعت في العنف وقتل المسلمين والتفجيرات العشوائية، سواء عاجلا أو آجلا ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصحاب فكر التكفير قائلا:” يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان”.
ثقافة العنف والتكفير في تونس: من هي داعش؟
تعدّ السلفية التكفيرية كيانا لقيطا وظاهرة هجينة وغريبة عن المجتمع التونسي انتروبولوجيا وابستيميا ثقافيا وتاريخيا حضاريا، ولعل إلمامنا وإحاطتنا خبرا بذلك هو ما أقضّ مضاجعنا وهجّر الراحة من قلوبنا وأذهاننا على خلفية ما تتالى من أحداث عنف واعتداءات من جماعات السلفية المتشددة في الشعانبي وفي بن قردان بلغت في مأسويتها ودرجة وحشيتها ما بلغ أهل العراق على أيدي ما يسمّون أنفسهم بدولة الإسلام بالعراق والشام مختصرها (داعش) من قتل وحشي وتمثيل بأجساد العباد أحياءا وأمواتا ومن نحر لمخالفيهم في المذهب ووصفهم بالطاغوت ناهيك عن تعرضهم للتظاهرات الثقافية في تونس بل إنّ هذه الاعتداءات السافرة طالت حتى السياسيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني.
وقلنا إنّ الإرهاب نبت طفيلي غير أصيل، أراد له محرّكوه ومديروه الانغراز في جسد المجتمع التونسي عنوة وبالقوة، متجاوزين الشروط الثقافية والابسيتمولوجية للترعرع والانوجاد سبيلهم الى ذلك الدغمائية والتحجّر الفكري وانحسار دائرة الاجتهاد ومرض الكراهية للآخر. فهي فئة تجسّد فيها مستوى قول الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم:”دبّ ‘إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والله إنّي لا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين”. فالشعب التونسي يؤمن بالوسطية والاعتدال، عقيدة وشعارا أساسيا ويكرسهما، إضمارا وقولا وسلوكا. وهو مالكي لا ينتصر للملكية تعصبّا بل تفقّها ويعتقد أن الأئمة الأربعة اختلفوا في الأصول ولم يختلفوا في الفروع وغنّه لا يصحّ من باب العقل والمنطق والشرع إلغاء أصل لصالح فرع، إذ لا ينبغي لأحد أن ينكر أنّ الأخوّة الإسلامية هي أصل الأصول ومقصد المقاصد، ويعتقد كذلك أنّ من دواعي المنهجية السديدة في طلب العلم أن يدرس طالب العلم مذهب أهل بلده، والخطأ كل الخطأ، منهجيا، أن يدرس الطالب مذهبا غير مذهب أهل بلده، إذ لا يحسن بالإنسان، عقلا ومنطقا، أن يعي بيت غيره أكثر ممّا يعي بيته. ناهيك أنّ التركيبة الاجتماعية والانطروبولوجية والنفسية للعائلة التونسية تسفر عن حقيقة مفادها أنه حتى الذين لا يمارسون الدين طقسا تعبديا فليس مردّ ذلك كفرا أو إلحادا أو موقفا سلبيا من الإله بل تستطيع أن تسميّهه تهاونا أو كسلا أو عدم تعود على التعاطي مع العبادات. وللتنبيه من خطورة الوقوع في منزلق تكفير الآخرين يحضرنا هنا قول الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام فيما بلّغ عن ربّه أنّ الله تعالى ينادي يوم القيامة جبريل ويقول له: ”يا جبريل أدخلوا الجنة كل من في قلبه ذرّة من إيمان ولم يفعل خيرا قطّ”. وهذا ينبري أروع دليل على سعة رحمة المولى بعباده يوم القيامة التي جاء وصفها على لسان الأمين محمد بأنّ على قوائم العرش مكتوب: “رحمتي أوسع من غضبي” بمعنى كأننا بالمولى يريد أن يقول أنني إنّما خلقتكم لأرحمكم لا لأغضب عليكم. فما دامت ثقافة التونسيين ثقافة سلمية تجعل تونس متسعة لاستيعاب كل التونسيين على اختلاف أصولهم ونزعاتهم العقائدية والسياسية، فما هي جذور المكرّس ثقافيا وحضاريا للتعايش السلمي في تونس؟
