
نصر الدين بن حديد:
بعد أن تأكّد التقليد الذي اتبعه رؤساء الحكومات في تونس منذ أن غادر بن علي تونس، بأن تكون الجزائر الوجهة (الخارجيّة) الأولى، يمكن الجزم (على مستوى النوايا الظاهرة) أّن تونس (أّي يوسف الشاهد) يريد أن يذهب بالعلاقات مع هذا البلد الجار مذهب التعاون أو على الأقل عدم التصعيد.
فوق ذلك أو دونه أو ربّما وراءه، تأتي تفاصيل الزيارة، سواء عّما يحمل يوسف الشاهد في جعبته من رؤى ومطالب وكذلك ما ينتظر في المقابل، دون أن ننسى ما يترقّب الطرف الجزائري وما ينتظر من الجارة تونس.
الملفات متعّددة، بل متنوّعة ومتفاوتة القيمة والتأثير والأهميّة. طفا منها على السطح «معضلة الثلاثين ديناًرا» التي تجاوزت (بكثير جّدا) بعدها «الجبائي» لتتحوّل (كما يقول المشارقة) «بيضة القبّان» التي جعلت منها الجزائر (عبر رسالة لعمامرة) «أّم المشاكل»، بل «العقدة التي يجب حلّها في الأوّل».
من هذه المسألة/المعضلة، أبدى الجزائريون تصعيًدا تدريجيا، وردّ التونسيون بوعود (صّدقها الجانب الجزائري) ليكون السؤال عن قدرة هذا «الصفاء» (الذي عقب هذه السحابة) في «تبديد السحب» الأخرى، المتراوحة (بحسب النشرة السياسيّة) بين «غيوم عابرة» إلى أخرى «سوداء قاتمة»….
طيف «الأسئلة المطروحة» على هذه الزيارة واللقاءات التي ستكون قائمة أثناء المحادثات، يقف على رأسها «هواجس» الجزائر من تحوّل «الجارة» تونس، إلى خنجر «أطلسي» في صدرها، وهو خوف يبرره لدى قيادات جزائريّة عديدة، بروتوكول التعاون مع الحلف الأطلسي وكذلك الزيارات المتبادلة بين المسؤولين التونسيين ومسؤولي هذا الحلف وأيًضا (وهذا الأخطر) ما هو معلن من «تعاون» عسكري، وما ترى الجهات الجزائريّة (العسكريّة خاصّة) أنّه غير معلن…
هناك يقين جزائري، بل هو في مرتبة العقيدة التي لا يمكن مناقشتها، بأّن يوسف الشاهد لا يمكنه حمل جميع ملفات الخلافات مع الجزائر ومناقشتها مع المسؤولين هناك. هناك ملفات «أكبر منه» (مثل التعاون العسكري مع الحلف الأطلسي) وكذلك ملفات لم يسعه الزمن للتعمق فيها، مثل «اللوبي» (داخل المنظومة التونسيّة) الذي هو (في أفضل حالات التخفيف) لن يتورع عن أّي فعل إرضاًء لهذا الحلف الأطلسي.
تعلم الجهات الجزائريّة في المقابل، أّن يوسف الشاهد رقم صعب ضمن الخارطة السياسيّة التونسيّة، رغم سيطرة الباجي وسطوة قصر قرطاج على الملفات الكبرى والخطيرة والحاسمة في العلاقات، لذلك وجب أن يلقى (على المستوى البروتوكولي) استقبالا يليق بمنصب الرجل ومكانة بلاده، وأيًضا وجب أن يعود الرجل إلى بلده بما يجعل منه أو يحوّله إلى «صديق (حقيقي) للجزائر» رغم يقين الجزائريين أّن عليهم فتح قنوات أخرى مع جهات أخرى في تونس، سواء رغبة في «الحفاظ على شعرة معاوية» أو إقناع «جبهة الرفض» (في تونس للجزائر) أّن مصلحة تونس تكمن في تحويل العلاقات مع الجزائر من مستواها الحالي إلى مرتبة «التعاون الاستراتيجي»…
هي ريبة حقيقيّة بل هو شّك (أو ظّن)، لكن في الآن ذاته، تعلم القيادات الجزائريّة وتتفق عند هذه النقطة، أّن وسائل «التأثير على تونس» تكون بتكثيف التعاون وأيًضا توطيد العلاقات، دون التخفيف من درجة الاحتياط العسكري والأمني والمخابراتي الذي يمتّد من أعلى منطقة (شمالا) من الحدود المشتركة إلى كامل الحدود مع القطر الليبي الشقيق.
في الجزائر هناك «خوف» (من بعض الجهات في تونس)، لكن كذلك «خوف على تونس». خوف تبرره حالة التراجع الاقتصادي أوّلا وكذلك التوتّر الاجتماعي دون اغفال صراع «الديكة» (السياسيين) من أجل السلطة، بل أخطر من ذلك داخلها.
العقل الذي يملك القرار في الجزائر، بقدر ما يحمل من ريبة بقدر ما يعتريه شكوك. ريبة في مآل المسار السياسي في تونس، وشكوك في قدرة الطبقة السياسيّة في المحافظة على الاستقرار وعلى وجودها. لذلك السؤال الجزائري عن «العمر الافتراضي لحكومة الشاهد» أمام الصراعات القائمة والقادمة، وكذلك (وهذا الأخطر) قدرة الرجل والمنظومة على إيفاء الوعود التي سيقطعها للجانب الجزائري…
الجانب التونسي كما الجانب الجزائري، يعيش أسئلة (متراوحة المدى) بخصوص الوضع الاقتصادي في كّل من البلدين، ومن ثّمة يطرح «المجال الاقتصادي» ما يمكن الجزم أنّه «المتنّفس» (الوحيد) القادر، على المرور (نسبيا) بتونس من حال التردي إلى حال أفضل، ومن حال «التقّشف» في الجزائري إلى حال أفضل هو الأخر.
مثّل الجانب السياحي نقطة مضيئة في العلاقات بين البلدين: تونس أّمنت لاقتصادها عدد محترما من السيّاح أصحاب القدرة الشرائيّة الممتازة (قياًسا بدول أخرى غربيّة) وكذلك استطاعت الجزائر أن تجد لمواطنيها متنفسا قادر على تجاوز «البعد السياحي» (الصرف) إلى تأمين «منفعة اقتصاديّة» لهذا الجار الذي يريد الخروج باقتصاده من حال التردّي إلى حال أفضل.
العلاقات التونسيّة الجزائريّة معادلة متعددة المستويات وكذلك ذات درجات متفاوتة، تراوًحا بين «معضلة الثلاثين ديناًرا» التي سيعلن يوسف الشاهد أنّها «ملّف مغلق» مروًرا أو هو نهاية بالقلق الجزائري من الوضع في تونس، سواء كان الخوف من التونسيين (البعض خصيًصا) أو كان الذي يستحق، أّي (كما جرت العادة) أن يعود الشاهد بقرض (دون فائض) أو بهبة. في مقابل تريد الجزائر أن تنام مطمئنة فعلا، وألاّ تستفيق «الهاجس» أن ينفرط عقد البلاد. لذلك من حّق الجانب التونسي أن يبحث عّما يحّسن به وضع البلاد والعباد، وأن يجد في الجار الجزائري المدد فجأة على سيناريو أعّدت له العّدة وحسبت له كّل حساب..
المصدر: “جدل “