ومن أين نشأت ثقافة التكفير وما ميكانيزمات ترعرعها وكيف أوصلت ثقافة التكفير للعنف والتفجير الذي تبدّت ملامحه من خلال تصفية بعض الرموز السياسية الموسومة باستماتتها في الدفاع عن أفكارها ورؤاها وتصوراتها السياسية والعقائدية كلّفها ذلك ما كلّفها وأيضا من خلال استهداف قوّات الجيش وقوّات الأمن الوطني ووصفهم بالطواغيت؟ وما مظاهر وتجسدات عبورية ظاهرة التكفير وترحّلها من الثقافي إلى الاجتماعي والإنساني؟
1) -الجذور الثقافية للتعايش السلمي بتونس:
لا نذيع سرا ولا نسوق جهرا إن قلنا، أولا بوجوب نقد عنوان المقالة وتفكيكه لإزالة اللبس ورفع المعمي سيميائيا، ذلك أنّه لم يأت على تونس حين من الدهر كان فيهما التكفير والعنف ثقافة الناس، ولو صح ذلك لانخرط فيها شرائح المجتمع كلها أو جلّها، وإنّ الذي حلّ ببعض شبابنا محض تغرير واستلاب، وجرّ واستقطاب. وثانيا بوسطية الشعب التونسي ونزوعه الفطري والطبيعي نحو نبذ العنف ودرء التخاصم والتناجش، ولعل ذاك عائد إلى شمول الوحدة المذهبية أي اقتفاء أثر المذهب المالكي للشعب التونسي ولبلدان الجوار فكل النزعات والمذاهب التي حاولت منذ القديم اختراق المنظومة العقدية المالكية مذ الشيعة والمدّ الصفويّ الإسماعيلي الاثني عشري كان مآلها الفشل الذريع وتحطمت أحلام حملتها والمدافعين عنها وأمالهم على صخرة الواقع التونسي، ويحق لنا أن نذكر في هذا الصدد المصلح العظيم والرجل الفذّ سيدي محرز بن خلف وكيفية تعامله مع تيّار التشيّع الهدّام وأيضا كيف كان العالم العلاّمة الإمام سحنون يطرد الفرقة الصفارية من المساجد ولا يسمح لهم بإقامة حلقات تعبئة حتى لا يترك الحبل على الغارب ولا يسمح للفئات القليلة بأن تفسد النظام العقائدي العام الذي يجري على سمته ووفق سننه الغالبية الساحقة من الشعب:
ولا يفوتنا أن نشير إلى الجذور العقلانية التي انبنت عليها المدرسة التونسية في الفقه والتفسير والعلوم الإنسانية، تلك التي نرجّح أن تكون سببا وجيها في عدم قابلية مناخ العنف والعداء والإرهاب، فلقد أسّسنا علم الاجتماع…. نعم، ابن خلدون انطلق من هنا مؤسسا لعلم الاجتماع منذ ستّة قرون، حين أكّد أنّ الإنسان مدني بطبعه. كما أنّ العلاّمة في القانون، أبو إسحاق ابن عبد الرفيع، كان أول من قنّن القانون في القضاء الإداري والجزائي، حيث يعود إلى ثمانية قرون خلت… ونضيف أنّ ابن خلدون الذي بيّن كيف أنّ العامل الجغرافي يؤثر في طبع الشخصية، أسهم هذا العامل في تكييف الوعي الجماعي التونسي بما يجعله يتقبّل الآخرين، ذلك أنّ الذي يأتي إلى تونس بالقوّة، لا يمكن له أن يستقر أو أن يفوز برضى التونسيين، أما الذي يأتيهم باللين والكلمة الطيبة فيقبلونه. ولا يحسن بنا الإغضاء وصمّ الآذان عن مقول قول الخليفة عمر بن عبد العزيز مائة سنة بعد الهجرة ”هؤلاء قوم يؤمنون بالحجّة والبرهان…وليس بقوّة السيف”. وكان ذلك عندما قاد إسماعيل ابن أبي مهاجر ومعه تسعة علماء بعثهم الخليفة إلى تونس، لأنّ كل من دخل تونس بالسيف (بقوّة السلاح) كان مصيره الحتمي السقوط والفشل، ولعلّ خير دليل على ذلك أنّ الشباب التونسي في ثورة 2011 يخيّر تسليم السلاح إلى الجيش الوطني على أعمال الانتقام والتشفّي، وهو ما يشفّ عمّا يسم هؤلاء الشباب من عقل ورويّة وحكمة.
كيف سنعالج ثقافة التكفير والعنف: ثقافة التكفير هي ثقافة خطيرة لها جذورها في البلاد ومستقبلها.
ويعتقد السلفيون الوهابيون والدواعش أنهم هم الموّحدون فقط، وهم المسلمون وأنّ سائر المسلمين مشركون لا حرمة لدمائهم وأموالهم، ويعتقدون أيضا أنّ المسلم لا تنفعه شهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ما دام يعتقد بالتبرّك بمسجد أو قبر الرسول (ص) أو يزور قبور الأئمة والأولياء ويطلب الشفاعة منهم، ويقولون ”إن المسلم الذي يعتقد بهذه الأمور مشرك وشركه أشد من شرك عبدة الأوثان، ومن اليهود والنصارى”. تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولعلها أول ثقافة فكرية شغلت المسلمين وكان لها آثارها العقلية والعملية. ولم يلبث الفكر الإسلامي أن فرغ منها، واستقر على ما عليه أهل السنّة والجماعة، لذا يجب العمل على إيجاد الحلول السياسية والاقتصادية، وحلّ مشاكل البطالة والتخفيف من الفقر، من ضرورات التركيز على تطوير التعليم وبناء القدرات الفكرية ، والحث على الإبداع والمبادرة ، وزرع روح المشاركة في صناعة القرارات في الوطن ، وتحميل الشباب المسؤولية والعمل على منظومة الأخلاق، وزرع منظومة حقوق الإنسان طبقا للنظام العام واحترام الآخر من خلال بناء الثقة بالذات وترسيخ لغة الحوار، وزرع مبادئ التسامح إلى جانب العمل على تجديد الخطاب الديني. علما وأنّ عملية تجديد الخطاب الديني أمر مستمر من أجل مواكبة الأحداث والأزمان ومن أهم الأسباب التي تبرز حاجتنا إلى هذا المطلب أولا التطور المستمر في الحياة وثانيا لتلبية حاجات الناس وثالثا حلّ المشكلات وإيجاد البدائل ورابعا وأخيرا الضعف العام لأمة الإسلام ومراجعة أخطار العولمة.
خاتمة:
وصفوة القول أنّ عديد الأطراف تقف وراء هذا المدّ الداعشي التكفيري والتفجيري من الداخل ومن الخارج،لرهانات دولية تظلّ ملك يمين الطرف المهيمن في العالم أي أمريكا وحليفتها إسرائيل.
- خصائص العقل التكفيري.
- العقل التكفيري عقل سطحي، إذ أنّ كل خلاف بينه وبين الآخرين في أمر الدين هو خلاف في العقيدة، هو كفر أو إيمان، وهو مفاصلة عقدية.
- العقل التكفيري يستكثر رحمة الله بخلقه ويضنّ بها عليهم فهو يقول في نفسه كيف يدخل هذا العاصي الجنّة معي وأنا من أنا في ممارسة الطاعات وإتيان القربات.
- إنّ محنة التكفيري الحقيقية أنّ بعضهم يظنّ نفسه بوّابا على أبواب الجنّة أو النار، يدخل من يشاء الجنّة ويخرج منها من يشاء.
- العقل التكفيري ينتمي الى ما حقيقة ما صرّح الرسول صلى الله عليه وسلّم عنهم قائلا: “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” فهم لا يعجبهم أحد يكفّرون الكل وإن لم يجدوا من يكفّروا كفّروا بعضهم.
- العقل التكفيري يمتح من الشيعة أسلوب التقيّة والمواربة، فهم يقولون إننا مالكيون ولكننا لسنا أشاعرة بينما كل الدنيا قديما وحديثا تعترف أنّ إمام دار الهجرة أشعري وسادة الدنيا وأساطينها كلهم أشاعرة.
المصدر:صوت العقل، العدد 3-سبتمبر 2016، ص 39-50.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)- باحث تونسي